أظهرت المجازر الَّتي ترتكبها «إسرائيل» بحقِّ الفلسطينيِّين في قِطاع غزَّة تحوُّلًا مُهمَّا حَوْلَ العالَم لا يُمكِن إغفاله. صحيح أنَّ الاحتلال يقتل الفلسطينيِّين بشكلٍ شِبْه يومي تقريبًا ويهدم بيوتهم ويحرق زرعهم ويصادر أراضيهم لِيبنيَ عَلَيْها مستوطنات، لكنَّ الحرب الأخيرة فاقت كُلَّ البشاعات الإنسانيَّة على الإطلاق.
مثال مُهمٌّ على ذلك ما شهدته بريطانيا، من مظاهرة في الأسبوع الأوَّل لمجازر غزَّة ضمَّت نَحْوَ مئة وسبعين ألفًا. وثارت ثائرة وزيرة الداخليَّة ـ وهي من أصْلٍ هندي وسبَقَ اتِّهامها بالكذب والبلطجة تجاه موظفيها ـ الَّتي أرادت معاقبة رئيس شُرطة العاصمة؛ لأنَّه سمح برفع الإعلام الفلسطينيَّة وشعارات مؤيِّدة للمقاومة الفلسطينيَّة. فخرجت في الأسبوع التَّالي مظاهرة تضمُّ أكثر من ثلاثمئة ألف، بَيْنَما خرج في مظاهرة الأسبوع الأخير نَحْوُ نصف مليون متظاهر بريطاني يُندِّدون بموقف حكومتهم المؤيَّد لـ»إسرائيل» ويدعون إلى وقف المجازر بحقِّ الفلسطينيِّين. وكُلَّما زادت تصريحات السِّياسيِّين، من رئيس الوزراء ريشي سوناك ووزير خارجيَّته (وكُلُّهم ليسوا بريطانيِّين أصليِّين، لذا يُزايدون على الإنجليز بأنْ يكُونُوا ملكيِّين أكثر من الملك)، كُلَّما زاد عدد البريطانيِّين المتعاطفين مع فلسطين والمنتقدين للاحتلال «الإسرائيلي» وممارساته.
ليس هذا فحسب، بل إنَّ تلك الموجة من التأييد الَّذي يقترب للعنصريَّة من قِبَل السِّياسيِّين في دوَل أوروبا كبريطانيا وفرنسا وألمانيا لـ»إسرائيل» وما ترتكبه من عمليَّات تطهير عِرقي للفلسطينيِّين جعلت المتعاطفين تقليديًّا مع القضايا الإنسانيَّة الَّذي كانوا في البداية يخشون إظهار أصواتهم كَيْ لا يُتَّهموا بمعاداة السَّامية أو دعم حماس المصنَّفة «إرهابيًّا» هناك يخرجون عن صَمْتهم ويعلو صوتهم أكثر. وكُلَّما زادت وتيرة التحوُّل الشَّعبي والمزاج العامِّ بَيْنَ الجماهير، زادت عصبيَّة الحكومات وأعلنت عن فرض مزيدٍ من القيود على حُرِّيَّة التعبير، بل وحتَّى اللجوء لممارسات تقترب من الديكتاتوريات الَّتي طالما انتقدها الغرب. من ذلك ما تسعى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لِسَنِّه من قوانين تحدُّ من التعبير في الجامعات الأميركيَّة، تحت دعوى مزيَّفة بمواجهة «معاداة السَّامية»، نتيجة احتجاجات الطلاب المنتقدة لـ»إسرائيل». وبالطبع لا جدوى من القول بأنَّ انتقاد «إسرائيل» والوقوف بوجْهِ جرائمها الإنسانيَّة لا علاقة له بالسَّامية أو غيرها. فالسِّياسيون في الغرب كثير مِنْهم لا يختلف عن وزير الحرب «الإسرائيلي» يواف جالانت الَّذي وصف الفلسطينيِّين بأنَّهم «حيوانات».
صحيح أنَّ بعض وسائل الإعلام الرئيسة التقليديَّة في الغرب بدأت تتحوَّل قليلًا عن الترويج الدعائي للرواية الإسرائيليَّة، خصوصًا بعدما ورَّطتها «إسرائيل» في أكاذيب فاضحة مِثل فيديو ذبح الأطفال المُلفَّق وغيره، إلَّا أنَّ الموجة السَّائدة ما زالت تكاد تقترب من العنصريَّة في تناولها لِمَا يجري في غزَّة مِثلما حدَث في بداية الحرب الأوكرانيَّة العام الماضي. لا يقتصر الأمْرُ على الإعلام التقليدي، بل إنَّ بعض مواقع التواصل، مِثل فيسبوك، شدَّد القيود على نشْرِ أيِّ شيء يفضح جرائم «إسرائيل» أو يتعاطف مع الفلسطينيِّين. إلَّا أنَّ موقع «إكس» (تويتر سابقًا) أتاح مساحة أفضل للنَّشر وبثِّ المقاطع المصوَّرة والآراء من كُلِّ الاتِّجاهات عكس فيسبوك. ذلك التقييد والتشديد، والدعائيَّة الفجَّة من جانب وسائل الإعلام والتواصل وغيرها، بالإضافة إلى تصريحات السِّياسيِّين المؤيِّدة للاحتلال تزيد من ردِّ الفعل العكسي لأسباب عدَّة. أوَّلها أنَّ النَّاس العاديَّة غالبًا لا تثق بالسِّياسيِّين، لكنَّها تبحث عن الحقيقة في وسائل الإعلام ـ الَّتي أصبحت أكثر دوغمائيَّة من السِّياسيِّين في الغرب. وذلك ما يجعل بعض الأخبار والمعلومات القليلة عن جرائم «إسرائيل» بحقِّ الفلسطينيِّين تجد طريقها للنَّاس بشكلٍ أوسع، وتؤدِّي إلى زيادة الوعي بقضيَّة كادَتْ تُنسى رغم أنَّها أكبر سبَّة في جبَيْنَ الإنسانيَّة في التاريخ المعاصر.
من التحوُّلات المُهمَّة فعلًا، تلك الأصوات اليهوديَّة حَوْلَ العالَم الَّتي تزداد انتقادًا لـ»إسرائيل» وممارساتها وتعاطفًا مع الفلسطينيِّين. ولعلَّ حجم مظاهرات يهود أميركا، كما أظهرت مظاهرة بروكلين بنيويورك قَبْل أيَّام، أهمُّ مئة مرَّة من تصريحات قيادات «إسرائيل» وحلفائهم في واشنطن ولندن وغيرها. فموقف هؤلاء، الإنساني بالأساس، يدحض التزييف «الإسرائيلي» والغربي بأنَّ هذه «حرب دينيَّة». والحقيقة أنَّه من ردود الفعل العكسيَّة الَّتي ولدتها المجازر غير المسبوقة في غزَّة انهيار الجهود الَّتي استمرَّت لسنوات لوصْمِ المقاومة الفلسطينيَّة بالإرهاب. فكَمْ من المليارات أُنفِقت على جهود إعلاميَّة وسياسيَّة وقانونيَّة للقضاء على «القضيَّة الفلسطينيَّة نهائيًّا»، كما وصفها الرئيس المصري، بترسيخ وصْمَة الإرهاب على المقاومة. وفي ذلك بالتوازي تبرئة الاحتلال في فلسطين من جرائمه الَّتي تقترب من الإرهاب العنصري. وكان ذلك كُلُّه في سياق الدَّفع باتِّجاه مصالحات واتفاقيَّات تطبيع وحتَّى إمكان «استيعاب» «إسرائيل» في المنطقة كحليف. كُلُّ ذلك انكشف، وظهر حتَّى لهؤلاء الَّذين قادوا تلك الجهود أنَّ «حليفهم» المفترض لا يوثق به.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: وسائل الإعلام الإعلام ال لـ إسرائیل
إقرأ أيضاً:
بابا الفاتيكان يندد بالوضع الإنساني الخطير في غزة ويكرر المطالبة بإطلاق سراح المحتجزين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
دعا بابا الفاتيكان إلى تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى السودان، وذلك بحسب تصريحات نقلتها فضائية "القاهرة الإخبارية" في خبر عاجل لها، اليوم الأربعاء.
وقال بابا الفاتيكان: "أدعو إلى إسكات البنادق في أوكرانيا التي مزقتها الحرب".
فيما ندد بابا الفاتيكان بالوضع الإنساني الخطير في غزة ويكرر المطالبة بإطلاق سراح المحتجزين.