وكيف هو طعامكم هل هو لذيذ مثل طعام الإسرائيليين؟ باغتني السؤال حين كنت وسط ضحك وممازحة في اجتماع ودي مع مجموعة من الزميلات في المملكة المتحدة أثناء دراستي، وكان الحديث يدور حول مديح صديقة لطبخة أعددتها وشاركتها إياها في وقت سابق.. جاء السؤال من إحدى قريباتها التي قدمت إليها في زيارة وانضمت إلى جمعتنا يومها.
شعور غريب يتملكك حين ينتحلك شخص ما لهذه الدرجة، حين تشعر أن عليك أن تدافع عن حقك في الشكشوكة مثلما تدافع عن حقك في القدس!. حين تفقد أسماء قراك وشكل الزخرفة في ثيابك وأشجارك وعليك أن تثبت سيرتك على وجع.
خطر ببالي فيلم أمريكي شاهدته عن شخص انتحل شخصا ما شخصيته ومحا عن الوجود كل دليل على وجوده بما في ذلك عنوان بيته ومعلوماته الخاصة المسجلة في قواعد البيانات الحكومية !.
بالضبط حين ينتهك شخص ما حيز وجودك ويسعى لإقصائك للحد الذي لا يعود فيه لك وجود.
يحاول الكيان الإسرائيلي أن يتحكم بالخطاب بكل الطرق، أولها أنه سعى لإحكام حضوره وتنفذه في مفاصل الاقتصاد تحديدا في الولايات المتحدة وأوروبا، وسعت هذه العلاقات وهذا التنفذ التدريجي إلى نقاط جديدة في العالم سواء كان في شركات الاتصالات والتكنولوجيا أم في كبرى الشركات العالمية التي لا تبيع لنا المنتجات فقط بل تبيع الفكرة وبدورها تسعى بطرق مختلفة للتحكم بالخطاب إعلاما وسياسة.
أدارت إسرائيل صراعها مع العرب على كافة المستويات، من ضمنها أنها عملت على مدى السنوات السابقة على تعزيز صورتها في العالم واستخدمت ما يسمى بالدبلوماسية الرقمية حيث خصصت أموالا طائلة وما زالت للوصول إلى الجماهير. وجيشت جنودا هائلة حتى خارج حدودها والمثال الأقرب هو وجود حسابات على الإنترنت من الهند تُسخّر لدعم إسرائيل في الحرب الدائرة الآن، وأوجدت أكثر من قناة وحساب على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، عدد منها يتحدث باللغة العربية ويوجه للعالم العربي، ربما الأكثر شهرة وتداولا لدينا هو حساب أفيخاي الذي ينشط في كل وقت وأصبح وجها مألوفا يتحدث العربية ويردد آيات القرآن الكريم ويدلل بها لبيان وجهات نظره في مختلف موضوعات الصراع العربي الإسرائيلي. بل إن إسرائيل أحيانا تلجأ لترهيب من يتجرأ على دعم الفلسطينيين ممن تعتبرهم مؤثرين في الغرب ولهذا الترهيب أساليب عديدة مباشرة وغيرها وليس تهمة معاداة السامية إلا بداية العقاب أو تحذير بوقوعه.
إضافة لذلك هو معروف أن إسرائيل مثل غيرها تجند الآلاف فيما يعرف بالذباب الإلكتروني. يعمل على تحقيق أجنداتها المختلفة وبينها زيادة حدة الخلافات والتوتر في صفوف أعدائها واختراق عقول شبابهم بأفكار هدامة.
هذا العمل المنظم الممنهج المدعوم ماديا يدعم كذلك بالاستشارات والبحوث والخبرات التي تعمل على تقديم المشورة لكيفية صياغة هذا الخطاب وأهم مكوناته واللغة التي يتحدث بها والأشكال التي يبث فيها والتواقيت الملائمة فلا شيء يأتي جزافا، وكل شيء ( تقريبا) مدروس ويأتي لتحقيق أهداف استراتيجية بعينها في الحرب والسلم. فهذا البث لا يقتصر على أوقات الصدام المسلح بل إنه خطاب متواصل، ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الخطاب (هذه الحرب الإعلامية) استطاعت أن توجد في العالم العربي ردودا تجاه القضية أقل تضامنا من مثل تحميل الفلسطينيين الذنب لبيعهم أراضيهم وشرعية التخلي عنهم بسبب انقساماتهم السياسية، وحتى من يردد أنهم تسببوا الآن في هذه القسوة الموجهة ضدهم.
طبعا طول الصراع والإحباطات المتكررة والخلافات التي ابتلي بها العالم العربي والأزمات السياسية والاقتصادية وغيرها كانت عوامل مساعدة في الوصول لهذه النتيجة. إلى أي حد يمكن أن تؤثر تلك الهزة في الرأي العام المتحد والصلب في مواجهة الاحتلال وأذرعه المختلفة، لا أستطيع أن أجزم، لكن ثمة اختراق قد حصل وبحاجة للترميم.
في المقابل نجد أن الجانب الفلسطيني الذي أضعفه الانقسام ولا يتمتع برفاهية المال والقيادة الموحدة وجد نفسه مهاجما أو على الأقل مهمشا من قبل وسائل الإعلام الغربية الكبرى، هذا التهميش الذي بلغ قبحا مزعجا في الأحداث الجارية حاليا. هذا الوضع تحديدا دفع وسرع بتبني الشباب الفلسطينيين لمنصات التواصل أوما يسمى بالإعلام الجديد ليوصل صوته.
ربما تعد بالأصابع تلك الحركات المنظمة على صفحات الإعلام الجديد من مثل: مبادرة جيش الهبد الإلكتروني وهي مبادرة على مواقع التواصل الاجتماعي تهدف إلى تبيان ادعاءات الاحتلال وقامت بعدة ضربات في الوصول إلى حسابات المشاهير والساسة عن طريق وضع تعليقاتها على منشوراتهم وخلال ذلك تفند الادعاءات وتذكر بالقضية.
وظهرت عدة حسابات لنشطاء على الانستجرام الكثير منها من نشطاء وصحفيين في غزة ونجحت في حصد متابعات عالية: متابعات مليونية. انعكس غياب تبني القيادة والدعم المادي على هذا الحضور فهي في مجملها أعمال ومبادرات شخصية منفردة ربما تتبادل ما بينها المعلومات وقد تتفق في حدود ضيقة على آليات البث ولكن مجملا هي رؤى مختلفة تتفق في قضية واحدة وحين تلتقي في المضامين ذلك يأتي؛ لأن محاور القضية باتت محددة ومعروفة لا أكثر، أولها الحق التاريخي: القصة كيف بدأت، وثانيها ممارسات الاحتلال بحق الفلسطينيين وثالثها صور الثبات والصمود والمقاومة.
ولأنها تعتمد على مهارات الشباب والإمكانات المتوفرة لديهم وتعلمهم مع الوقت وفي الغالب لا تتوفر المشورة وبيانات التحليل والدراسة وتفنيد الرأي الآخر وخطابه وفق أسس علمية تشكل معها خطة استراتيجية مدروسة إلا أنها بعفويتها نجحت في الوصول، وساعد على وصولها عمق البعد الإنساني وفداحة المعاناة فيما ينقل من أحداث على الأرض.
يلاحظ أن المواد التي يتم بثها من قبل الناشطين الفلسطينيين تتنوع في استخدامها للوسائط وإن كان يبدو أن التيك توك والانستجرام هو الأكثر انتشارا خصوصا لتوفر خاصية المواد المرئية بشكل مثالي فيهما.
كما تنوعت أشكال البث: مقطوعات موسيقية، رسم كاركاتير، الكوميديا السوداء، النقل المباشر والتغطيات الصحفية، التوثيق والتأريخ، نشر وثائق، صور تاريخية،وجوازات سفر لفلسطين وبيانات، وتفنيد تحولات القضية بالشرح والخطاب االتحليلي الموثق بالبيانات (الخطاب المثقف) الذي لم يعد حكرا على المقابلات الصحفية والتلفزيونية.
الحقيقة أن أساليب التيك توك والانستجرام قرصنت المقابلات إن صح التعبير فمقابلة باسم يوسف التهكمية الساخرة بمرارة مع بيير مورجان التي حصدت أعلى المشاهدات في سجل المقابلات التي أجراها لا تقع ضمن المتوقع في مقابلة في برنامج حوار سياسي.
ولكن أيضا ولغياب الدعم والتنسيق والقيادة فإن نشاط هذا الحسابات يظل موسميا حيث تكاد يلتفت إليها وقت الحرب والغارات فقط.
في المقابل لاقت تضامنا ليس فقط في الإعجاب وإعادة النشر رغم التعتيم ومحاولات الطمس ومحاربة شركات التواصل الاجتماعي بل انضم لهؤلاء الناشطين الفلسطينيين ناشطون عرب وأجانب يشاركون (بوستات) ومقاطع فيديو إضافة إلى تعليقاتهم وتفاعلهم.
كان لهذا الزخم في الحضور الإعلامي أثره ليس فقط في إيصال صوت القضية وتغيير اتجاهات الرأي العام لحد ما لتنحاز للفلسطينيين في معاناتهم بل حققت على ما يبدو آثارا ربما لم تكن ضمن أهدافها الجوهرية لكن نقل الحقيقة أوصل معها حقائق أخرى. تشير الكثير من تعليقات المتابعين الغربيين للمقاطع التي تبث من غزة لإعجابهم بثقافة البلد بحس التكافل وقيم الأسرة وهذا الإيمان المدهش مما دفع البعض للبحث أكثر عن الإسلام والقرآن ليفهم فيه جوانب غير ما كان يروّج له. ففي حين أن الإعلام الغربي يثير ويرفع من حدة الإسلاموفوبيا فإن مقاطع الفيديو القادمة من غزة تنشر عن المسلمين رسائل أخرى. عن الإسلام، عن المرأة المناضلة التي تعمل طبيبة، ممرضة، زوجة وأما وصحفية ولا تبدو أبدا مقموعة أو مهانة بل على العكس محاطة بالدعم والحب والرعاية وهي صورة لا يتوقعها الكثيرون هناك.
يثير الإعجاب هذا النجاح لكنه يعزى لأفراد وأشخاص في معركة طاحنة مع كيان يتموضع في شكل دولة تحتشد معه قوى متعددة. نحتاج أن نتصرف وفق الفهم الذي يشترك الكثير منا فيه: ضد من يشن هذا الكيان حربه.
في هذه الحرب طويلة الأمد لا بد من إعادة الحسابات في طرق مقاربتنا لها. أظن أن هنالك حاجة للالتفات لعمل إعلامي منظم من قبل الدول والمنظمات الإسلامية لتبني الموضوع الفلسطيني، لا بد كذلك من مقاربة جديدة تأخذ في الحسبان أن هذا الهجوم وما قبله وأي هجوم لاحق سيبنى على ذات الفكرة: ارتباط العالم الإسلامي بصفات الإرهاب والبربرية.
أن نقدم أنفسنا إلى العالم فيقبل ثقافتنا، هيئاتنا ورموزنا الدينية دون ربطها بعلامات التحذير أو تقابل بالرفض، وتبيان بكل الممكن أنها كذبة ولعبة سياسية. حتى لا تعود حجة ممكنة لأي استهداف في المستقبل. ناهيك عن العمل بالضرورة على التطوير في كل السياقات الأخرى في العلوم والمعرفة والاقتصاد. في هذه الحرب على غزة ينتقل الصراع إلى مرحلة جديدة فهو يهدف إلى كسر الروح وإبادة فكرة النضال والعودة. فمحاولات التهجير المتكررة لن تشرد اللاجئين بمرارة فقط وتقسم أرضهم المقسمة تباعا، بل هي استعراض يلوّح بتهديد عسكري واستراتيجي لأية محاولة مقاومة. ناهيك عما يشاع عن المشاريع الاقتصادية التي يخطط لها والتي إن صدقت ستجعل للحرب وجوهًا عديدة خصوصا وأن حالات التمكن والهيمنة بأشكالها اللاعسكرية بدأت تتسلل إلى العمق العربي. اتفاقيات التطبيع هي شكل مقنع لها وإن تمكنت من مناطق هشة عسكريا وسياسيا وحيوية اقتصاديا فهي ستعمل ليس فقط على الاستفادة من الوضع بل سيتحتم عليها لتجني هذه الاستفادة أن تضعف الدول حولها (وحولها هنا أقصد قريبا من حدود دول التطبيع) كما فعلت في لبنان والأردن وسوريا وغيرها. عمليا أصبح الجميع منخرطا في الحرب الدائرة ويواجه خيارات وتحديات صعبة. لعبة العلاقات والمصالح العالمية هي أوراق تستثمر وفق الحاجة وتُكيف مع التحولات. إسرائيل تتخلص شيئا فشيئا من الولاية للولايات المتحدة. خرجت من طور البنوة لطور الصديق ( لم نعد نسمع ألفاظا من مثل الولايات المتحدة تحذر إسرائيل والتي كانت تقال في أحيان نادرة في حالات القسوة ضد المدنيين، الآن الولايات المتحدة تنصح أصدقاءها) وربما من يدري مع انغماسها في الحياة السياسية الأمريكية ومع هذا الانحلال الذي نراه في القارة الأوروبية والولايات المتحدة والذي سيأخذ أمده، لكن هناك تطورات تلوح في الأفق، ليس أدل عليها من حالة آخر رئيسين في الولايات المتحدة الأمريكية، ربما ستقلب الأدوار في علاقة البلدين حتى وإن قلنا أن أوروبا والولايات المتحدة يبقيان إسرائيل لمصلحة خاصة ولن يسمحا لها بالتضخم للحد الذي تكون لها الكلمة عليهم. السياسة لعبة الأحابيل ومتغيرات عديدة في داخل هذه الدول قد تضعف فيها هذه القوة. وحتى وإن لم تتغير طبيعة العلاقة فإنها في شكلها الحالي وشكلها الذي نحذر من أن يحصل وهو تنامي الكيان الصهيوني الذي يخدم الدول الغربية ويتضاد مع مصالحنا. هناك تنامي القوى الاقتصادية في الشرق: الصين والهند اللتان لا تتوانيان عن الانضمام للتجاذبات السياسية متى ما خدم ذلك مصالحها وآيدلوجياتها، إلى الآن لا يبدو أن لدى العالم العربي داعمين حقيقيين يعتمد عليهم ولو من باب توافق المصالح. ليست غزة فقط وإن كانت غزة ضنينة..المنطقة كلها على المحك. ومن يسرق منك تراثك وثقافتك لن يتوانى عن إقصائك بالكامل إن أتيحت له الفرصة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
أمريكا أولا!
يتهرب المثقفون الأمريكيون المعارضون للسياسة الأمريكية الخارجية دوما من مسؤوليتهم الرئيسة تجاه كوكبنا، لا سيما عندما لا يعيرون أي اهتمام للتأثير الذي سيخلفه تصويتهم في الانتخابات العامة لمرشحين سيكون لسياساتهم وقراراتهم أعظم الأثر على بقية الكرة الأرضية. وتبدو حقيقة أن الولايات المتحدة هي القوة القاهرة التي تسيطر على أغلب بلدان العالم منذ عام 1990، إن لم يكن قبل ذلك، غير ذات أهمية بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين الذين يتظاهرون بالكوزموبوليتانية أو حتى بانتمائهم إلى العالم ككل وليس فقط إلى دولتهم. فعادة عندما يدور الحديث عن كوكبنا بوصفه "قرية عالمية"، لا تتم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تهيمن على هذه "القرية". وفي ظل نظام الفصل العنصري العالمي الذي نعيش فيه، لا يحق سوى للأمريكيين بالتصويت للقوة التي تسيطر على بقية العالم، وهي حقيقة لا ينكرها إلا قلة من هؤلاء المثقفين والأكاديميين "العالميين"، ولكنهم عندما يقومون بالمشاركة في الانتخابات الأمريكية العامة فإنهم يهتمون في المقام الأول بالتأثير الذي قد تخلفه أصواتهم على الولايات المتحدة حصريا.
لقد ظللتُ لعقود من الزمان أُسائل هؤلاء المثقفين والأكاديميين الذين يتظاهرون بالعالمية؛ كيف يمكنهم عندما يشاركون بالانتخابات أن يأخذوا في الاعتبار فقط تأثير سياسات الحزب الديمقراطي أو الجمهوري على الشؤون الداخلية التي تؤثر على نحو 345 مليون أمريكي، مقارنة بسياسات الحزبين العالمية والتي تؤثر على 8 مليارات نسمة من سكان الأرض.
الواقع يكشف زيف "النزعة العالمية" التي يتظاهر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون، والذين يدّعون بأنهم "مواطنو الكرة الأرضية" وليسوا فقط أمريكيين، خاصة بعد تنامي اهتمامهم في العقدين الأخيرين بأزمة المناخ. إلا أن هذه النزعة العالمية تتلاشى في كل مرة يشاركون فيها في الانتخابات العامة، حيث يظهر بوضوح انحيازهم للمصالح المحلية القومية، ودعمهم المطلق لمبدأ "أمريكا أولا"
الجواب الجاهز دائما وأبدا هو أن كلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يتبنيان سياسات إمبريالية على المستوى العالمي، بينما ينحصر الخلاف بينهما في القضايا الداخلية. من هنا، يظهر خيار التصويت لصالح "الشر الأقل" وكأنه استراتيجية مبررة، حيث يتم الدفاع عن هذا الخيار كخير مطلق بغية التغلب على "الشر الأكبر". غير أن هذا المنطق يغض الطرف عن مصير مليارات البشر حول العالم الذين تخضعهم الولايات المتحدة لهيمنتها وتقمعهم بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل تحقيق بعض الإصلاحات الداخلية التي تمسُّ فقط شريحة من الطبقة الوسطى في أمريكا، والتي تعد، إلى جانب الأثرياء الأمريكيين، المستفيد الرئيس من السياسات الإمبريالية التي تفرضها الولايات المتحدة عبر القمع والاستغلال على شعوب العالم الأخرى.
هذا الواقع يكشف زيف "النزعة العالمية" التي يتظاهر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون، والذين يدّعون بأنهم "مواطنو الكرة الأرضية" وليسوا فقط أمريكيين، خاصة بعد تنامي اهتمامهم في العقدين الأخيرين بأزمة المناخ. إلا أن هذه النزعة العالمية تتلاشى في كل مرة يشاركون فيها في الانتخابات العامة، حيث يظهر بوضوح انحيازهم للمصالح المحلية القومية، ودعمهم المطلق لمبدأ "أمريكا أولا".
كان المعارض الأمريكي المناوئ للإمبريالية نعوم تشومسكي قد زعم ذات مرة باستخفاف أنه لا يمكن لأي شعب تهيمن عليه الولايات المتحدة في عالمنا أن يهزم الإمبراطورية الأمريكية ومندوبيها الاستعماريين في أوروبا، وأن المعارضة الناجحة للسياسات الإمبريالية لا يمكن أن تأتي إلا من الأمريكيين ومن شعوب أوروبا الغربية: "ليس هنالك سوى بعض الخيارات الواقعية القليلة في العالم كما هو قائم، ما لم تصل شعوب القوى الكبرى إلى مستوى من الحضارة يتجاوز أي شيء نراه الآن وتكبح جماح عنف الدول التي تهيمن على النظام الدولي". وأضاف بقدر كبير من الثقة: "أما بالنسبة لحركات التحرير في العالم الثالث في فترة الستينيات، فلم أكن أعتقد أبدا أن بمقدورها أن تقدم أي دروس مفيدة للاشتراكيين الغربيين".
ورغم أن تشومسكي أعلن هذا الكلام في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، فإن كلامه هذا جزء من نقاش مهم يعود تاريخه على الأقل إلى العقد الأول من القرن العشرين حول أهمية حق تقرير المصير للشعوب المستعمَرة، وما إذا كان نضالها ضد الاستعمار والإمبريالية هو النضال الأساسي الذي من شأنه أن يساعد في هزيمة الإمبراطوريات الاستعمارية. وكان الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا النقاش حول المسألة الاستعمارية قد جرى في أوائل عشرينيات القرن العشرين داخل الأممية الشيوعية، وتركز النقاش حينها حول مسألة "أرستقراطية العمل"، أي الطبقة العاملة في الدول الإمبريالية والاستعمارية، والتي، كما زعم الناشط الشيوعي الهندي مانابيندرا ن. روي، لن تكون أبدا حليفة للعمال والفلاحين في البلدان المستعمَرة، حيث كانت القوى الإمبريالية ترشو طبقاتها العاملة بالأرباح التي تجنيها في المستعمرات.
ففي حين اعتمدت السياسة السوفييتية في هذه الفترة على توقعها بانتصار الثورات الاشتراكية وسيطرتها على الدول الاستعمارية الأوروبية، والتي من المفترض أنها بعد نجاح ثوراتها ستساعد في تحرير المستعمَرات (وهو الموقف الذي أعاد السوفييت النظر فيه في عام 1921 بعد هزيمة الثورات الأوروبية واندلاع الانتفاضات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم المستعمَر)، زعم روي أن تحرير العالم المستعمَر هو في الواقع الشرط المسبق والضروري لتحرير العالم المستعمِر، وهو الموقف الذي كان متسقا مع موقف فلاديمير لينين بشأن هذه المسألة، لكن الأخير لم يضعه كشرط مسبق.
وقد تبنى هذا الموقف أيضا المفكر المناهض للاستعمار فرانز فانون الذي أدرك في أوائل ستينيات القرن العشرين أن المستعمَرين (بفتح الميم) وحدهم هم القادرون على هزيمة النهب الإمبريالي المستمر الذي يمارس على طول وعرض الكرة الأرضية، وخاصة في ظل تواطؤ الليبراليين والاشتراكيين البيض في البلدان المستعمِرة، والذين هم، مثل أرستقراطية العمال البيض، مستفيدون مباشرون من النظام الإمبريالي: "ابتعدوا عن أوروبا هذه التي لا تتوقف أبدا عن الحديث عن الإنسان، في حين تقتل البشر أينما وُجدوا، في كل زاوية من من شوارعها، وفي كل بقعة من بقاع الأرض". وأضاف فانون: "قد تجد بعض الأوروبيين الذين يحثون العمال الأوروبيين على تحطيم هذه النرجسية والانفصال عن هذا الوضع غير الواقعي، ولكن بشكل عام، لم يستجب عمال أوروبا لهذه الدعوات؛ لأن العمال يعتقدون أيضا أنهم جزء من المغامرة الهائلة للروح الأوروبية".
أستشهد بهذا التاريخ لإظهار أن العديد من الشيوعيين في عشرينيات القرن العشرين، مثل معظم الليبراليين والاشتراكيين البيض حينئذ كما اليوم، كانوا يضمرون مثل هذه المركزية الأوروبية؛ وكانوا دائما على استعداد للتضحية بمصير بقية العالم في سبيل انتصار الثورات الأوروبية في حالة الشيوعيين، أو الإصلاح المحلي في حالة الليبراليين، أو حتى الأناركيين مثل تشومسكي، في الولايات المتحدة.
كيف يمكن للمرء أن يفسر التعاون المستمر بين المثقفين الليبراليين واليساريين، وخاصة الأكاديميين منهم، في الغرب، مع النظام الإمبريالي واحتقارهم لبقية العالم أو إهمالهم وتجاهلهم له على الأقل؟ لماذا ما يحركهم اليوم هي مسألة المناخ، وليس الإبادة الجماعية والمجاعات والفقر والحروب الإمبريالية الهمجية حول العالم؟
كيف يمكن للمرء أن يفسر التعاون المستمر بين المثقفين الليبراليين واليساريين، وخاصة الأكاديميين منهم، في الغرب، مع النظام الإمبريالي واحتقارهم لبقية العالم أو إهمالهم وتجاهلهم له على الأقل؟ لماذا ما يحركهم اليوم هي مسألة المناخ، وليس الإبادة الجماعية والمجاعات والفقر والحروب الإمبريالية الهمجية حول العالم؟
الإجابة بسيطة، إن تأثير أزمة المناخ التي ورثناها كنتيجة مباشرة لأفعال وسياسات الولايات المتحدة وأوروبا، محسوس الآن أيضا في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهاتان المنطقتان هما الشغل الشاغل الرئيس للأكاديميين، والمثقفين الليبراليين، واليساريين الأمريكيين والأوروبيين. أما حيلتهم التي تدعي بأن اهتمامهم بقضية المناخ يجعل منهم "مواطني الكرة الأرضية" فليست أكثر من أحدث زعم من مزاعمهم الكاذبة بالعالمية، في حين أنها ليست أكثر من دليل إضافي على ضيق أفقهم وقوميتهم العنصرية.
قد يتصور البعض أن الامتيازات العرقية والقومية التي تمنح الناخبين الأمريكيين القدرة على تقرير مصير العالم وسكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة قد تكون محط اهتمام لدى الأمريكيين الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين للقومية والإمبريالية، أو يعرّفون أنفسهم ببساطة كمواطنين عالميين. لكن الواقع بعيد كل البعد عن هذا التصور؛ فما يجمع الناخبين الليبراليين واليساريين في الولايات المتحدة مع نظرائهم من اليمين في انتخابات هذا العام، هو نفس ما وحّدهم دائما: "أمريكا أولا، ومن بعدنا الطوفان!"