لا أزعم أنني أتحدث في هذه المقالة عن معلومات سرية لا يعرفها أحد، أو سأكشف ما ظل مخبأً حبيس الردهات المغلقة؛ بل سأحاول جاهدا وضع المرهم على الجرح واليد على أدوات التمكين التي نملكها كعرب بانتماءاتنا الدينية والفكرية المتنوعة وما ينبغي مراجعته في اعتقادي. إذ إن معرفة ما نملكه وكيفية استعماله أكثر أهمية مما نفقده ونتخيل أنه بقدر أهمية ما نملك حقا.
يجب أن نذكر أنفسنا دوما بالفرق بين اليهودية والصهيونية، وبين الديانة اليهودية من حيث كونها ديانة سماوية، وبين الصهيونية من حيث كونها عقيدة سياسية تتبنى ادعاء انضوائها تحت الدين اليهودي وهو منها براء. فالمسميات في مواجهة العدو وتفكيكه جزء كبير وأوَّليٌّ في فهمه والبناء على ذلك الوعي والفهم في مواجهته. إن المثقف اليوم في موقف لا وجود للمنطقة الرمادية فيه، فإما أن ينافح بصدق عن المظلومين في بقاع الأرض باختلاف انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم، أو ستجرفه مزبلة التاريخ ولن ينال من الأماني الزائفة سوى قصور بنيت على قواعد من الرمل لا تلبث شيئا أمام عواصف الزمن واهتزازات العالم المعرفية.
مرت 1445 عاما مذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ومنذ عهد عثمان بن عفان الذي استنسخ القرآن الكريم حتى هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، لم تترجم كتب الديانة اليهودية أو تتم دراستها بشكل جيد ومكثف؛ بل على العكس من ذلك، استمر الجهل المركَّب في تحييد الدارسين لليهودية ونبذهم بأنهم على خطى التطبيع مع العدو الصهيوني! ولذلك الفعل آثار مدمرة وفاعلة تتغلغل في نفوس متوسطي الثقافة فدونها، فحينما يتحدث صهيوني عن حديث نبوي شريف أو آية قرآنية كريمة وينقدهما؛ فإن المتلقي ما لم يملك الأدوات النقدية سينجر خلف هذه الاتهامات والشُّبَه التي يلقيها العدو سواء أدرك ذلك أم لم يدرك، وستظل تلك البذرة الخبيثة باقية مختبئة تترقب النمو في الوقت والمكان المناسبين. ومما لا يخفى على عاقل، بأن الإنسان الحر يتعلم عن عدوه ليعرفه عن قرب ويعرف مكامن ضعفه ومواطن قوته ويستطيع نقد سرديته المشوهة للحقيقة، هذا في حال مواجهته لعدو نبيل يملك جزءا من الصدق؛ أما في مواجهة عدو يمثل كل ما في البشرية من سوء وشر ودناءة، فهذا أكثر وجوبا وأقوى دافعا لدراسته. فالبذور الكاذبة التي يلقيها العدو في الفضاء الرحب، قد تتلقفها أرض لم يعتن أحد بزراعتها، فاحتوت نبتة سامة وسط حقل الزهور، ولا تلبث هذه النبتة في أن تبث سمومها لجاراتها فيصبح الحقل يبابا بعدما كان خصبا بهيا.
أقرأ قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل «لا تصالح» بين فينة وأخرى، حتى في الأوقات التي استمرأنا فيها القتلى الفلسطينيين كما قبل السابع من أكتوبر، فالفلسطيني والعراقي والسوري والليبي.. وكل عربي حر نخرت بلده آلة الاستعمار المريضة؛ لا يمثل سوى رقم لدى موته. فالاعتياد على المشهد والمسامحة والرضا بالقليل من الحق -كحل تقسيم الدولتين- والوساطة التي يأتي بها بلد شقيق ليمنح العدو صك الغفران عن قتلاك؛ كلها مذكورة في قصيدة هذا الشاعر المصري العظيم. فكأنما كانت تلك القصيدة نبوءة يتردد صداها للعربي من المحيط إلى الخليج كي يعرف من هو، ويعرف عدوه ويعرف موقفه..
يقول دنقل في مقطع قصيدته «لا تصالحْ! /..ولو منحوك الذهب../.
أتُرى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما../ هل ترى..؟ /هي أشياء لا تُشترى». فما فائدة الزمرد والألماس إن استبدلناهما بأعيننا؟ وما فائدة «المساعدات الإنسانية» والمتمثلة في الغذاء بشكل رئيس في علاج المرضى وإنهاء الإبادة التي هي المصيبة الكبرى أصلا! لا يجد الإنسان الحر بدا من تدوين موقفه بصدق اليوم، فهو إن كان مؤمنا فماذا سيقول لله عز وجل حين يقف بين يديه ويسأله عما فعله في مواجهة الظلم والجور؟ وإن كان غير مؤمن، فكيف سينظر إلى نفسه بأنه صادق يناصر المظلومين وهو لم يحرك ساكنا حتى ولو بمقال تنويري أو مقطع توعوي؟ من يقف مع المظلومين، سيقف الناس معه حين يتعرض للظلم هو نفسه -وإن كنت لا أحب هذه الصيغة التي تبدو نفعية في ظاهرها، ولكنها حقيقية أخلاقيا- أما من استمرأ الظلم وتواطأ معه؛ فبأي وجه سيطلب المعونة من جيرانه حين تصطف الذئاب على باب بيته متأهبة لافتراسه؟
إن الموقف المشرف لسلطنة عمان تجاه القضية الفلسطينية العادلة وآلام إخوتنا الفلسطينيين، لهو موقف يدعو للفخر، خصوصا مع السماح للوقفات الاحتجاجية المناصرة للقضية الفلسطينية الحية، وهو انعكاس للفكر الحر القائد للبلاد. يجب أن لا نغفل ونحن على مشارف الشهر مذ بدأت عملية طوفان الأقصى أهمية الإعلام والإعلام المضاد في هذه الفترة الحرجة من التاريخ، وهو ما بينته في مقالات سابقة لهذا المقال. فالإعلام المناصر للقضية الذي يوضح حقيقة ما يحدث في غزة خصوصا وفلسطين عموما فتح عيون كثير من الناس في الغرب خصوصا وهم المغيبون عن الواقع الحقيقي جرَّاء تحكُّم الصهيونية بعدد كبير من أهم القنوات الإعلامية الأكثر شهرة في أمريكا وأوروبا مع استقطابها للمفكرين الذين ينالون شهرة واسعة في تلك البلاد، في المقابل فإن العدو الصهيوني ليس من السذاجة كي يسمح برواية واحدة للحقيقة؛ فنجد أن مواقع التواصل الاجتماعي طافحة بحسابات تبدو في ظاهرها من أهل البلاد العربية أو الإفريقية أو الغربية، ولكنها في الحقيقة جزء من الجيش الإلكتروني للاحتلال الغاشم. ومن الأفكار المنتشرة التي نجحت -للأسف في بثها الدعاية الملمعة للاحتلال- أن اليهود هم الأحق بالأرض وذلك لقدم وجود شعبهم في تلك البقعة الجغرافية من الأرض! وهذه عبارة تحتوي على مغالطتين أصلا. فاليهودية ديانة وليست قومية، أما الثانية وهي الأهم فاليهودية ليست الصهيونية بحال. ومما يؤكد هذه الحقيقة الاحتجاجات التي قام بها اليهود في أمريكا وتعريتهم لكذبة أن إسرائيل دولة لليهود وأنها تمثل اليهودية.
إذا عدنا إلى مسألة دراسة اليهودية وأهميتها، فإن كثيرا من الناس لا يعلمون أن الدعاية الصهيونية فاعلة بشكل جوهري وممنهج في أراضي الاحتلال بأضعاف ما تعمل خارجها بما يخدم المصالح السياسية لمن يقف خلف الاحتلال. فليس جميع المستوطنين على دراية حقيقية بطبيعة الكيان الغاصب الذي استوطنوا فيه، بل إن كثيرا منهم مؤمن بأحقيتهم في الأرض بناء على النصوص التوراتية التي تُجتزأ من سياقها -كما فعلت داعش تماما- بما يخدم البروباغاندا الصهيونية. وانكشف للكثيرين منهم زيف الدعاية السياسية في مقابل الحقيقة على أرض الواقع. من هذا المنطلق بالتحديد وجب مقارعة الدعاية الصهيونية بالكتاب المرجعي الذي يتم استخلاص ما ينفع مصالحها منه، بالكتاب نفسه. وهي تماما كمسألة مقارعة المؤمن للملحد؛ فكيف يُقَارن ملحد علمي -الإلحاد فلسفي وعلمي- بكتاب سماوي كالقرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة بينما هو لا يؤمن بالإله رأسا! من أراد اجتثاث النبات السام من الحقول، فلا بد لقدميه ويديه أن تتلطخا بالوحل، ولا يكفي الدعاء من بعيد في مواجهة الفعل على أرض الواقع. ولنتذكر بأن ما تفعله الصهيونية بالفلسطينيين من تنكيل؛ فعله كرومي بالعمانيين واليمنيين والعرب في ستينيات القرن الماضي في زنجبار. فالمجرمون لا دين ولا أخلاق ولا عِرق لهم، بل هو ثوب يلبسه المجرم كلما أُتيحت له الفرصة ولم يخالفه أو يقف في إجرامه أحد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی مواجهة
إقرأ أيضاً:
فلسطين الجريحة.. بين الصهيونية المسيحية وتواطؤ العرب
لماذا فلسطين بالذات دون غيرها؟
ما معنى الصهيونية، وكيف ولماذا نشأت؟
ما الفرق بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية؟
كيف تم اختراق الدين المسيحي لخدمة الفكرة الصهيونية؟
هل مساندة الغرب لإسرائيل لأسباب أيديولوجية فقط؟
أسئلة كثيرة تكشف اللثام عما يحدث، أردتُ بالإجابة عليها توضيح مع تلخيص هذه القضية الشائكة، فالوعي العميق والفهم الدقيق هو مقدمة العمل الجاد أو الحافز عليه.
أولا، كلمة الصهيونية مشتقة من اسم "جبل صهيون" في القدس، وأول من ابتكر هذا المصطلح وأطلقه عام 1890 هو الصحفي السويسري ناتان بيرنبون (1864-1936) وهو زميل تيودور هرتزل، ولكن هرتزل هو الذي قام على نشأة الحركة الصهيونية والدعوة لها.
فمن هو تيودور هرتزل؟
هو صحفي يهودي مجري نمساوي، مجري حيث ولد في بودابست عاصمة المجر سنة 1860، ونمساوي لأنه عاش في النمسا ومات فيها سنة 1904م، وأصدر كتابه "دولة اليهود" سنة 1896والذي أحدث ضجة كبيرة في أوروبا.
ولم يكن هرتزل يهوديا متدينا، بل قيل إنه كان ملحدا وفي الحد الأدنى كان علمانيا، وقد عبر عن منطلقات فكرته الرئيسة في كتابه هذا بأنه ما دام اليهود تجارا وأوروبا رأسمالية فسيتعرضون للاضطهاد بسبب المنافسة، وعليه، طالب بإنشاء دولة لليهود يعيشون فيها بشكل آمن. وعقد مؤتمره الشهير سنة 1897م في مدينة بازل في سويسرا، وقد قام بعض أصدقائه بتحفيظه بعض النصوص التوراتية لاستخدامها في المؤتمر، استدرارا لعواطف اليهود وطلبا لدعمهم. وقد استعمل هرتزل مصطلح "الصهيونية المسيحية"، وهنا تجدر الإشارة لوصف المفكر الفرنسي روجيه جارودي؛ الحركة الصهيونية بأنها حركة ملحدة تأسست على تفسير متطرف للتوراة وتبرير لحركة سياسية ليس لها أي علاقة بالدين.
وإن كان هرتزل استعمل مصطلح "الصهيونية المسيحية"، إلا أن الذي بدأ التأسيس الحقيقى لها هو الراهب المسيحي الألماني مارتن لوثر (1483-1546م). وقد أصدر كتابه الأول "المسيح ولد يهوديا" سنة 1523، حيث كان يريد إعادة الاعتبار لليهود وتمسيحهم وفقا لما يسمى العقيدة الاسترجاعية، وهي رجوع المسيح وحكمه ألف سنة سعيدة بشرط تجمع اليهود في فلسطين ودخولهم في الدين المسيحي حين عودة المسيح. وجدير بالذكر أن مارتن لوثر وبعد عشرين عاما لعن اليهود وأصدر كتابه "أكاذيب اليهود" سنة 1543م.
ولفهم فكرة مارتن لوثر وعقيدته الاسترجاعية نعود بالتاريخ للوراء قليلا، حيث كان الصراع المسيحي اليهودي في أوروبا على أشده، فقد أصدر ملك إنجلترا إدوارد الأول سنة 1290م مرسوما يقضى بدخول اليهود الدين المسيحي أو الرحيل عن الأراضي البريطانية، وكذلك فعل ملك فرنسا فيليب الأول سنة 1306م. وهنا نشأت ما يمكن تسميتها بالحركة اليهودية الباطنية ممن أعلنوا مسيحيتهم في الظاهر مع البقاء على يهوديتهم في الباطن، وظهرت باعتبارها حركة دينية مسيحية تطالب بإصلاح الكنيسة والحد من سيطرتها على المجتمع وتحتج على الأوضاع القائمة، وعُرفت هذه الحركة التي قادها الراهب الألماني مارتن لوثر بحركة "البروتستانت"، وتعني المحتجين باللاتينية.
وقد قرر الإنجليز البروتستانت هجرة أوروبا إلى الأرض المكتشفة حديثا أمريكا -والتي تم اكتشافها سنة 1492م- وخرجوا في أفواج أسموهم الحجاج بقيادة القس جون وينثروب سنة 1629م، وشبه خروجهم هربا من ظلم ملك إنجلترا بهروب بني اسرائيل من ظلم فرعون مصر، وأن بني اسرائيل أصبحوا رمزا لأي مجموعة تقاوم الطغيان. جدير بالذكر أن أكثر من 150 مليون أمريكي يعتنقون هذا المذهب ويمثلهم سياسيا الحزب الجمهوري.
وهكذا اخترقت الصهيونية الدين المسيحي بالمذهب الجديد (البروتستانت) فيما يمكن تسميته بالمسيحية المتهودة، وهي مزيج من المسيحية المزورة واليهودية المزورة يجمعهما دين واحد وكتاب واحد فيه العهد القديم والعهد الجديد معا، ويعفي اليهود من دم المسيح. وهذا ما قد يفسر وجود مسيحيين أكثر صهيونية من الإسرائيليين، حتى أن بعض من يؤمنون بما يسمى العقيدة الاسترجاعية أو العقيدة الألفية يرون أن سويسرا نجاها الرب من الحربين العالميتين بسبب احتضانها للمؤتمر الصهيوني الأول الذي أقامه هرتزل سنة 1897م، ولا تأخذك الدهشة إذن من اعتقادهم بأن أمريكا إذا تخلت عن إسرائيل فسيلغي الله مكانتها العالمية، بل صرح بعضهم بأن سبب إعصار كاترينا هو انسحاب إسرائيل من غزة سنة 2005م، وربما هذا الهَوَس الأيديولوجي هو ما يفسر هذا الدعم الغربي المطلق لإسرائيل.
ولا يفوتنا أيضا أن ننوه إلى أنه بعد مارتن لوثر بحوالي ثلاثة قرون جاء القس الإنجليزي الأيرلندي نيلسون داربي (1800- 1882م) وأكد على العقيدة الاسترجاعية أو عودة المسيح الألفية، بشرط تجمع اليهود في فلسطين، ولكن مع اعتقادهم بأن اليهود لن يدخلوا المسيحية على يد المسيح، وإنما سيكون سببا في خلاصهم وتوبتهم وعودتهم لدينهم الأصلي والذي يؤكد على أحقيتهم التوراتية في أرض فلسطين. ثم جاء وليم بلاكستون بعد داربي وتبنى وجهة نظره ونشر كتابه "المسيح آت" سنة 1887م وأسس منظمة "الإرسالية العبرية من أجل إسرائيل"، والتي أصبحت بعد ذلك الشركة المسيانية. وقد جمع وليم بلاكستون 413 توقيعا على عريضة تطالب بمنح فلسطين لليهود؛ قدمها للرئيس الأمريكي آنذاك بنيامين هاريسون (1889- 1893).
هذا عن التيار الأول في أمريكا البروتستانت أو المحتجين أو اليمين المتطرف أو الصهيونية المسيحية. ولا تنس أن الرئيس الأمريكي (الجمهوري) دونالد ترامب هو الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، تمهيدا لإنشاء هيكل سليمان المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى.
وهنا يثور التساؤل: هل هذه النظرة الأيديولوجية البروتستانتية الصهيونية المسيحية ويمثلها سياسيا الحزب الجمهوري الأمريكي هي فقط دون غيرها التي تحكم المشهد وتدعم إسرائيل دعما مطلقا؟ وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن نعلم أن الحزب الديمقراطي كان قد انشق عن الحزب الجمهوري الديمقراطي سنة 1828م، ويعتبر الحزب الديمقراطي أحد تجليات الحركة الماسونية التي بدأت في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وهذه الحركة تعتبر نفسها قائدة العالم وتتخذ شعارا لها المنقلة والزاوية، في إشارة إلى إعادة هندسة العالم وتركيعه وتطويعه وفقا لرؤيتها ومصالحها. وكلمة ماسون تعني البنّائين، وهذه الحركة علمانية استعمارية وقد انتقلت مع الحملة البريطانية إلى أمريكا الشمالية وأسست أول محفل ماسوني في أمريكا سنة 1730م في ولاية فيلادلفيا.
وقد كان عدد كبير من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أبرزهم جورج واشنطن أعضاء كبارا في الحركة الماسونية، والتي تعرف نفسها -على غير الحقيقة- بأنها حركة أخوية عالمية أهدافها المساعدة المتبادلة والصداقة وخير الناس، وهي تؤمن بحتمية إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل إن الذي تزعم عملية خلع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة 1908م هو المحامي اليهودي الماسوني عمانوئيل قرصوه، وهو الذي أسس أهم محفل ماسوني في الدولة العثمانية.
إذن ففلسطين بين مطرقة البروتستانت أو الصهيونية المسيحية التي يعتنقها الغرب المسيحي ويقودها الحزب الجمهوري الأمريكي، وترى حتمية تجمع اليهود في أرض فلسطين لعودة المسيح وحكمه ألف سنة سواء دخل اليهود في الدين المسيحي أو كان المسيح سببا في خلاصهم وتوبتهم وعودتهم لدينهم الأصلي، وسندان الحركة الماسونية الاستعمارية ويتولى كِبرَ إجرامها الحزب الديمقراطي، وترى في وجود الكيان الصهيوني في أرض فلسطين امتدادا لها وقاعدة عسكرية متقدمة لمشروعها الاستعماري في الشرق؛ لبسط هيمنتها ونفوذها والسيطرة على منابع النفط ومصادر الثروة وطرق التجارة والملاحة.
وثمة تيار ثالث يُحَمِّل اليهود مسؤولية ما يصيب مجتمعاتهم من مصائب ويعمل على إبعادهم، وهو ما تنبه إليه هرتزل في كتابه الدولة اليهودية على إثر حملات المقاطعة للبضائع اليهودية وامتلاء الشوارع بلافتات "لا تشتروا من اليهود"، بل وصل الأمر بمظاهرات في فرنسا تهتف "اقتلوا اليهود" على إثر قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، والتي استمرت من سنة 1894 حتى سنة 1906م، فهذا الفريق الثالث يدعم أيضا تجمع اليهود في فلسطين (بغرض إبعادهم والاستراحة من مشاكلهم)، فيتفق مع الفريقين الأولين؛ فريق الصهاينة المسيحيين البروتستانت المحتجين البوريتان التطهيريين، وفريق الماسون البنائين العلمانيين الاستعماريين.
ويواجه أهل فلسطين الغرب المسيحي الصهيوني وأمريكا بحزبيها الديمقراطي والجمهوري، وسط خذلان لا مثيل له من العالم الإسلامي وتواطؤ أو تآمر عربي فاق كل التصورات والتوقعات.