مرض خطير تفشى في المجتمعات يفرق الاحباب والخلان ويقطع أواصر الارحام ما اقبحه من مرض فتاك يهتك الاعراض بين البشر لما يسببه من الحقد والبغضاء والشحناء انه مرض حديث المجالس حديث الطرقات حديث البيوت أنه الغيبة وما أدراك من الغيبة قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات ـ (2).
إنّ الغيبة خصلة من خصال السوء السوداء، فهي تبرز في مجالس الناس من خلال اجتماعاتهم، يشترك فيها الرجال والنساء الصغير والكبير، خطرها كبير وعلاجها يسير، تحلق الدين حلاقًا وتنهش في أعراض الناس نهشًا خطيرًا، إنها داء عضال يهدم المجتمعات ويشحن القلوب ويفسد عرى المحبة والمودة، خصالها شاهدة في المجالس والمنتديات واللقاءات، وفي كل مكان وزمان، كم سببت من فتك استار وتلفيق وتغيير وكذب في الاخبار، مرض غزا أفراد هذه الامة الراضية بالغيبة، والفاعل والسامع جميعهم يشتركون فيها، إنها آكلة لحوم البشر وشر من عذاب ومرعى اللئام، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(أتدرون ما الغِيبة؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهَتَّه) (رواه مسلم).
والغيبة تكون لمزًا وغمزًا وهمزًا، وتكون بالرموز والاشارات بالعين والاصبع واللسان، وتكون بالفعل والقول، وتدخل الغيبة في عرض الانسان زوجه وأهله وأولاده وأرحامه وفي دنياه ودينه ولباسه وبدنه وتعامله مع البشر وكل حركة يخطوها، إنها بواعث النفوس المريضة في قدح البشر، وقد تعددت أساليب المغتاب فمنهم من يظهرها فيقول بلغة الشفقة والتحسر والحب عافانا الله وإياه أخونا فلان وإني مشفق عليه ومتحسر لما يفعل من المفاعيل وأحيانًا يأتي بها في نكهة الورع والعفاف والتدين والصلاح، فيقول عن أخوه غفر الله لنا ولفلان فيه كذا من العيوب وقد يأتي بها مغتابًا آخر في صيغة العجب والتعجب فيتساءل: كيف يفعل فلان هذه الفعلة؟.. كيف فعل هذا الشيء؟، وتتعدد صور وأحاديث المغتاب في المجالس والمنتديات وفي كل مكان، يقول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات ـ 11).
إلى من أرخى حديثه شرًّا من أشرار الغيبة والبهتان وأصبح لسانه يتحدث في كل يوم وليلة وكل ساعة يوجه سهمًا مما وجه اليه دون التأكد من صحة الخبر الذي سمعه عن أحوال الناس كيفما يشاء له من السخرية والاستهزاء معتقدًا أن حاله أحسن من حال الناس، نقول له: إلى متى التمادي في أحوال الناس من هذه الموبقات سواء كان الكلام كذبًا أو صدقًا، فعَن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال:(أتدرون مَن المفلِس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا دِرهمَ له ولا متاع، فقال: المُفلِس من أمَّتي مَن يأتي يومَ القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقدْ شَتَم هذا، وقذف هذا، وأَكَل مالَ هذا، وسَفَك دَمَ هذا، وضرَب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناتُه قبلَ أن يقضيَ ما عليه، أُخِذ من خَطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار) (أخرجه الإمام مسلم).
إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري
كاتب عماني
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
هدية من الوالي | قصة أول مسحراتي في مصر.. وأشهر من عمل بالمهنة
ارتبط شهر رمضان المبارك، بالعديد من العادات والتقاليد التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التراث الإسلامي، ومن أبرزها شخصية "المسحراتي"، الذي يجوب الشوارع ليلًا لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور قبل أذان الفجر.
مهنة المسحراتي تعود جذورها إلى فجر التاريخ الإسلامي، إذ يُعتقد أن بلال بن رباح، مؤذن الرسول، كان أول من نادى بالسحور، يعاونه عبد الله بن أم مكتوم، وكان الأول يوقظ الناس لتناول السحور، فيما ينادي الثاني بالكفّ عن الطعام عند اقتراب الفجر.
وفي مصر، تعود أقدم رواية عن ظهور المسحراتي إلى العصر العباسي، وتحديدًا عام 853 ميلادية، عندما قام والي مصر، إسحاق بن عقبة، بنفسه بالتجول ليلًا في شوارع الفسطاط لإيقاظ الناس للسحور، حيث كان يسير من مدينة العسكر إلى جامع عمرو بن العاص، مناديًا السكان للاستعداد للصيام، كهدية إلى الشعب.
من هنا ظهرت طائفة المسحرين التي أبدعت في فنون الإنشاد الديني وأضافت له فنون الازجال والأناشيد، مما نتج عنه فن شعبي له مفرداته عُرف باسم "فن القوما" وهو فن شعبي يعد في مضمونه شكل من أشكال التسابيح.
مهنة المسحراتي تطورت في العصر الفاطمي، حيث أصدر الحاكم بأمر الله قرارًا يلزم الناس بالنوم بعد صلاة التراويح، بينما كان الجنود يمرون على البيوت ويدقون أبوابها لتنبيههم للسحور، ثم تطورت هذه العادة، حتى تم تعيين شخص مختص بهذه المهمة، عُرف بـ"المسحراتي"، وكان يحمل عصا يدق بها على الأبواب مرددًا: «يا أهل الله قوموا تسحروا».
وكادت هذه المهنة أن تندثر لاحقًا، لكن السلطان الظاهر بيبرس أعاد إحيائها خلال العصر المملوكي، إذ كلف صغار علماء الدين بإيقاظ الناس للسحور، وفي عهد الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت نقابة للمسحراتية، وكان أبرز روادها "ابن نقطة"، الذي ابتكر فن "القوما"، وهو نوع من التسابيح الرمضانية، كما أدخل استخدام الطبلة الصغيرة "البازة" بدلًا من العصا، ليقرعها بإيقاع منتظم، ما أضاف بُعدًا فنّيًا لمهنة المسحراتي.
المسحراتي أصبح بمرور الزمن جزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية المصرية، إذ لم يقتصر دوره على إيقاظ الصائمين، بل تحول إلى رمز رمضاني، وما زال مستمرًا في الصعيد وبعض الحواري الشعبية.
ويمتلك كل فرد من طائفة المسحرين أسلوبا خاصا، يجمع فيه العديد من المرادفات القولية والغنائية يستحسنه من اعتادوا على سماعه، ويجذبهم إليه كونه يقوم قبل رمضان بالاستعلام عن أسماء أصحاب المنازل وأسماء أبنائهم، ويدرج في نداءه تحية خاصة لكل منهم ضمن إبداعاته القولية.