لم يكن روجيه جارودي أوّل ولا آخر من مُنعت كُتُبُه وحوكم وحوصِرَ ولم يجد في فرنسا بلد الحريّة والديمقراطية من ينشر كتابا خصّصه لتكذيب «الهولوكوست» وإدخالها من ضمن الأساطير التي انبنت عليها دولة إسرائيل، في كتابٍ جلب الهمّ والغمّ على صاحبه، ولم تشفع له منزلته مفكّرا وفيلسوفا، ولا هويّته منتميا إلى بلد يتحرّر فيه المفكّر ويَعْرض للمحرّمات والتابوهات وشتّى الممنوعات، وهي فرنسا، حاملةُ لواء حريّة الفكر وبلد الأنوار، هو الكتاب الذي شفّ عن جملةٍ من المقولات التي تأسّست على خيالِ قاصّ له مقاصد، وكشف أسطورة «شعب بلا دولة ودولة بلا شعب»، عنونه صاحبه بـ«الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيليّة»، ولم يكن أيضا «دوغلاس ريد» الأوّل ولا الأخير الذي هوجِم وضُيِّق عليه بسبب كتابٍ أعدّه وخصّه لدراسة المسألة الصهيونيّة وفكّك مصادرها، وعرض جملة من الحقائق التاريخيّة المفنّدة لأساطير «أرض الميعاد» و«مذبحة اليهود»، وهو كتاب: «جدل حول صهيون دراسة للمسألة اليهودية منذ ألفين وخمسمائة عام»، وقس على ذلك من كتب في غير السياق الذي أصبح العالم سائرا فيه مدافعا عنه، وهو سياق «المحرقة اليهوديّة» التي يعرض الألمان هذه الأيّام قانونا يقرن الحصول على الجنسيّة الألمانيّة بالاعتراف بالمحرقة والتوقيع على عقد يقضي بعدم معاداة الساميّة، وبطبيعة الحال المقصود بالسامية هم بنو يهود.
لقد سلف لبول ريكور أن ذكر عرضا في سياق إثارته لعلاقة التخييل الروائي بالتاريخ إلى ضربِ مثلٍ عن كيفيّة صناعة الرواية لتاريخ الشعوب، بتكوّن دولة بني إسرائيل على الحكاية، على التخييل، وهو السياق نفسه الذي أقام عليه روجيه جارودي كتابه «الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيليّة»، لا يسمح اليهود، ولا من أصبحوا يدينون لهم بالولاء والوفاء أن تُخدَش صورة تاريخهم الماضي أو الحاضر، وهو يفعلون اليوم بصفاقةٍ ووقاحة ما يندى له جبين البشريّة حياءً، ولكنّ العالم يُجوّز لهم ذلك، وفق أسطورة سائدة وهي أنّهم شعبٌ مكروه منبوذ، وأنّ من حقّهم الدفاع عن وجودهم، ولن أقول سيندم العالم يوما، ويردّدون مقولة لنا لا تُفهَم اليوم، ولكن حتما ستُدرَك لاحقا، وهي «أكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض»، الشعب الذي تعرّض إلى وهم محرقة، يحرق البشر اليوم بمباركة العالم، يمنع الماء والدواء والغذاء عن شعب يعيش في أرضه، في بلده، والعالم يُردّد أنّ الغازي بن الغازي يُدافع عن نفسه، هل رأيتم صفاقة شبيهة بهذا؟ «المهاجِم» «الغازي» «المستعمر» هو المُدافع عن نفسه، أمّا الفلسطينيّون أصحاب الأرض والعرِض إن رموا حجارةً فهم أبناء الشيطان وسلالة العصيان وبذرة النُكران.
يتساءل من نظروا في تاريخ بني صهيون عن علّة رغبة بني إسرائيل في إفناء العرب، وهم الذين تقبّلوهم في بلدانهم ضيوفا ومواطنين، لهم ما على المسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وما زال قسم كبير منهم يعيش بيننا سالما غانما، لقد أحسن العرب عبر التاريخ استقبال اليهود، فلمَ هذه الكراهيّة، ولمَ هذا الحبّ الذي يتوادد به أهل الغرب إليهم، وهم الذين عذّبوهم وأحرقوهم إن جازت المحرقة؟ لقد تاجر اليهود بما تعرّضوا لهم من جرّاء الحرب العالميّة الثانية، وما فعله فيهم النازيّون من تشريد وتقتيل، ولقد أشار جلّ المؤرّخين الموضوعيين إلى أنّ اليهود ليسوا الوحيدين الذين هُجّروا وشُرّدوا وقُتّلوا، ولكنّهم هم الوحيدون الذين استثمروا ما فُعِل بهم وتاجروا بذلك، إضافة إلى أنّ العالم الغربي الذي يقف اليومَ مُناصرا القَتَلة، قد كانت له فِعالٌ في شعُوبٍ حرّقوها وقتّلوها وأبادوها دون أن يُعيدوا لهم اعتبارا أو اعتذارا، ومنهم الهنود الحُمر وشعوب أفريقيا.
وهم الهولوكوست، ومحرقة اليهود، هي كذبة القرن -انظر كتاب «أكذوبة القرن العشرين» لآرثر بوتز على سبيل المثال-، وكثيرا ما صنع اليهود من الأكاذيب أساطير حقّقوها وحوّلوها إلى واقع، الهولوكوست، كلمة يونانيّة تعني «حرق القربان بالكامل»، وكانت في الأصل مصطلحا دينيّا يهوديّا يشير إلى القربان الذي يُقدّم للربّ على سبيل التضحية، ثمّ يحرق تماما على المذبح، وهو طقس من أكثر الطقوس قداسة لدى اليهود. وفي العصر الحديث أصبحت الكلمة تشير إلى عمليّة إبادة اليهود على أيدي النازيين». لقد كشف كتاب روجيه جارودي، ومن قبله وثائق عدد، حاول اللوبي اليهوديّ حجبها وطمسها، أنّ اليهود يصنعون من الهولوكوست أسطورة يُروّجونها لمقاصد سياسيّة، كما صنعوا قبل ذلك «أسطورة شعب الله المُختار»، و«أسطورة العودة» و«أسطورة الصهيونية المعادية للفاشية» و«أسطورة الملايين الستة»، وهي المبادئ التي دكّ جارودي بنفيها التاريخي العلميّ معتقدات بني صهيون، وحاججهم بمنطق المؤرّخ الناظر في التاريخ وفي الوثائق، ولهذا السبب وقفت ضدّه «الرابطة الدوليّة لمناهضة العنصريّة ومعاداة الساميّة»، وهي السيف المسلّط على كلّ فكر حرّ في العالم.
لم يكن بنو صهيون يوما أصحاب حقّ، ولكن كانوا دوما أصحاب نفوذ ومال، وبقوا دوما خاضعين للجماعة، التي توسّعت وصارت تدير مراكز النفوذ في العالم، إلى أن يستقرّوا وتتحقّق لهم السيطرة، آنذاك يكشفون ما يتسترون عنه، وهو اعتقادهم أنّ العالم هو قسمان، بنو إسرائيل من جهة وبقيّة العالم من جهة أخرى، ورد عن الحاخام كوهين في كتابه «التلمود» قوله: «يُمكن تقسيم سُكّان العالم إلى قسمين، إسرائيل من جهة، والأمم الأخرى من جهة أخرى.
فإسرائيل هي الشعب المختار، وهذه عقيدة أساسيّة، ويذهب روجيه جارودي إلى أنّ أسطورة هذا الشعب المختار، أجازت لهم تقتيل النّاس والتنكيل بالبشر عبر التاريخ، استنادا إلى خُرافة أخرى أحلّوها محلّ اليقين والاعتقاد، وهي أن يشوع (وهو نبيّ في معتقد اليهود، وقد ذُكر في التوراة، وهو خليفة النبيّ موسى وقائد حربه) أجاز له الربّ التقتيل والتدمير والخراب لإرضاء إله إسرائيل، وهي الأرضيّة العنفيّة التي يستند إليها الإسرائيليون لتبرير ذبح الأمم الأخرى، التي لا تُوازي منزلةً وقيمة «شعب الله المختار». أسطورة يشوع، هي سندُ ما نراه من مصّ دماء البشر ودكّ الأرض دكّا، وقبْر الأطفال والنساء والشيوخ في بيوتهم، ورد في سفر يشوع 10: 40: «وهكذا هاجم يشوع كلّ أرض الجبل والمناطق السهلية والسفح ودمّرها وقتل كلّ ملوكها، ولم يفلت منها ناج، بل قضى على كلّ حيّ كما أمر الرب إله إسرائيل»، بأمرِ الربّ هم يقتلون، ويُجيزون التعدّي على بقيّة البشر الذين هم دونهم منزلة في الوجود وفي الترتيب عند ربّهم، وما العرب والمسلمون إلاّ القطعة الأولى التي يريدون إسقاطها. في خطاب ماجنيس عام 1946 بمناسبة الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية التي كان يرأسها، قال: «إنّ الصوت اليهوديّ الجديد يخرج من فوهات البنادق، هذه هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل»، وها هو هذا الصوتُ النكير يخرج ويُدوّي بمباركة من تُجّار البشر الجدد، لقد وقف العقل الجبّار ألبرت أينشتاين ضدّ بعث دولة بني يهود (كما وقف العديد من أنقياء اليهود)، وقال عام 1938: «في رأيي أنّ التوصّل إلى اتّفاق مع العرب، قوامه أن يعيش الطرفان معا في سلام، سيكون أمرا أكثر تعقّلا من إنشاء دولة يهوديّة، فإدراكي لجوهر اليهوديّة يصطدم بفكرة إنشاء دولة يهوديّة، لها حدود وجيش ومشروع لسلطة دنيويّة، حتّى ولو كانت متواضعة»، هو صوتُ العقل، وصوت من لاحظ حياةً لليهود كانت في مصر وتونس والمغرب وغيرها من بلاد الإسلام، كانوا ينعمون بتجارتهم، وبحياتهم، وما زلت أذكر جماعة من اليهود كانوا يعيشون في حيّنا، كنّا نضعهم فوق رؤوسنا، وكانوا يعيشون بلا فُرقة ولا جفوة، كانوا إخوةً في الوطن، في الإنسانيّة، ولكن ما ترسّخ من معتقَدٍ لليهود قارِن بين الدين والسياسة هو الذي أفضى عبر التاريخ إلى تكوّن ملّةٍ تضع نفسها فوق عامّة البشر، وتُجيز قطع الرقاب لغاية التحقّق والترسّخ. اليهود صنعوا لأنفسهم تاريخا بواسطة الأسطورة، وصنعوا لأنفسهم أرضَ ميعادٍ، ومعتقدا راسخا أنّهم فازوا بأرضٍ هي معادهم دون أن يكون بها شعب، فأما صناعة التاريخ عبر الحكاية، فقد عبّر عن ذلك روجي جارودي قائلا: «يعرض لنا رواة التوراة تاريخ أصول إسرائيل كسلسلة من العصور المحددة تحديدا دقيقا. فهم يدرجون كلّ الذكريات والقصص والخرافات والحكايات والأشعار التي انتقلت إليهم عبر التراث الشفهي، ضمن إطار محدّد للأنساب والتواريخ. ويتّفق معظم الشُرّاح المحدثين على أنّ هذه الصورة التاريخية لا تعدو أن تكون صورة وهمية إلى حد كبير»، وأما عن أسطورة أرض بلا شعب وشعب بلا أرض، فهو معتقد ظاهرٌ في أفعالهم وأقوالهم، وقد صرّحت جولدا مائير في سنة 1969: «ليس هناك شعب فلسطيني، ولم يكن الأمر أنّنا جئنا وأخرجناهم من الديار واغتصبنا أرضهم، فلا وجود لهم أصلا». ويبدو أنّ أصحاب النفوذ في العالم قد آمنوا أو أُجبروا على الإيمان بألّا وجود للفلسطينيين على هذه الأرض! فهل «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة؟»، يجيبنا درويش بلهف وشغف قائلا: «على هذه الأرضُ ما يستحقُّ الحياة: على هذه الأرض سيّدةُ الأرض، أمُّ البدايات أمُّ النهايات. كانت تُسَمّى فلسطين. صارت تُسَمّى فلسطين. سيّدتي: أستحقُّ، لأنّك سيّدتي، أستحقُّ الحياةَ».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على هذه الأرض إلى أن من جهة
إقرأ أيضاً:
بالفيديو.. لندن تشهد لقاء وتكريم أطول امرأة في العالم التركية روميسا التي تناولت الشاي مع أقصر امرأة بالعالم الهندية جيوتي
احتفالاً بالذكرى السنوية لموسوعة “غينيس” للأرقام القياسية.. لندن تشهد لقاء وتكريم أطول امرأة في العالم التركية روميسا جيلجي (مترين و 15.16 سم) التي تناولت الشاي مع أقصر امرأة بالعالم الهندية جيوتي أمجي (62.8 سم)وتعاني التركية جيلجي، من حالة نادرة تسمى “متلازمة ويفر”، والتي تسبب نموا متسارعا وتشوهات هيكلية في الجسم، في حين تعاني الهندية أمجي من التقزم.الشرق للأخبار – السودان إنضم لقناة النيلين على واتساب