أبو الفنون يزور مسقط هذا الأسبوع والاحتفاء به وبفنونه المختلفة يمكن أن يوصف بأنه أكثر من رائع، رغم ما يحدث في الجانب الآخر من الأراضي الفلسطينية التي تنزف دما ودموعا من جراء الهجمات البربرية الإسرائيلية التي تستهدف الأبرياء من الأطفال والعزَّل والشيوخ ممن لا حول لهم ولا قوة سوى أنهم من أهل فلسطين الصامدين.
كثير من مظاهر البهرجة اختفت من ساحة «مهرجان الدن العالمي» تضامنا مع إخوتنا وأشقائنا في أرض فلسطين وبقي ما يعزز رسالة الثقافة والفن والمسرح من كلمة صادقة تعبّر عن رفض لما يجري على أرض الواقع وإدانات واسعة بالكلمة والصوت من على خشبة المسرح التي حملتها بعض العروض المسرحية وعروض الشارع والفعاليات المصاحبة من ورش عمل وجلسات نقدية أقيمت خلال فترة المهرجان.
لم أرفض دعوة قدمها لي صديق لزيارة المهرجان في أرض الجمعية العمانية للسيارات التي استضافت فعاليات المهرجان وجهزت «خشبة مؤقتة» لإقامة العروض عليها، وكما فهمت من المنظمين أن العثور على خشبة مسرح بات من الأمور الصعبة على المسرحيين أنفسهم حيث إن من يمتلك تلك الخشبة يطلب ثمنا باهظا لها ولا قدرة لمسرحيين هواة على تحمُّل كلفة خشبة مع عدم توافر مسرح قومي تحتضنه الدولة يكون بمثابة متنفس للهواة والمسرحيين يتدربون فيه على الكتابة والتأليف وإقامة عروضهم المختلفة. الخشبة تبقى خشبة والمسرح يبقى ذاته مسرحا أيا كان النوع فما يهم هو الموهبة والمقدرة على الأداء -وهذا من وجهة نظر شخصية بحتة- لا علاقة لها بالمسرحيين المتمرسين الذين قد يختلفون معي في ما أقول.
«الخشبة المؤقتة» احتضنت الكثير من العروض قدِمت من مختلف أنحاء العالم من دول عربية وأجنبية توافقت كلها على تقديم عروض مسرحية وإن اختلفت لغاتها وألوانها لكن ما يجمعها هو الجمهور والمسرح والأضواء والأداء والإثارة في تقديم ما يبهر الجمهور في زمن قلَّ فيه الاهتمام بالفنون الإبداعية مع الانصراف إلى الفنون الحديثة التي يخلو كثير منها من روح الفن ورسالته الهادفة وأدوارها التعليمية والتثقيفية والتوعوية التي ينشدها المجتمع. حضرت عرضا يتيما على تلك الخشبة كان آخر العروض في المهرجان ودُهشتُ من أن تذاكر العرض قد نفدت قبل عدة أيام من موعد المسرحية ورأيت صفوفا طويلة تقف بانتظار فتح بوابات المسرح مع امتلاء كافة مقاعد المسرح التي يربو عددها على الخمسمائة مقعد وقيل لي إن معظم العروض حالها هكذا تنفد تذاكرها قبل فترة من عرضها، فعلمتُ أن هذا مؤشر جيد على إقبال الجمهور على المسرح وفنونه مثلما يقبلون على الأوبرا والعروض الموسيقية الجميلة التي تذكّرك بالماضي الجميل ولم تستطع الحداثة تغييرها.
الساعة التاسعة كانت عنوان المسرحية الكويتية التي كنتُ أتحدث عنها، كان عرضها مبهرا جميلا مفعما بالأحاسيس ويتطرق إلى موضوع يلامس حياتنا اليومية يلعب فيه الاشتياق الثيمة الأساسية للعمل سواء أكان اشتياقا لشخوص أو لذكريات أو مواقف ورفض التأقلم والحياة مع الواقع مع تخيل الوقت الذي كانت فيه تلك الذكرى موجودة، وهذا ما دلّت عليه الساعة التاسعة التي تذكّر أبوين بولدهما الذي رحل عنهما. سمعت إشادات واسعة بالمسرحيات العمانية المشاركة في هذا المهرجان كمسرحية «الروع» وهي من تأليف وإخراج الصديق طاهر الحراصي، حيث جسّد فيها ثيمة الصراع التاريخي لقوى الخير والشر، والظلام والنور، والجهل والمعرفة، ولقيت استحسانا كبيرا من النقاد والجمهور، كما حصلت مسرحية «نقيق» السورية ومسرحية «أنا وجهي» العراقية وبعض مسرحيات الشارع على إشادات واسعة من الجمهور والنقاد.
أمنية مبيتة منذ زمن أن نرى عروضا مسرحية لا تتوقف ولا ينزل أبطالها عن خشبة المسرح، تظل دائرة طوال العام، تحفها الرعاية والعناية السامية، تبقى وهجها مستمرا ما بقي أبو الفنون واقفا على خشبته.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الفن المقتول والرواية المبتورة
#الفن_المقتول و #الرواية_المبتورة _ د. #منذر_الحوارات
ردَّ الكاتب العظيم ومدير المسرح القومي البريطاني ديفيد هير، على قرار مارغريت تاتشر برفع الدعم عن المسرح بكلمات كانت بمثابة درس تجاوز حدود بريطانيا، إن السياح يأتون الى بريطانيا من أجل عمارتنا واسواقنا ومسارحنا، يأتون من أجل الثقافة التي أنتجتها بريطانيا عبر قرون وجسّدها المسرح، ثم أضاف: إن السياحة هي ثاني أكبر صناعة لدينا، فالسائح ينفق المال، والحكومة تجني الضرائب، فهي إذًا لا تدعم المسرح، بل تستثمر فيه، لأنها تدرك أنه ليس مجرد خشبة، بل هو أداة لتسويق بريطانيا، وأداة لتأكيد هويتها، وتحويل قصصها إلى اقتصاد وثقافتها إلى مورد وطني.
من هذه القصة نكتشف أن دعم الفن واجب على الدول، فالأمر أبعد من المال بكثير، فالفن هو المدماك الذي تُبنى عليه حكايات الشعوب وروايات الدول، لا يمكن بدون مسرح ودراما وسينما وأدب وموسيقى، أن تُبنى قصة وطنية تخص كل مواطن، والمؤسف أننا نتعامل مع الفن باعتباره كمالية، متناسين حكمة ديفيد هير، وعلى الرغم من أن الأردن لا يعاني من مشكلة في غزارة التاريخ، فهو مليء بالقصص والحكايات، إلا أنه يفتقر إلى من يحكيها، مشكلته ليست في غياب الهوية، بل في الوسائل التي تجعلها ملموسة ومحسوسة وقادرة على التحرك بانسيابية خارج الكتب والخطابات الرسمية والبيروقراطية الحكومية، وليس هناك أداة أفضل من الفن، وخصوصاً الدراما، للقيام بذلك، فهي الوحيدة القادرة على خلق ذاكرة جماعية وشخصيات تعيش في وجدان الناس لعقود.
لذلك، فإن غياب الدراما الأردنية الجادة ليس مجرد خسارة لصناعة فنية، بل هو تراجع في قدرة الأردن على أن يكون له حضور في الوجدان المحلي وصوت في الفضاء الثقافي العربي، في الماضي وضعت الدراما البدوية الأردن في كل بيت عربي، لكنها اختفت، إما لعجزها عن إحداث النقلة بين الماضي والحاضر المتجدد، أو لأنها فشلت في مواكبة التغيير في المجتمع، أو لأنها لم تتلقَّ الدعم المناسب لمواكبة ذلك التغيير، كل ذلك جعل الأردن بلا نافذة يطل منها على مواطنيه وعلى ملايين المشاهدين العرب، وخسر بالتالي الفرصة في أن يروي حكايته ويتحكم في تشكيل صورته، ليكون جزءاً من السردية العربية، لا مجرد بلد يُذكر فقط في الأخبار، بالتالي، فإن هذا التراجع لا يتعلق بالفن وحده، بل يُعد تراجعًا في الاستثمار في الهوية الوطنية، وفي بناء سردية يلمسها الأردنيون قبل غيرهم.
مقالات ذات صلة أزمة الهويات الأوروبية.. صراع وتحالف 2025/03/10أما الفنانون الأردنيون، فلم تقتصر معاناتهم على قلة الفرص، بل وجدوا أنفسهم خارج المعادلة، إذ انعدمت أمامهم المنصات التي تمنحهم الفرصة ليعبّروا عن أنفسهم، مما دفعهم إمّا للهجرة أو الاعتزال أو القبول بأعمال لا ترقى إلى مستوى إمكانياتهم، وأصبحوا ضحايا الفقر والفاقة، ولا نذكرهم أو نتغنى بهم وبماضيهم إلا عندما يتوفاهم الله، هذه الخسارة لا تقف عند الفنانين فحسب، بل تطال المواطن الأردني الذي افتقد الدراما المحلية، وبات يستهلك الدراما المصرية والتركية والخليجية، والتي – رغم كل الاحترام لها – لن يجد فيها الأردني محتوى يعبر عنه، لا عن لهجته ولا قصصه أو مشاكله وأحلامه أو هويته، وهنا، تُرك ليتبنى هويات الآخرين وتصوراتهم، لأن الفن ليس مجرد تسلية، بل هو أداة لصياغة الوعي وترسيخ الانتماء، وخلق شعور عميق بأن المكان الذي نعيش فيه ليس مجرد جغرافيا وجواز سفر، بل ذاكرة وقصة وهوية، ففي عالم اليوم، لا يكفي امتلاك التاريخ، بل يجب معرفة كيف نحكيه ونسوّقه.
لقد دافع ديفيد هير عن المسرح لأنه جزء من إرث بريطانيا وتاريخها واقتصادها، وبالتالي فإن الدفاع عن الفن، وخصوصاً الدراما في بلدنا، يجب أن يأخذ المنحى نفسه، لأنه دفاع عن حكاية الأردن وصورته في داخله ومحيطه، ودفاع عن هويته، فغيابه يترك فراغًا تملؤه هويات الآخرين، وربما أجنداتهم، وحتى لا نجد أنفسنا لاحقًا على قارعة الطريق، غارقين في الضياع، نبكي الرواية والهوية، ينبغي ألا نقتل الفن، لأن ذلك لن يقف عنده، بل سيطال هويتنا، التي ستصبح مبتورة، غير مكتملة، بلا روح، فالدول باتت تُعرف بفنونها كما تُعرف بحدودها، لذلك، فإن السؤال الذي يجب علينا طرحه لا يجب أن يقتصر على: لماذا تراجع الفن في الأردن؟ بل يجب أن يكون: كيف يمكن إعادته ليكون جزءاً أصيلًا في بناء البلد وهويته، لا مجرد هامش يمكن الاستغناء عنه؟ لأن نتيجة ذلك وخيمة.
الغد