د. أسماء عبدالوهاب الشهاري
تكالبٌ عربيٌ عبريٌ غربي على فلسطين أرضاً وإنساناً ومقدساتٍ وقضية.
فليس هنالك ثمة فرق بين من يقتل ومن يتفرج ومن يشجع ويدعم بالسلاح الفتاك والأموال وبكلامه ومواقفه أو حتى بفحش صمته أمام مناظرٍ تتشقق من شدة هولها السماوات وتزول الجبال.! ويخسف القمر وتكسف الشمس بشكلٍ متلاحق من هول الجرائم وقبحها.
ففي الساعات الأولى التي عقبت عملية #طوفان_الأقصى المباركة لم تتردد الأنظمة العميلة حتى لهنيهةٍ واحدة في إدانتها للعملية ودعوتها جميع الأطراف -حسب وصفها- لضبط النفس وعدم الانجرار لدائرة العنف.
ad
وفي الوقت نفسه نجد أنه عندما كشرت الصهيونية عن أنيابها وكشفت عن وجهها الأكثر وحشيةً ودموية غابت الأصوات وخرست الألسن!
لم تقتل الصهيونية العرب والمسلمين بانتهاك مقدساتهم وسفك دمائهم بالآلاف أو حتى بعشرات الآلاف. لكنها استهدفت قبل ذلك الملايين منهم بعمليات التدجين الممنهجة طوال عقودٍ من الزمن في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وغيرها الكثير. فهم اليهود الأشد مكراً ودهاءً وخبثاً. وكأنّهم أرادوا أن يضمنوا موت الشعوب عندما يمارسون طقوسهم الشيطانية في القتل وفي تنفيذ مخططاتهم؛ وعندما يخربون بيوت المسلمين ونفسياتهم عبر الشاشات ومن خلال جميع المواقع والأدوات. حيث أنهم لم يستكينوا للحظة في حبك المُآمرات وافتعال الحروب وصنع الأزمات على هذه الأمة وأبناءها ادراكاً منها للأهمية القصوى لذلك في تسهيل عمليتها في استمرارها وتحقيق أهدافها في المنطقة والعالم.
وقد نجحوا نجاحاً كبيراً مع الأسف. فكما أن هناك الأحرار والشرفاء والغيارى على الأمة وأبناءها وقضاياها الكبرى؛ فهناك في المقابل أعداد كبيرة جدا من الذين تم تدجينهم وإفراغ عقولهم من أي قضايا مهمة وجوهرية وتحويلهم إلى إمعات ودُمىً جوفاء تتلاعب بها الصهيونية كل همها كيف تقضي حياتها في اللهو واللعب وإشباع غرائزها وأن تضمن ألا يتحرك منها ساكن وهي ترى المجازر الجماعية ولا يكون لها صدى صوت يذكر. وقد سعت لذلك ونفذته عبر العربان والمتأسلمين أنفسهم الذين هم يد الصهيونية في جميع هذه الدول سواءً كان ذلك بوعي أو بدون وعي. كما حصل في بلاد الحرمين الشريفين من فتح المراقص وإباحة المنكرات ونشر الرذائل والمحرمات – وقد تحدثت عن ذلك باستفاضة أكثر حول تدجين الشعوب العربية والإسلامية وكيف أسهم ذلك في كل ما وصلت إليه هذه الشعوب اليوم في مقالٍ سابق-.
لذلك نجد أمريكا الصهيونية ودول الغرب الكافر قد تولت بعضها بعضاً وأظهرت وأعلنت عدائها للعرب وكل ما هو مسلم وبملء فيها. ولا تجد هذه الدول والمنظمات الإرهابية المجرمة -ولا غيرها إرهابي- أي حرج عندما تصرح بأقوالها وأفعالها ومواقفها بدعم الصهيونية والوقوف لجانبها بكل قوة وبكل ما تقدر عليه ودعم وتشجيع جرائمها المروعة في غزة وكل فلسطين التي يندى لها جبين الإنسانية بل وتختفي من هولها كلمة إنسان من كل معاجم اللغة في كل أنحاء الكرة الأرضية! وهم يمسحون مناطق بأكملها مع القانطين فيها بكل وحشية وإجرام من على وجه الأرض واستهدافهم جواً وبراً وبحراً بأسلحة محرمة دولياً كاليورانيوم والفسفور الأبيض فهي قاتلة إجرامية وآثارها شديدة الكارثية لأن آثارها مدمرة وهي حارقة لكل شيء تصل إليه وشديدة السمية وليس ثمة أدوية تشفي من آثارها الرهيبة. فكيف إذا تم صبها صباً على رؤوس الأبرياء المحاصرين والذين يعانون من نقص شديد في الدواء والغذاء قبل الاعتداء عليهم. فكيف عندما يتم استهدافهم بشكل بربري جنوني وإبادتهم وهم لا يمتلكون حتى الممكن من الوسائل البدائية لمواجهة معشار من كل ذلك الهول العظيم وعلى رأسها الاحتياجات الطبية والدوائية.!
هذا كله وما يسمى زعماء العرب والمتأسلمين في سباتٍ عميق على الرغم من استطاعتهم لتقديم المساعدات-كحد أدنى- والتخفيف ولو بأقل حد عن كل تلك المعاناة التي لا يقوى أحد على تحملها.!
وأمام ذلك كله تبدو اليوم المسؤولية مضاعفة على أحرار وشرفاء أبناء هذه الأمة في أن يعملوا على استنقاذ ما يمكن استنقاذه من أخوانهم المدجنين الذين يبدون مخدرين أمام هكذا ويلات يعاني منها أبناء دينهم وجلدتهم وأن يتم استخراجهم من غياهب الجب الذي ألقاهم فيه الصهاينة والمتصهينين حتى يسمعوا ويروا ويفيقوا ويتحملوا مسؤولياتهم و واجباتهم الدينية والأخلاقية والإنسانية، وأن يستخدم أحرار الأمة في ذلك كل الوسائل الممكنة التي تعمل بشكل أساسي على شحذ الهمم وتوحيد الصفوف وجمع الكلمة ومواجهة أعداء الأمة الذين على رأسهم القادة من الأعراب والمتأسلمين الذين حينما احترقت بعض الغابات في إسرائيل- فلسطين المحتلة- ذات مرة لم ينتظروا للحظة وهرعوا لإرسال الطائرات والمليارات كأردوغان تركيا -المدعو كذباً خليفة المسلمين وهو ليس حريصا على قضايا أبناء أمته ولا أمين. الخائن وأكبر المطبعين- وكذلك الإمارات العبرية المتحدة وغيرها الكثير. وما أجلها من مصيبة حلت على الأمة عندما تولى عليها ابن زايد وابن سلمان ومن المغرب إلى البحرين والأردن قادة ليس لديهم ضمير ولا ينتمون لجنس بني الإنسان. فهم للصهاينة كما الروح للأبدان!
وذلك مصداقاً لقوله تعالى: ” ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا … “
فهم أخوتهم وهم منهم الأشد حرصاً على بقاءهم و وجودهم وتحقيق كل مخططاتهم؛ فبريطانيا لم تسمح بوجود وحكم بني سعود في أرض الحرمين حتى يكون هؤلاء هم الداعم والحارس على أبناء عمومتهم من بني صهيون. إنهم الخونة العرب الذين لم يسمحوا بدخول أقل ما يجب دخوله للمحاصرين والمكلومين من أبناء الإسلام في غزة لا عبر الأردن ولا عبر مصر العروبة والإسلام!
بيد أن حكومة الأردن تسمح بإقلاع طائرات العدو الصهيوني من أرضها لارتكاب المجازر بحق جيرانهم واخوتهم في الدم والدين!
السعودية التي تستقبل وتنفق على ترامب وبايدن مليارات الدولارات، الداعم الأكبر والأول للصهاينة في العالم ولا يجدون أي حرج من التصريح بذلك. اين هي من صراخ وآهات أطفال فلسطين!
اخوانهم اليهود فقط هو كل ما يهمهم. حتى وإن لزم الأمر على إجلاء الآلاف من أبناء المسلمين على أيدي الصهاينة إلى مكانٍ غير أمين وإبادتهم أو إرجاعهم لاحقاً إن رأى الصهاينة ذلك -حسب وصف أحد الزعماء المتأسلمين- فذلك ليس مهم بالنسبة لهم في شيء؛ فالمهم عندهم هو القضاء على كل من يتولى أمر الجهاد ضد اخوتهم الصهاينة – امتثالاً لأمر الله وحق تضمنه لهم كل القوانين والشرائع إزاء كل بشاعتهم وإجرامهم- ومقاومتهم! فقد جاء ذلك على لسان أحد المستعربين وهو لسان حال الخونة والعملاء أجمعين. لكن أنّى لهم ذلك فلا يزال هناك من يذود عن المقدسات ويثأر لدماء الأبرياء ولدين الله والحرمات.
تحرير الأقصى وكل شبر في أرض فلسطين المسرى ليس ضرباً من الخيال، بل هو أسهل مما كان يتخيل أي أحد فينا وحتى فيهم.. ويوم السابع من أكتوبر المبارك أكد هذه الحقيقة. كما أكده كتاب الله العظيم والكتب السماوية من قبله. قد يكون التحرير على مراحل أو مستويات. كل ما في الأمر هم صهاينة العرب الذين لا يزالون لهذه اللحظة يطبعون ويقيمون العلاقات المحرمة والغير شرعية مع كيان العدو. يشهد على ذلك وجود السفارات الإسرائيلية في عدد من الدول العربية والإسلامية بعد كل جرائم الصهيونية بحقنا وبحق أخوتنا إلى هذه اللحظة. يشهد على ذلك القواعد الأمريكية المتواجدة في عدد من دول الخليج وغيرها. -وليست بمنأى عن غضب وصواريخ محور المقاومة-
الطريق إلى الأقصى يبدأ من الثورة ضد هؤلاء والإطاحة بهم. الشعوب قادرة وأثبتت فيما يسمى الربيع العربي قدرتها على التواجد في الشارع بأعداد كبيرة جداً والضغط على هذه الحكومات وانتزاع حقها بل والتغيير للأفضل لما فيه خير الأمة جمعاء.
أن تُسمع هذه الشعوب صوتها للعملاء بعد كل صلاة جمعة. أن تقيم لأحرارها المنابر في كل قنوات التواصل. الرهان اليوم هو على يقظة الشعوب في أن تسقط سفارات الأعداء وأن تسقط العملاء. عليها فقط أن تبدأ بالتحرك الجاد بالكلمة وبالموقف وبكل ما تقدر عليه والله كفيل بتحقيق سعيها وانجاز مسعاها.
على كل حر في الأمة وفي العالم كله أن يصنع له بصمة على طريق تحرير الأقصى. حتى يدخلها حقاً. أو يكون قد مهد لمن سيدخلها قريباً في أقل الأحوال.
لا تتركوا شرف المشاركة في هذا الأمر العظيم والشرف الأعظم. وإنّهُ لآت. وإنَّ القدس لقريب.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة
المقال ادناه نشر في زمانه و لكنه يعود حيا عند ذكري كل دكتاتور و حكم شمولي . اقترحت علي صديقي السفير عوض محمد الحسن اعادةً نشره تحت هذا العنوان الجديد فوافق
الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة. د. أحمد التيجاني سيد أحمد
كتب السفير عوض محمد الحسن Awad Elhassan
"والكلام ليك يا المنطّط عينيك!"
الدرس الأول: "كل أول وليه آخر"، والأوضاع غير الطبيعية قد تستمر لبعض الوقت (أكثر من نصف قرن في سوريا وأكثر من ثلاثين سنة في السودان ومثل ذلك في أماكن عديدة أخرى)، ولكنها قطعا لا تدوم.
الدرس الثاني: السلطة "تلحس" العقل، والضمير، والوجدان؛ وتعمي البصر والبصيرة عن رؤية الحق والحقائق؛ وتصمّ الأذن عن نصح الناصحين وأنّات المظلومين والمكلومين. "السلطة مفسدة، والسلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة"، كما أفتى قديما الخواجة لورد آكتون. أنظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى عشرات السيارات الفارهة التي تركها بشار الأسد في قصره المنيف، وأكداس العملات والحلي المهولة التي تركها بن علي وراءه في قصر قرطاج، (والحسابات المصرفية والممتلكات الفاخرة التي دسّها أقطاب نظام الإنقاذ\الجبهة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها – ولا تنسى "يخت" عمر البشير الفاخر المهمل على شاطئ النيل الأزرق الذي شروه بملايين الدولارات لشخص ليس له نصيب في فنون السباحة والإبحار!)
الدرس الثالث: سقوط الطغاة والأنظمة لا يعني بالضرورة تحسن الأحوال بعد سقوطهم. وفي غالب الأحيان، تظل الشعوب تدفع ثمن أخطاء وخطايا الطغاة والأنظمة لسنوات طويلة بعد زوالهم (أربعة عقود من خمج القذافي، وثلاثة عقود من فساد البشير، وعقود طويلة من “سيطرة" موبوتو ، وعبث وجنون بوكاسا وغيرهم)؛ يُسددونها من دمائهم وعرقهم وبؤسهم، ودمار مقدراتهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم المُقبلة، (كما حدث في العراق، وليبيا، واليمن، والسودان، على سبيل المثال). والشعوب المحظوظة هي التي تخرج بأقل الخسائر (رواندا، سيراليون، وليبيريا، وكمبوديا – مثلا). (أنظر مقالي القديم المرفق أدناه بعنوان "فيزياء السياسة").
الدرس الرابع: العالم\المجتمع الدولي لا يهمه كثيرا مصير الشعوب المقهورة بأنظمتها أو المحتلة بدولة أخرى مهما بلغ القهر والبشاعة والوحشية والظلم، حتى حين يصل الحال لدرجة التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية، أو محو البلاد بأهلها (كما يحدث الآن في غزة وفي السودان). ترى الدول الكبرى وتعلم علم اليقين أن الطغاة والأنظمة الباطشة تخنق شعوبها، وتستبيح مقدراتها، وتفقر مجتمعاتها، وتُعذب وتقتل المعارضين والمدنيين دون رحمة، ولا تحرك ساكنا، بل تواصل التعاون مع هذه الأنظمة، وتتبادل الزيارات مع قادتها، وتجالسهم في المؤتمرات والمناسبات، وقد ترفع معهم الأنخاب. وحين تبلغ مآسي الشعوب المقهورة ذروتها، وتصبح في صدارة نشرات الأخبار في كل ركن من أركان العالم، "يُمصمص" المجتمع الدولي وكبار دوله الشفاه، وتصدر بيانات التعبير عن القلق، والمناشدة بضبط النفس، والتهدئة، والمطالبات بوقف العدائيات، وحماية المدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي، والتوسط عبر ممثلين للأمين العام للأمم المتحدة والتجمعات الإقليمية والدول الكبرى. وقد يصل ذلك إلى مرحلة الشجب والإدانة، وجلسات مجلس الأمن، وربما فرض العقوبات الانتقائية، مع تسيير قوافل الإغاثة. بعدها يُدير المجتمع الدولي ظهره لتلك الشعوب، ويغمض عينيه راضيا عما قام به من جهود لا تُوقف النزيف والفوضى والدمار. أنظر إلى موقف الولايات المتحدة من جريمة العصر في غزّة التي تحدث تحت بصر وسمع العالم. تواصل إسرائيل تدمير غزة بأكملها على رؤوس أطفالها ونسائها وشيوخها، وتمنع عنهم الماء والغذاء والوقود ووسائل الاتصال، وتهدم المشافي والمدارس والجامعات والبنيات التحتية، ولا يتجاوز رد فعل الولايات المتحدة على الزيارات المكوكية لوزير خارجيته، والمطالبة (الخجولة) بوقف إطلاق النار، وتسهيل انسياب المساعدات الإنسانية، و"تحنيس" إسرائيل بالترفق بالمدنيين (وهي تمدها بالقنابل زنة ألف رطل)! وكأنها تقول: "والنبي بالملسا"، كما تضرع الجندي المصري في حملة هكس باشا في معركة شيكان حين سقط على الأرض وهجم عليه محارب من أتباع المهدي، يحمل مجموعة من الرماح من مختلف الأشكال، بينها "الكوكاب" المخيف الذي يخترق الجسد بسهوله، ولكنه لا يخرج إلا إذا انتزع الأحشاء.
حين أنظر الآن (من منظور سوداني وإنساني) إلى سوريا وهي في مهب الريح، مقطعة الأوصال، مثخنة بالجراح، ومستباحة من الجميع، تنتابني أحاسيس شتى: الفرح لخلاص الشعب السوري من كابوس نظام الأسد الدموي المجنون؛ والإشفاق والجزع مما قد يصيبه في مقبل الأيام، والتعاطف (لأن المصائب يجمعن المصابين)، والكثير من الحزن على الهدر العبثي المتوحش لأكثر من نصف قرن للأرواح والموارد والزمن في بلد له عمق واسهامات حضارية منذ فجر التاريخ.
نسأل الله أن يلطف بالشعب السوري (وبنا)، وأن يهدي أشتات طوائفها، وفصائلها، وإثنياتها، وأقاليمها سواء السبيل، وأن يجعل الجميع يعملون على إعمار بلادهم، ويتعظون بما حدث لهم ولغيرهم وهم يفرغون سجونهم، وينبشون مقابرهم الجماعية، ويهيئون بلادهم لعودة ملايين النازحين واللاجئين الذين طال شتاتهم داخل وخارج سوريا.
فيزياء السياسة
أحد القوانين الصارمة للطبيعة هو أن الطاقة لا تتبدد ولا تتلاشى إنما تتحول من شكل لآخر. فطاقة المياه الجارية تتحول إلى حركة دائرية في التوربينات، فتتحول إلى طاقة كهرائية يمُكن أن تتحول إلى طاقة حرارية أو إلى ضوء أو إلى حركة. الطاقة لا تتلاشى.
ينطبق نفس القانون على السياسة، فسجل الحكام والأنظمة والحكومات وشططهم لا يتلاشى بنهاية الحكام والأنظمة؛ لا تتبدد السياسات الخرقاء المتخبطة، ولا الظلم، ولا الفساد والإفساد، ولا القهر، ولا الإذلال، ولا خراب المؤسسات والاقتصاد والذمم، ولا إهدار المقدرات، ولا وأد مستقبل الأجيال القادمة. لا يتلاشى كل ذلك بتغيير الحكام والأنظمة، بل يستحيل أولا إلى غُبن، ثم إلى غضب كظيم، ثم إلى احتقان، فاحتجاج، فمقاومة، ثم إلى عنف، وحرب أهلية وربما فوضى لا تبقي ولا تذر.
في الصومال، بعد سنوات من التخبط و"التجارب" الأيديولوجية وإثارة النعرات الجهوية، وصل الحال بالرئيس سياد بري (الذي قدِم للحكم عبر انقلاب أبيض في عام 1969 مُبشرا بتطبيق الاشتراكية العلمية علي هدي المبادئ الإسلامية!) إلى طريق مسدود (وعقل مسدود)، رفض فيه كل الدعوات السلمية من المعارضة لتغيير سلمي يُشارك هو فيه بعد أن شارفت البلاد على الانهيار، ثم انقلب على أهل الشمال، فقصف هرقيسا بسلاح الجو، مُطلقا بذلك مارد الحرب الأهلية من قمقمه، مُنهيا حكمه وحياته، وناسفا استقرار الصومال - إلى الأبد فيما يبدو.
وفي كمبوديا، حين عجزت ادارة نيكسون الأولى (1968-72) في كسر شوكة ثوارالفيت كونج في فيتنام الجنوبية، وفي تركيع فيتنام الشمالية رغم القصف الوحشي لأراضيها، وحين احتدمت المعارضة للحرب في داخل أمريكا وخارجها، قرر نيكسون قصف كمبوديا المُسالمة المُحايدة للقضاء على خطوط أمداد الفيت كونج، مُدخلا كمبوديا في حرب أهلية ومسلسل دموي بدأ بانقلاب لون نول وعزل الأمير سيهانوك، ثم استيلاء الخمير الحُمر على السلطة في 1975، وغزو فيتنام للبلاد وتنصيب حكومة موالية لهم في 1979 وما تبع ذلك من هزّات. وقد كانت فترة حكم الخمير الحمر كابوسا لن يُنسى، أحالوا فيه كمبوديا المسالمة، "سلة غذاء" الهند الصينية، إلى "حقول" للموت والمجاعات، وأتوا، بقيادة بول بوت، فرنسي التعليم واللسان، بأصولية جديدة أرادوا عبرها "إعادة صياغة" شعب كمبوديا، قتلت نحو ثلاثة ملايين، وأفرغت المدن من ساكنيها "لإعادة تعليمهم" وإشراكهم في الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل، وقتلت كل من يتحدث لغة أجنبية، أو على قدر من التعليم - أو حتي من يلبس نظارات طبية لصلة ذلك بالقراءة! ورغم مضي ما يقارب الأربعة عقود على فترة الخمير الحمر القصيرة، ما زالت كمبوديا تجاهد للتعافي من تركتهم المثقلة.
وفي ليبيريا، أفضت سيطرة الليبيريين العائدين بعد تحريرهم من العبودية في أمريكا، والتي امتدت نحو قرنين من الزمان، واستئثارهم بالسلطة والثروة على حساب الليبيريين "الأفارقة"، إلى تحويل الغُبن المتراكم إلى عنف، تمثل أولا في انقلاب الشاويش صامويل دو (أول رئيس من سكان البلاد الأصليين)، والذي مثّل بجثث آل توبمان وتولبرت علي رمال شواطئ منروفيا، وانتهى بحرب أهلية مدمرة (1989 – 2003) امتدت نيرانها إلى دول الجوار وخاصة سيراليون، وشهدت ألوانا من العنف لا تزال تؤرق ذاكرة البلاد، واضطرابا في الأحوال استمر لسنوات طويلة. -2003
الأمثلة لا تُحصى. رغم انهيار الإتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، ما زالت روسيا تدفع فاتورة شطط الحزب الشيوعي: تلقت روسيا (وهي بلاد تذخر بالثروات) العون الغذائي من الغرب في الفوضى التي أعقبت الانهيار، وبعد أن هدأت الأحوال، تلفت الروس فوجدوا اقتصادا شائها في ظل التحرير، وفسادا شاملا، واستشراء للجريمة المنظمة. وفي مصر وتونس وليبيا، على اختلاف التجربة، اسقطت هذه الشعوب حكوماتها، ولكنها ستُسدد بعرقها ومعاناتها وعنتها، وبدمائها لا شك، ثمن شطط الأنظمة السابقة وفسادها وظلمها للضعيف واحتقارها للإنسان العادي الذي يمثل الأغلبية الساحقة. وفي سوريا واليمن والسودان، وغيرها، ستواصل شعوب هذه البلدان معاناتها حتى بعد سقوط الأنظمة.
الأنظمة الباطشة ذات النظر القصير والألسنة الطويلة لا تأبه كثيرا لمستقبل شعوبها ولا لحاضرها، ولا تتنكر ماضيها، أو لا تقرأه قراءة حصيفة، ولا تتعظ بعبر غيرها؛ تطلق الرصاص على قدمها (كما يقول الفرنجة)، وعلى شعوبها أيضا، وتحفر في همة عجيبة قبورها بيدها (وقبور شعبها في أغلب الأحيان). وحين تسقط وتذهب غير مأسوف عليها، تترك وراءها قنابل موقوتة تتفجر لسنوات وسنوات. والشعوب المحظوظة هي التي تخرج من المحنة بأقل الخسائر نسبيا (مثل موزمبيق، مثلا)، وأتعسها حظا هي التي تخرج من اتون الأنظمة الباطشة لتقع في مرجل الحرب الأهلية ثم في مستنقع الفوضى اللانهائية (كالصومال، مثلا).
نسأل الله التخفيف!
2012
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com