إن الجاهلية الأولى تتيه شرفاً على الحضارة المزعومة في هذه الأيام. إننا نعيش حضارة زائفة مادية لا تؤمن إلا بقانون الغاب، القوي فيها يلتهم الضعيف

 

حينما نتصفح جاهلية العرب التي نقول بأنها ظلم على ظلم و ظلمات بعضها فوق بعض مع الأسف نجد فيها مشاهد من النور لا نجد مثلها في هذه الأيام ولو احتكمنا إليها في واقعنا المعاصر لتغير الواقع إلى حضارة نرنو وترنو إليها البشرية

 

حينما نقرأ يوم لطم أبو جهل وجه أسماء بنت أبي بكر وقال لمن حولها اكتموا هذا عني، لا أحد منكم يحدث به، إني لا أريد أن يصبح العرب فيتحدثون أن أبا جهل ضرب امرأة

 

واليوم تتحول الأطفال والنساء إلى أشلاء ودماء وتمزق جثثهم على مرأى ومسمع الجميع بل وبتشجيع الراعي الرسمي لحقوق الإنسان في الوقت المعاصر وهي الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تدن بكل حين بشعاراتها عن حرية وحق الإنسان واليوم تفضح معاييرها المزدوجة ودعواها الزائفة وتكشف لنا الوجه الحقيقي لحضارة هؤلاء 

 

 

 

في أي دين وعلى أية معايير وبأية قوانين يؤذن بقصف وترويع وحصار المدنيين ومنعهم المياه والطعام وإلى أي دعوى يحتكمون في تهجير الفلسطينيين قسرياً عن وطنهم

 

إن الجاهلية في أحلك ظلماتها تنأى عالية على دنو تحضر إنسانية هؤلاء

 

الجاهلية التي نقرأ في صفحاتها يوم أن وقف المطعم بن عدي حينما استجار به النبي ﷺ بعد أن ذهب إلى الطائف ومنعوه من دخول مكة فاستجار بالمطعم بن عدي وهو كافر عاش ومات كافراً إلا أنه لبى نداء النبي ﷺ وأرسل إلى أبناءه وبني عمومته يأمرهم أن يتجهزوا للحرب وقال لهم ليدخلن محمد الحرم ولو على رقبتي وليصلين عند الكعبة وليستلمن الحجر ولو على دمي وبالفعل أعدوا عدتهم وتجهزوا للحرب بدافع الإنسانية والمروءة وحفظ له ﷺ مروءته، وعندما توفى ابن عدي قام حسان بن ثابت ورثاه في قصيدة عصماء بين يدي النبي وحزن النبي لموته لأنه ﷺ يعشق المروءة ولو من كافر ويكره الميوعة ولو ممن يزعم أنه من أولياء الله

 

إنني أسوق مشاهد من الجاهلية الأولى لنقارن بين ما كانت عليه الجاهلية وما آلت إليه البشرية في قرنها الواحد والعشرين من حضارة، تباً لتلك الحضارة التي لا تؤمن بالمبادئ والتي لا قرار لها ولا استقرار إلا على موت الأبرياء والمستضعفين

 

أي إنسانية وأي تحضر وأي عصر يبرر فيه الإبادات الجماعية والقتل والتشريد وتدمير المقدسات ودور الرعاية تحت شعار الدفاع عن النفس

 

يتكلمون عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء حتى يتم تصفية القضية إلى الأبد

 

وموقفنا واضح.

إننا نعيش في مصر ولدينا ملايين الوافدين وإننا مستعدون أن نحرم ونتكبد المهالك في سبيل تقديم لقمة أو ثوبا لشعب فلسطين لكن ما هذا التهجير إلا مخالفة للدين والشريعة والعقيدة والأخلاق لأن معناه تسليم فلسطين برمتها للكيان الغاصب

 

تسليم أولى القبلتين، وثالث الحرمين ومعراج النبي محمد ﷺ، والأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وأقام بها عبده دواد عليه السلام حينما أردا له مقاما يرضى به عنه تبارك وتعالى.

 

الأرض التي ولد بها عيسى عليه السلام وتجلى الله بها على سيدتنا مريم عليها السلام، ونجا إليها لوطاً عليه السلام من أرضه التي كانت تعمل الموبقات 

 

استوطنها إبراهيم الخليل، وعاش عليها سيدنا زكريا، وبها محرابه ومحراب داود عليهم السلام

 

وحينما أراد تبارك وتعالى أن يعاقب بني إسرائيل حرم فلسطين عليهم وكتب لهم التيه في الأرض { قَالَ  فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ }

 

 

ورغم أن مولد سيدنا موسى عليه السلام ونشأته وحياته كانت في مصر إلا أنه سأل الله أن يجعل قبره على رمية حجر من بيت المقدس

 

إنها الأرض المقدسة التي حينما سأل الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله فيما رواه أحمد في مسنده، إن ابتلينا يا رسول الله في البقاء بعدك فبمَ تأمرنا؟ قال ﷺ "عليكم ببيت المقدس فلعله تنشأ لك ذرية يغدون ويروحون إلى هذا المسجد "

 

فكيف نتركها لهم

أستاذ الدعوة ومقارنة الأديان بكلية الدعوة بجامعة عضو بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الأرض المقدسة

إقرأ أيضاً:

سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في المشهد الشعري العربي الحديث، تقف رنا التونسي ككائنٍ لغوي هشّ، يمشي فوق شفا الهاوية، حاملةً في يدٍ زهرةً للغفران، وفي الأخرى رمادًا لما لم يعد ممكنًا إصلاحه. شاعرة خرجت من قلب القاهرة لا بوصفها مدينة، بل ككائن خرافي متعدد الوجوه: أنثى مرّت من الأزقّة الضيقة، من الحروب الصغيرة داخل النفس، ومن محطات الانتظار التي لا تصل فيها القطارات.

 

إنّ رنا التونسي ليست مجرّد شاعرة تكتب، بل امرأة تؤسس لكتابة مغايرة، كتابة تحفر عميقًا في أرض الطفولة، في علاقة الأم بابنها، في الذكريات التي لم تكتمل، في الحب بوصفه نوعًا من الهروب، وفي الهروب بوصفه نوعًا من الحب.

 

في دواوينها الأولى مثل "وردة للأيام الأخيرة" و"وطن اسمه الرغبة"، بدت رنا وكأنها تنقّب عن شظايا ذاتها في أنقاض عالم لا يعترف بالهشاشة. كانت القصائد هناك أقرب إلى صرخات فتاة فقدت خريطة البيت، لكنها لا تزال تحمل مفاتيحه في جيب معطف ممزق. يتكرر حضور الفقد، الغياب، الوحدة، والعشق غير المتحقق. لكن هذه الموضوعات لا تأتي ككليشيهات، بل كل مرة بلغة مفاجئة، صورة تجرح، استعارة تهمس أكثر مما تصرخ.

 

في هذه المرحلة، يمكن ملاحظة تشكل ما يمكن تسميته بـ"لغة رنا التونسي": لغة تتعمد الكسر، تحب القفز من سطرٍ إلى آخر، لا تستكين لإيقاع تقليدي، ولا تخشى من الانكسار الداخلي للبيت الشعري. إنها تكتب كما تحلم، كما تنزف، وكما تتنفس.

 

يأتي ديوان "كتاب الألعاب" كعتبة جديدة في تجربتها، حيث تتقاطع اللغة مع الأمومة، لا بوصفها وظيفة بيولوجية، بل كنوع من التورط العاطفي. رنا لا تكتب عن الطفل فقط، بل تكتب عبر الطفل، ومن خلاله. يتحول الحلم، الخوف، الحكاية، واللعبة إلى مفردات شعرية. كل شيء هنا يبدو هشًا، لكنه مشبع بالحب الذي لا يحتاج إلى إثبات.

 

في هذا الديوان تحديدًا، تبلغ تجربتها درجة من النضج تؤهلها لتأسيس ما يشبه "أدب الأمومة" العربي، وهو أدب نادر في الشعر العربي الحديث، تفتحه رنا بصوت لا يشبه أحدًا سواها. من خلال هذا الصوت، تكتب الأم التي تخاف من كل شيء، من النوم، من الموت، من أن يسألها طفلها لماذا العالم قاسٍ. لا تجيب، لكنها تكتب.

 

في شعر رنا التونسي، لا وجود للجمال المتكامل. الجمال يأتي دائمًا مشوهًا، ناقصًا، أشبه بجناح طائر لا يستطيع الطيران به. إنها تؤمن بأنّ العالم لا يُحتمل إلا حين يُكسر قليلًا، حين نرى في الشقوق ما يشبه وجوهنا. وفي هذا السياق، تصبح الكتابة عندها فعل نجاة، لا رفاهية.

 

 لذلك نجد في دواوين مثل "فهرس الخوف" و"عندما لا أكون في الهواء" نبرة أقرب إلى السرد الحميم، إلى اليوميات، إلى التدوين الشخصي الذي يتجاوز الشعر ليؤسس حميمية لا تُقاوم.

 

رنا التونسي ليست فقط شاعرة، بل قارئة نهمة، ومحرّرة أدبية. في تحريرها لكتاب "ديوان الأمومة"، لم تكن تنسّق نصوصًا لشاعرات عربيات فحسب، بل كانت تؤسس لمشهد، لمجال، لصوتٍ جديد يصرخ من منطقة نادرًا ما يُصغى إليها: الجسد الأنثوي حين يتقاطع مع الجسد الأمومي، لا بوصفه بيولوجيا، بل كجغرافيا وجود.

 

في زمنٍ باتت فيه كثير من القصائد تُكتب بطمأنينة كاذبة، تخرج رنا التونسي من صمتها لا لتقول "أنا هنا"، بل لتهمس: "أنا هناك... حيث لا أحد يجرؤ على البقاء." إنها شاعرة لا تعيش في المركز، بل تقيم في الأطراف، في الظلال، في الأماكن التي يخاف منها الشعراء لأنها "لا تصلح للنشر".

 

ولعلّ هذا بالضبط ما يجعل شعرها جديرًا بالقراءة: أنه لا يسعى لإرضاء أحد، لا يعرض نفسه على مقاييس الجمال الجاهزة، بل يخلق مقاييسه بنفسه، كما لو أنّ القصيدة هي جرحٌ يكتب نفسه كل مرة بطريقة جديدة.

 

ربما يمكن القول إنّ رنا التونسي تكتب كما لو أنها تكتب في مرآة، لا لترى نفسها، بل لتكسر انعكاسها. شاعرة لا تخاف من القبح، من الخوف، من الوحدة، بل تحوّلها إلى زهورٍ سوداء تصلح لتزيين قصائدها. وإذا كان الشعر محاولة لترميم الكائن، فإن رنا التونسي تفعل ذلك، لكنها لا تستخدم الإسمنت، بل القصائد.

 

وفي زمنٍ يهرب فيه الشعراء من الحافة، تقف هي على شفيرها، مبتسمة، كأنها تقول لنا:

الشعر هو أن تبقى واقفًا هناك، حيث الجميع يسقط..

مقالات مشابهة

  • كربلاء المقدسة .. مدينة النور التي أخرست ألسنة التشاؤم وأضاءت دروب الأمل
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (المكتولة والصايحة)
  • المرتزقة وتحالف العدوان دمروا كل شيء في اليمن، حفاظا عليه من الحوثيين
  • ما هي الأعمال المستحبة عند زيارة مسجد النبي؟.. داعية يُوضح
  • ما الأعمال المستحبة عند زيارة مسجد النبي؟ أحمد الطلحي يوضح
  • الشيخ أحمد الطلحي للحجاج: سيدنا النبي حي في روضته
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: سبعون سنة يتيهون في الأرض
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • البطريرك بيتسابالا يتذكر البابا فرنسيس
  • الأرض المباركة.. خطبة الجمعة المقبلة