الهوية الوطنية الإماراتية وتحديات العولمة
تاريخ النشر: 1st, November 2023 GMT
إذا كانت العولمة بمجالاتها المختلفة اقتصادياً ومعرفياً وعلمياً وثقافياً تضع العالم أمام خيارين لا ثالث لهما إما الاستجابة لهذا الانفتاح الفائق، والتشارك العالمي والإنساني في صناعة المسار الحضاري وإما العزلة عن العالم وعن تحولات العصر.. فعلى الدول التي تراهن على وجودها في الحاضر والمستقبل، أن تختبر خياراتها، الوطنية والإنسانية أمام هذا التحدي بفعل وفاعلية الوعي للذات والعالم.
حسمت الإمارات أمرها واختارت العمل مع شركائها لتعزيز جاهزية العالم
ولأن طبيعة الحياة تستوجب الارتهان إلى الخيار الأول، فقد تعددت طبيعة هذه الاستجابة بين دولة وأخرى وبين مجتمع وآخر، وذلك عبر تعدد الفهم لمفهوم العولمة وأطروحاتها المختلفة التي تضع الهويات الوطنية أمام تحديات الوجود في عالم منفتح على الثقافات والحضارات.
وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن للهويات الوطنية أن تحافظ على كينونتها ووجودها وتاريخها وإرثها، وبالوقت ذاته تنفتح على العالم وثقافاته المتعددة دون أن تفقد خصوصيتها وهويتها؟ ولا شك إن الإجابة عن هذا السؤال، تنهض من العلاقة الجدلية بين الذات والآخر، بين الوطني والعالمي، بين الكينونة والصيرورة، بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ولعل هذا ما تنبهت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة في طبيعة فهمها ووعيها لهذا التحول الحضاري، واستيعابها لأطروحات العولمة، وذلك عبر ترسيخ الهوية الوطنية الإماراتية ومنظومتها القيمية المتأصلة في كينونتها تاريخياً وثقافياً واجتماعياً، مرتهنة إلى ذلك النسيج الذي يشد أواصر الماضي الأصيل بالحاضر والمستقبل، من دون أن تفقد رهاناتها في الانفتاح على العالم والاستجابة إلى كل الأطروحات الحضارية في المجتمع الإنساني.
ويأتي ذلك من خلال استيعابها للمفاهيم الإيجابية للعولمة لتقدم "المثال الأفضل للعولمة" بكل معطياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، وهذا لأنها ارتهنت بكل مفردات نهضتها الحضارية وتشاركها الإنساني اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً، إلى المعيار القيمي والأخلاقي، والإنساني.
فمن يقرأ التجربة الإماراتية التي كانت وراء هذه النهضة الفائقة يدرك من البداية تلك الفلسفة العميقة التي كانت تقف وراء هذا التحول الحضاري، والتي تنهض من إستراتيجية تختبر المستقبل في مختبر الماضي، وتزن التراث بميزان المعاصرة، وتحصن انفتاحها المعرفي والثقافي بمنظومة من القيم والمثل العليا، التي تنهض على قيم التعايش والتسامح والتحاور والتعارف والتبادل المعرفي والاقتصادي ما جعلها تقدم نموذجاً إماراتياً للعولمة، ومثالاً معيارياً لمفهوم العولمة الذي ينهض من مفهوم العالمية والتقارب الحضاري والمعرفي بين البشر، من أجل مجتمع إنساني أكثر تفاهماً وأكثر تسامحاً وأكثر تقارباً.
وأكثر انفتاحاً وهذا ما عبر عنه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بقوله "التعاون البنّاء هو المحرك الحقيقي لإحداث التغيير الإيجابي.. والعمل الفردي يظل قاصراً في عالم يتطور بشكل متسارع".
لذلك حسمت دولة الإمارات أمرها واختارت العمل مع شركائها، لتعزيز جاهزية العالم لبناء مستقبل أفضل لما فيه خير الأجيال القادمة.. بهذا المعنى تمكنت دولة الإمارات منذ قيام الاتحاد من تحقيق نقلات فائقة على كل المستويات من دون أن تفقد رهاناتها على هويتها الوطنية وتراثها وقيمها التي رسخها الآباء المؤسسون في الذاكرة الفردية والمجتمعية، كما هي راسخة في ذاكرة المكان والزمان.
وذلك عبر هذا الانسجام بين هويتها الوطنية ومفرداتها وبين الهوية الإنسانية وأطروحاتها، وهذا ما أكدته مبادئ الخمسين التي ترسم المسار الإستراتيجي لدولة الإمارات خلال الخمسين سنة المقبلة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتنموياً وثقافياً، بالتأكيد على ترسيخ قيم الهوية الوطنية الإماراتية وانسجامها مع مبدأ ترسيخ الأخوة الإنسانية واحترام التعدد الثقافي في مجتمعها المحلي والمجتمع الإنساني.
ما جعل العولمة في المفهوم الإماراتي مفهوماً إيجابياً، وفلسفة حيادية، وسبيلاً للحوار والتجاذب بين الحضارات والثقافات برهان علاقاتها وشراكاتها الاقتصادية والثقافية والعلمية على منظومة القيم الأخلاقية التي تضع الإنسان في مقدمة أهدافها، ما يجعلها فضاءً إنسانياً للسعادة والتعايش والتسامح والسلام.
ومن هنا يمكن القول إن آليات الحفاظ على الهوية الوطنية الإماراتية أمام تحديات العولمة هي آليات تشترك فيها كل المؤسسات والهيئات العامة والخاصة، وعلى كل المستويات عبر شراكات فاعلة في المحافظة على التراث الثقافي والمعرفي والقيمي الإماراتي الذي يحصن الهوية الوطنية الإماراتية، ويوسع خياراتها التواصلية مع العالم.
ولعل هذا ما تقوم به مؤسسة وطني الإمارات، عبر ترسيخها للهوية الوطنية الإماراتية بجهودها المختلفة وبرامجها ومبادراتها، التي ترسخ الوعي الوطني والمجتمعي، وتعزز قيم الانتماء والولاء، والمواطنة الصالحة لدى جيل الشباب، كبرنامج "سفراء الهوية الوطنية الإماراتية" ومبادرة "حماة العلم" وغيرها الكثير التي تضع نصب رؤيتها تعزيز الهوية الوطنية الإماراتية.
وتعزيز الوعي الوطني والمجتمعي، وتنمية مهارات القيادة والتواصل والعمل الجماعي لدى الشباب، ما يجعل الأجيال القادمة قادرة على تحديات العولمة بكل مجالاتها، لأنها محصنة بهويتها وعمق انتمائها الوطني وولائها للوطن وقيادته الرشيدة، التي ترسم خارطة المستقبل بعقول الشباب ورؤيتهم التي تستشرف المستقبل.
بهذه الرؤية الواضحة، والفلسفة العميقة، والإرث الأصيل، والانسجام مع التحولات الحضارية والإنسانية استطاعت دولة الإمارات أن تحفظ أصالة هويتها الوطنية وأصالة انتمائها إلى العالم، «فمن يصنع المستقبل لا يخاف من المستقبل» هكذا استجابت دولة الإمارات للعولمة كرؤية مفتوحة على المستقبل.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الإمارات العولمة الهویة الوطنیة الإماراتیة دولة الإمارات هذا ما
إقرأ أيضاً:
هل للعولمة مستقبل؟
مع اندلاع حرائق الغابات في مختلف أنحاء لوس أنجلوس في يناير، نشر صاحب نظريات المؤامرة الأمريكي الشهير أليكس جونز على موقع أكس أن الحرائق كانت «جزءا من مؤامرة أكبر دبرها أنصار العالمية السياسية لشن حرب اقتصادية والقضاء على التصنيع في الولايات المتحدة».
برغم أن اقتراح جونز لهذه العلاقة السببية كان سخيفا، إلا أنه كان محقا في أن الحرائق لها علاقة بالعولمة. كان العام الماضي هو الأكثر حرارة على الأرض منذ بدء حفظ السجلات ــ ومن المحتمل أن يكون الأكثر حرارة في ما لا يقل عن 125 ألف سنة ــ متجاوزا الرقم القياسي المسجل في عام 2023. وللمرة الأولى، تجاوز المتوسط العالمي لدرجات الحرارة العالمية هدف اتفاقية باريس للمناخ وهو 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. ولهذا، يلقي العلماء بأغلبية ساحقة باللوم عن ذلك على تغير المناخ الناتج عن تصرفات البشر.
تشير العولمة ببساطة إلى الاتكالية المتبادلة على مسافات عابرة للقارات. فالتجارة بين الدول الأوروبية تعكس الاتكالية المتبادلة على المستوى الإقليمي، بينما تعكس التجارة الأوروبية مع الولايات المتحدة أو الصين العولمة. يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من خلال تهديد الصين بالرسوم الجمركية، تقليص الجانب الاقتصادي من اتكاليتنا المتبادلة على الصعيد العالمي، والتي يعتبرها مسؤولة عن خسارة الصناعات والوظائف المحلية.
يناقش أهل الاقتصاد المقدار من تلك الخسارة الذي كان راجعا إلى التجارة العالمية. وجدت بعض الدراسات أن ملايين الوظائف فُقدت بسبب المنافسة الأجنبية، لكن هذا ليس السبب الوحيد. إذ يزعم كثيرون من أهل الاقتصاد أن العامل الأهم هو الأتمتة (التشغيل الآلي). مثل هذا التغيير من الممكن أن يعمل على تعزيز الإنتاجية الإجمالية، لكنه يتسبب أيضا في إحداث آلام اقتصادية، ويجد القادة الشعبويون أن إلقاء اللوم على الأجانب أسهل من لوم الآلات.
وهم يلقون باللائمة أيضا على المهاجرين، الذين قد يحملون فوائد للاقتصاد في الأمد البعيد، ولكن من السهل تصويرهم على أنهم سبب التغيير الـهَـدّام في الأمد القريب. ربما كانت هجرة البشر من قارة أفريقيا أول مثال على العولمة، وقد تكون الولايات المتحدة وبلدان أخرى عديدة نتيجة لذات الظاهرة الأساسية. ولكن أثناء بناء هذه البلدان، كثيرا ما اشتكى المهاجرون الأوائل من العبء الاقتصادي وعدم توافق الوافدين الجدد ثقافيا. ولا يزال هذا النمط مستمرا اليوم.
عندما تتزايد الهجرة (أو تغطيتها الإعلامية) بسرعة، تُـصبِـح ردود الفعل السياسية متوقعة. في السنوات الأخيرة، أصبحت الهجرة في كل الديمقراطيات تقريبا القضية التي يلجأ إليها الشعبويون الذين يسعون إلى الطعن في الحكومات القائمة. وكانت الهجرة عاملا رئيسيا في انتخاب ترامب عام 2016، ومرة أخرى في عام 2024. قد تكون وسائط التواصل الاجتماعي وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي مصادر أكثر أهمية للارتباك والقلق، لكنها ليست أهدافا ملموسة بذات الدرجة (وهي بالتالي أقل جاذبية).
لهذا السبب يُـلقي بعض الناس بالمسؤولية عن ردة الفعل الشعبوية العنيفة في مختلف الديمقراطيات تقريبا على تزايد انتشار وسرعة العولمة، وهو ذات السبب الذي يحمل الشعبويين أنفسهم على تحميل التجارة والمهاجرين المسؤولية عن معظم المشكلات في بلدانهم. لقد تسارعت وتيرة التجارة والهجرة بالفعل بعد نهاية الحرب الباردة، حيث أفضى التغيير السياسي وتحسن تكنولوجيا الاتصالات إلى قدر أعظم من الانفتاح الاقتصادي وخفض تكلفة تدفقات رؤوس الأموال والسلع والأشخاص عبر الحدود. والآن، مع تزايد نفوذ الشعبويين، قد تؤدي التعريفات الجمركية والضوابط الحدودية إلى الحد من هذه التدفقات.
ولكن من الممكن عكس مسار العولمة الاقتصادية؟ لقد حدث ذلك من قبل. فقد اتسم القرن التاسع عشر بزيادة سريعة في كل من التجارة والهجرة، لكنها توقفت على نحو مفاجئ مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولم تتعاف التجارة كحصة من إجمالي الناتج العالمي إلى مستوياتها في عام 1914 حتى عام 1970 تقريبا.
والآن، بينما يدعو بعض السياسيين الأمريكيين إلى الانفصال الكامل عن الصين، فهل من الممكن أن يحدث هذا مرة أخرى؟ برغم أن المخاوف الأمنية قد تقلل من التجارة الثنائية، فإن التكلفة الباهظة المترتبة على التخلي عن علاقة تزيد قيمتها عن نصف تريليون دولار سنويا تجعل من غير المرجح حدوث الانفصال. لكن «غير مرجح» ليست مثل «مستحيل». فاندلاع حرب حول تايوان، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى توقف التجارة بين الولايات المتحدة والصين تماما.
على أية حال، تتطلب محاولة فهم مستقبل العولمة النظر إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. إن أشكال الاتكالية المتبادلة العالمية الأخرى ــ العسكرية، والبيئية، والاجتماعية، والصحية، وغيرها ــ عديدة. وفي حين أن الحرب دائما ما تكون مدمرة للمتورطين فيها بشكل مباشر، فمن الجدير بنا أن نتذكر أن جائحة كوفيد-19 قتلت من الأمريكيين أكثر من أولئك الذين ماتوا في كل حروب أمريكا.
على نحو مماثل، يتوقع العلماء أن يكون لتغير المناخ تكاليف باهظة مع ذوبان القمم الجليدية العالمية وغرق المدن الساحلية في وقت لاحق من هذا القرن. وحتى في الأمد القريب، يزيد تغير المناخ من تواتر وشدة الأعاصير وحرائق الغابات. من عجيب المفارقات أننا ربما نكون بصدد الحد من نوع من العولمة له فوائد، بينما نفشل في التعامل مع أنواع لا تحمل سوى تكاليف. كانت واحدة من أولى خطوات إدارة ترامب الثانية سحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس ومنظمة الصحة العالمية.
إذن، ما مستقبل العولمة؟ ستظل الاتكالية المتبادلة البعيد المدى حقيقة من حقائق الحياة ما دام البشر يتنقلون ومزودين بتكنولوجيات الاتصالات والنقل. ذلك أن جذور العولمة الاقتصادية تمتد عبر قرون من الزمن، وتضرب بجذورها إلى طرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير (الذي اتخذته الصين شعارا لبرنامجها الاستثماري في البنية الأساسية «الحزام والطريق» الذي يمتد على مستوى العالم اليوم).
في القرن الخامس عشر، جلبت الابتكارات في مجال النقل عبر المحيطات عصر الاستكشاف، والذي أعقبه عصر الاستعمار الأوروبي الذي شكل الحدود الوطنية اليوم. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، سرّعت البواخر والتلغرافات من وتيرة العملية في حين أفضى التصنيع إلى تحويل الاقتصادات الزراعية. والآن تعمل ثورة المعلومات على تحويل اقتصاداتنا الموجهة نحو الخدمات.
بدأ استخدام الإنترنت على نطاق واسع في بداية هذا القرن، والآن يحمل مليارات الأشخاص حول العالم في جيوبهم جهاز كمبيوتر كان ليملأ مبنى كبيرا قبل نصف قرن. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، سيزداد نطاق وسرعة وحجم الاتصالات العالمية بدرجة هائلة.
لقد عكست الحروب العالمية مسار العولمة الاقتصادية، وقد تتسبب سياسات الحماية في إبطائها، ولم تتمكن المؤسسات الدولية من مواكبة عدد كبير من التغيرات الجارية الآن. ولكن ما دمنا نملك التكنولوجيات، فسوف تستمر العولمة. إلا أنها قد لا تكون من النوع المفيد.