أوراق أديس أبابا
تاريخ النشر: 1st, November 2023 GMT
عمر العمر
ربما نتفق على توصيف لقاء أديس أبابا خطوةً إلى الأمام. لكن حصيلة اللقاء تبدو بمثابة خطوتين إلى الوراء. فهي لم تأت على مستوى التوقع. هذه القراءة ليست ناجمة عن تفاؤل أو تشاؤم. بل عن تبصر في الخلاصات في ضوء الواقع. حينما تنزلق نملة من على جدار فإنها تعاود الصعود سالكة ً دربا مغايراً. كأنما لم يستوعب اللقاء عميقا دروس المرحلة الإنتقالية.
*****
رغم الحديث عن الانكباب على مناقشات عميقة إلا أن البيان الختامي أعلن عن الإقبال على تنظيم ورش تعد توصيات لتطوير الموقف التفاوضي المدني، الاصلاح الأمني والعسكري،العدالة الإنتقالية، إعادة بناء أجهزة الدولة، السلام رتق النسيج الإجتماعي ومحاربة خطاب الكراهيةفضلا عن وضع دستور دائم وبرنامج اقتصادي.البيان لم يفصح عن الطرف الأخر على طاولة التفاوض.؟ لماذا لا يعتمد على جبهة التيار العريض بغية انجاز كل المهام الوطنية دون ولوج عملية تفاوضية لا تحتمل الكارثة؟.بما أن تشكيل الورش رهين بإنضمام الشركاء المرتقبين فان توقيت (المؤتمر التأسيسي) يظل كمصير عصفور وسط عاصفة. ركز البيان على إنهاء الحرب واسترداد الديمقراطية – وهو محق-قضيتين أساسيتين. لكن الإغاثة قضية آنية ملحة .كما إعادة بناء الدولة والإعمار لا يقلان أهمية جديرتان بالتنويه والإعلاء على أجندة المرحلة التالية.
*****
البيان تحدث عن مشعلي الحرب ودعاة استمرارها لكنه لم يوجه – رهبةً أو رغبة -إدانة صارخة واجبة لأطرافها باسمائهم . أكثر من ذلك عمد فقط إلى مناشدتهم (مناشدة؟)بإيقافها! رغم الإجماع على حتمية التحول الديمقراطي إلا أن هناك لبسا متلبدا ينبغي تبديده الآن في هذا الصدد .فمن المهم الفرز بين المرحلة الإنتقالية وبين عملية التحول الديمقراطي. فالفترة الإنتقالية تؤسس للديمقراطية المستدامة لكنها غير محكومة بقواعد اللعبة الديمقراطية. فأجندة سلطة المرحلة الانتقالية الملحة تتمحور في تتفيذ شعارات الثورة .انجاز هذه المهام يتطلب بالضرورة سلطة مشبعة بروح الثورة متحررة من ضغوط اللعبة الديمقراطية إذ لم تكن رياحها قد هبت بعد .حكومة حمدوك الأولى واجهت موتا حتميا لأنها اختنقت في ظل ذلك التشويش المسموم عمدا وغفلة.فعوضا عن شحنها بروح الثورة كبلوها بقيود النظام الأوتقراطي تحت وهم الديمقراطية فتعطلت قدرتها على التغيير حد العجز .
*****
استهلال الورقة السياسية يغلب عليه الارتباك في المصلح والخطاب. فوصم الدولة السودانية بالفشل يشكل تبنياً لمحاججة معسكر الجنجويد بتبرير إنغماسهم في الحرب .(دولة 56).من الممكن الحديث عن فشل حكومات لكن الدولة تفشل حينما تعجز عن الدفاع عن وحدة شعبها وترابها .هذا حال لم يألفه السودانيون إلا في عهد البشير والبرهان. من ثم القول إن حرب ١٥ابريل لم تكن استثناء في الفشل السياسي منذ الاستقلال قفز فوق مساحات من الحقائق والجدل الموضوعي.كذلك وصم (الطبقة السياسية بالفشل والقوى المدنية)ينطوي على تعميم مخلٍ.ذلك اتهام يوجه إلى نُخب حاكمة بعينها ،إذا تجاوزنا الجدل في شأن(الطبقة السياسية) مصطلحا. الورقة نفسها تعود في الفقرة ذاتها لتصف الحرب (نتيجة حتمية للخلل البنيوي )لنظام الإنقاذ. (متفقٌ عليه ).هذا توصيف يبرئ (الدولة والطبقة السياسية)من وصمة الفشل! هذه خلاصة تناقض القراءة السابقة!
*****
الورقة التنظيمية أسمت عبدالله حمدوك رئيسا للهيئة القيادية التحضيرية للمؤتمر التأسيسي. لكنها سكتت عن تسمية أعضاء اللجنة. تلك مسألة تتيح لخصوم التيار فرصة فتح فوهات النقد.هم يستثمرون حتما هذا السكوت فيتحدثون عن خلافات أجلت استكمال تسمية أعضاء اللجنة. فوهات النقد ستنفتح بالطبع على حمدوك من منطلق عجز التحالف العريض ازاء الاتفاق على رأس بديل مقبول لدى الجميع أو الغالبية استنادا لتحميل حمدوك إخفاقات حكومته.النقد بدأ بسيل في صيغة أسئلة استنكارية في شأن تمويل أكثر من مؤتمر في الخارج.؟ بهت القيادات في الخارج بالعيش في محيطات مبطنة بالرفاهية بعيدا عن معاناة الهاربين من جحيم الحرب و المعانين تحت أدخنتها ؟مما يزيد كثافة نيران النقد استهداف 2000 مندوب إلى المؤتمر التأسيسي المرتقب في موعد يؤمل له 8 أسابيع.؟
*****
الورقة نفسها تعترف بالإفراط في التفاؤل اذ نصت على الاحتفاظ بالنسب حال عجز الهيئة التحضيرية عن استنفار الألفي مندوب. النسب في كل الأحوال تعيدنا إلى درس النملة. اذ كانت المحاصصة سوسة حكومة و أجهزة المرحلة الإنتقالية ما تم تشكيلها منها وما لم يتم! فان التحرر من عقلية المحاصصة والمساومة فرض عين ينبغي ممارسته على المستوى الشخصي كما الصعيد التنظيمي .وإلا ستبذر سوسة الفشل نفسها داخل الأجهزة المرتقبة إبان المرحلة المرتجاة.فكما قال الساخر الإيرلندي جورج برنارد شو ( النجاح ليس لعدم ارتكاب أخطاء بل لعدم تكرارها) .كما تقول الحكمة المتداولة (إذا ركبا أثنان على حصان واحد فلابد أن يكون أحدهما في الخلف)
الوسومعمر العمر
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عمر العمر
إقرأ أيضاً:
الحركة الإسلامية السودانية… المأزق والغنيمة
منذ أن اندلعت الحرب في السودان منذ عامين ويزيد، أشارت الاتهامات إلى دور الحركة الإسلامية ممثلة في حزب المؤتمر الوطني ـ أحد أسماء عديدة استنسختها الحركة الإسلامية في السودان طوال تاريخها السياسي ـ بدورها في إشعال وتوجيه مسار الحرب الجارية منذ الخامس عشر من أبريل 2023. والمبررات التي تسوقها هذه الاتهامات ومن بينها تحليلات المراقبين، محاولتها العودة إلى السلطة، التي فقدتها بثورة ديسمبر 2019، بعد حكم استمر لثلاثة عقود. وهذه النتائج لا تخلو بطبيعة الحال من صحة، إذ أن الحرب الجارية يعود أطرافها إلى مكونات الحركة الإسلامية، كنتيجة منطقية لسياساتها في الجيش الذي تهمين عليه، وقوات الدعم السريع التي كونتها وقننَّت وجودها، والكتائب الشعبية التي تنتمي إليها تنظيما. وتعد الحركة الإسلامية السودانية الوحيدة بين حركات الإسلام السياسي، في العالمين العربي والإسلامي، التي تصل إلى السلطة وتستحوذ على مؤسساتها، وتفرض هيمنتها بحكم منفرد وسلطة خالصة، في أعتى إقصاء سياسي يمارسه تنظيم سياسي سوداني منذ الاستقلال.
والمشهد السياسي الذي أعقب ثورة ديسمبر، والمرحلة الانتقالية، جعلت من وجود الحركة الإسلامية أمرا لا يتقبله الشعور العام، ما اضطرها إلى العودة إلى أساليبها التي تتقنها في العمل التنظيمي السري، وتحويل المواقف لصالحها، وفقا لتنظيمها البراغماتي وآلياته الفاعلة في المشهد السياسي. وتعتبر الحركة السودانية دون نظيراتها ممن تستهدف السلطة والدولة كهدف أقصى في أولوياتها التنظيمية، ما أنتج خطابا أمنيا متشددا عن سائر المبادئ والشعارات التي عادة ما ترفعها جماعات الإسلام السياسي. وما يشير إلى دور الحركة الفاعل في الحرب الجارية، عودة وجوهها القيادية، وإعادة تعيين كوادرها البارزة في مناصب الدولة التي فقدتها، وتمكنت من العودة منذ انقلاب الجنرال البرهان في أكتوبر 2021 الذي شاركت فيه حينها قوات الدعم السريع.
باتت وحدة السودان مهددة، وبدأ بالفعل ما يسمى بالحكومة الموازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ما يعني واقعا جديدا لن تكون فيه الحركة الإسلامية اللاعب الوحيد بين لاعبين جدد يدعي كل منهم شرعية لا تحققها إلا قوة السلاح
وعندما حانت الفرصة نظريا وتطبيقا على الواقع في اختبار شعار «الإسلام دين ودولة» و»الإسلام هو الحل» وغيرها من شعارات رددتها الجماعات الإسلامية كبرامج للتحشيد، أكثر منها رؤى، أو خططا، في الدول التي وصلت فيها إلى الحكم باستثناء تونس في ائتلاف النهضة ومصر مرسي. ويكون السودان البلد الوحيد الذي طبقت فيه نموذجها، فبعد ثلاثة عقود على سدة الحكم، لم يلفح طرحها الفكري في الخروج من تقاليد الدولة التقليدية، أو فرض رؤيتها، إذ اصطدمت بالواقع بعيدا عن الشعار أو النظرية، ولكنها تخلت عن أصولها النظرية، لواقع لا تستطيع إنتاج بديل له. وهو الواقع الذي ظل دائماً مثار جدل حول علاقة الدولة بالديمقراطية والمرأة والأقليات وحقوق الإنسان، التي حاولت الأطروحات الإسلامية السياسية إيجاد صيغة توافقية، بإضفاء صفة إسلامية تطويعا لاصطلاحات في مدار الفقه الإسلامي، وإن لم تفلح في تعريفها لموقع في الدولة الحديثة، كممارسة الشورى بديلاً عن الديمقراطية والتعددية، ومصدر السلطات وغيرها مما ظل في حدود النصوص والشعارات دون التطبيق الناجز. وتقود الحركة الإسلامية حرباً فجرت معها ما يتجاوز طموح العودة إلى السلطة، التي بات موطنها بفعل الحرب في غياهب المجهول، والاستراتيجية التي تتبعها في مواصلة الحرب، إلى سحق الطرف الآخر بدعاوى مختلفة يخرجها من دائرة منطلقاتها الإسلامية، ذلك بأن نتائج الحرب لم تقتصر على الجانب العسكري، في ما أوقعته من شروخ اجتماعية وعنصرية بليغة الأثر. وبذلك تكون الحركة الإسلامية قد تبنت خطابا مصدره الحرب وويلاتها، لا القيم المؤسسة لتوجهات برامجها المعلنة على الأقل. فمن خلال هذه الفوضى غير الخلاقة تواجه الحركة تحديا إقليميا ودوليا في العودة الطبيعية، وإن استطاعت بحكم الواقع تعزيز قبضتها على السلطة والدولة والحرب، وطرحها لن يرحب به في الداخل والخارج، بما تواجهه من سياسات إقليمية مناوئة لمشروعها، وتورط قادتها الملاحقين قانونيا، وما فرضته الإدارة الأمريكية مؤخرا من عقوبات شملت شخصياتها النافذة، بما فيها أمينها العام علي كرتي في أعقاب الحرب 2023. وما تعتمد عليها موافقة على الواقع السياسي المستجد تجربتها الممتدة وأذرعها الاقتصادية والعسكرية، وكل ذلك لم يعد التحكم به ممكنا أيضا في ظل واقع الحرب وما بعدها، أي بما يعني المستقبل السياسي لتنظيم اعتمد الدولة كأداة وحيدة في تنفيذ برنامجه.
ثم لماذا كان خيار الحرب وبالطريقة التي تتم بها، وأيا تكن الغاية من ورائها، يكون ضمن أجندة منظومة سياسية لاستعادة سلطة فقدتها؟ والإجابة تنبثق من تاريخ الحركة نفسه، الذي اعتمد الخيار العسكري طوال سني حكمها، بكل ما صاحبه من سياسات أمنية فظة منتهكة حقوق الإنسان على المستويات كافة. ولأنه لم يكن من خيار آخر مدني يسمح لها بالعودة عبر الطرق المدنية المعهودة في الديمقراطيات، خاصة أن جسمها السياسي (المؤتمر الوطني) حظر من المشاركة السياسية في الفترة الانتقالية السابقة، باعتبارها حزبا محلولا. ومن المفارقات أن الأسباب ذاتها هي ما بررت به انقلابها الأول على الديمقراطية الثالثة بقيادة البشير في انقلابها 1989 الذي امتد طوال هذه السنوات.
انطلاقا من تجربة حكمها المطلق وما استحوذت عليه من إمكانيات هائلة بتسخير مقدرات الدولة لصالح حزبها وجماعاتها، تجاهلت الحركة الإسلامية كل عوامل الانهيار التي تأتي على النظم الديكتاتورية، والتآكل جراء الفساد السياسي والاقتصادي، ونظام كانت شرايينه قد تصلبت، وبالتالي نجحت الهبة الشعبية في اقتلاعه سنة 2019، وذلك التجاهل الذي تجاوز حقائق الواقع أدى الى سقوط نظامها. ولكن فقدان السلطة لم يكن من السهل أن تتقبله جماعة ظلت ممسكة بمفاصل الدولة وامتيازاتها حصريا، على منظومة وحيدة ومن يمكن فهم دور الجماعة في موقفها من مسار الحرب وتأييدها المطلق لاستمرارها، أيا تكن فداحة النتائج المترتبة عليها. وبهذا تجد الحركة الإسلامية نفسها في مأزق سياسي وعسكري وتورط أخلاقي في حرب خرجت عما ألفته من صراعات سابقة، حيث باتت وحدة السودان مهددة، بل بدأت بالفعل ما يسمى بالحكومة الموازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ما يعني واقعا جديدا لن تكون فيه اللاعب الوحيد بين لاعبين جدد يدعي كل منهما شرعية لا تحققها إلا قوة السلاح.
فما كسبت الحركة الإسلامية من الحرب الجارية بناء على تصوراتها السياسية من عودتها لغنيمة السلطة، لا يقاس بما أحدثته من مخاطر أصابت البنية السياسية السودانية وفداحة الأزمة الإنسانية. وهذا الاتجاه كشف عن معاندة دائما ما تبديها النظم السلطوية إلى حين انهيارها، ومن ثم تكون فداحة النتائج أزمة وطنية ومسؤولية تاريخية ثقيلة، يصعب التخلص من آثارها الأخلاقية والسياسية على المدى الطويل. وإذا كان حزب المؤتمر الوطني يحاول إيجاد توافق حرج بين موقفه الداعم لاستمرار الحرب، وما يستعيده من سلطة متخفية من وراء حكومة الأمر الواقع، فسيجد نفسه في مأزق أكثر حرجا مهما قدم من تنازلات لصالح سياسات المنطقة وتحالفاتها بما فيها الإدارة الأمريكية الجديدة. وبما أنها تعتبر أقوى تنظيم سياسي بموارده المالية والتنظيمية الهائلة، لم تستفد الحركة الإسلامية من تحويلها لصالح مشروع سياسي، بعيدا عن أفق التنظيم الضيق ومحدودية التصورات الحزبية، التي تغلب عليها أهداف تكتيكية طارئة، خاصة أن المشاركة السياسية الواسعة والاجماع الوطني لا يمكن تحقيقه في ظل الأوضاع القائمة، ما يسمح لها بانفراد والتحكم في أروقة دولة استعادتها.
كاتب سوداني
عن القدس العربي اللندنية# السبت 26/أبريل 2025م
nassyid@gmail.com