فنتازيا الحرب «المليجيشية» فى السودان: قد تنتهي الحرب و لكن متى ستبدأ الحياة !
تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT
فنتازيا الحرب «المليجيشية» فى السودان،: قد تنتهي الحرب، ولكن، متى ستبدأ الحياة !.
فيصل الباقر
مدار أوّل: “يا كلِّ طابات الكُرة الأرضية .. يا مدبوغة دم .. مصبوغة بي ظُلم الفتي الأفريكي .. وأمريكي الحكم…. قوماك .. نعم .. سودان بلدنا نِعم .. نِعم … نقلع لغم .. نزرع، بُكان الآه ، نغم.. ” ((محمد الحسن سالم حميد))
-1-
أكتب صباح اليوم الإثنين 30 أكتوبر 2023، أي بعد ستة أشهر وإسبوعين – بالتمام والكمال – على الحرب “المليجيشية”، بين (الجيش والدعم السريع) تلك الحرب الكارثية، التي انفجرت “معاركها الضارية” فى سماء وأرض عاصمة البلاد – الخرطوم – صباح يوم 15 أبريل 2023، بين دوي المضادات الأرضية وأصوت المقذوفات المدمرة والحارقة من الطائرات الحربية، فى مشهدٍ كارثيٍ أليم، لم يعتاد عليه سكان الخرطوم، وقد ظنوا أنّها مدينة “آمنة ومطمئنة”، وبعيدةً – كل البعد – عن “النزاع المسلّح”، و”الدمار الشامل”، أو لنقل “النزاع الداخلي” “واسع النطاق” فى لغة القانون الدولي الإنساني !.
-2-
ثمّ سرعان ما انتقلت “جرثومة” الحرب القاتلة، إلى دارفور الكُبري، رُغم أنّ دارفور “الفيها مكفّيها”، وقد أخذت نصيبها، بل وأكثر، فى الحروب والنزاعات المسلحة، وتمدد “فايروسات” الحرب، لتصل شمال كردفان، لتصبح أجزاء كبيرة من البلاد منطقة “نزاع مسلّح”، وتتحوّل البقية الباقية، إلى مناطق يفِرُّ إليها الناجون والناجيات من ويلات الحرب، ولهيبها الحارق، يحمل الرجال والنساء، والشباب والشابات، والأطفال والطفلات، والأشخاص ذوي الإعاقة، معهم/ن – وبين طيات جوانحهم/ن “صدمات” الحرب، والحزن الكثيف على مفارقة الديار، بسبب الهروب والفرار من الموت، وهذا “الهروب والفرار” من الموت بسبب الحرب، هو ما يُسمّي فى لغة وأدبيات ((القانون الدولي الإنساني)) “التهجير القسري”، ليصبح المدنيون فى المناطق الجديدة “نازحين”، ويتحوّلوا إلى “لاجئين”، إذا ما أتاحت لهم الظروف والأقدار أن يعبروا “الحدود” إلى بلدٍ آخر، ليواجهوا ويواصلوا – من هناك، وحتّى إشعار آخر – رحلة الخوف من المستقبل، ومشاوير البحث عن الحماية، والأمن والإطمئنان، الذي لم يعد بالضرورة واضحاً لهم/ ن أجمعين !.
-3-
ستظل االذاكرة الفردية والجماعية للسودانيون والسودانيات، حيّةً وباقية، تذكُر بحزنٍ كثيف، يوم الخامس عشر من شهر أبريل 2023، وتوصفه بأنّه اليوم الذي لم تعُد – أو ما عادت – فيه شوارع وطرقات الخرطوم “سالكة وآمنة”، كما اعتاد الناس أن يتجوّلوا في وسطها وأطرافها، يقضون صباحاتهم/ن، ونهاراتهم/ن، فى “الكفاح السلمي” من أجل “سُبل كسب العيش”، ويستريحون فى أُمسياتها الوديعة، بين الأهل والأحباب، ورحاب الأصدقاء والصديقات، يتسامرون، قبل “اندلاع” – أو لنقل – “انفجار” قنبلة الحرب الموقوتة، المدمرة، الفاجرة، واللعينة، لتحيل سماء وأرض عاصمة البلاد إلى ساحة “حرب مُدن”، وميدان قتال شرس بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، وهذا حديث يطول!.
-4-
هذه الأيام، وبعد ستة أشهرٍ ونيف، تجري فى مدينة جدة فى المملكة العربية السعودية، الجولةً الثانية من (مفاوضات جدّة) المنتظرة، وقد وصل وفدا التفاوض يوم الخميس 26 أكتوبر الجاري، وبدأت الجولة التفاوضية بحضور ممثلين لطرفي الحرب “المليجيشية” (الجيش والدعم السريع)، وهي مفاوضات تحيطها السرية الكاملة – هذه المرّة – حيث يضرب “الوسطاء” و”الميسّرون” عليها سياجاً مُحكماً من التكتُّم التام على ما يدور فى قاعات التفاوض، وهذا مما يفتح الباب واسعاً لانتشار الشائعات والأخبار المضللة والكاذبة، ورغم هذا المناخ المعتم، وغياب المعلومات، ينظر – معظم – الناس بأمل كبير فى أن يؤدّي استئناف الماوضات هذه المرّة إلى إحترام الإلتزامات التي سيوقّع عليها الطرفان!.
-5-
فيما اكتفت الخارجية السعودية، ببيانات رسمية مقتضبة، جاء فيها، “استأنف طرفا النزاع فى السودان، مفاوضاتهما فى مدينة جدة السعودية، بهدف إنهاء الحرب المستمرة منذ ستة أشهر والتي أودت بحياة أكثر من تسعة آلاف شخص”، ألمح مسؤولون أمريكيون إلى أنّ هذه الجولة التي أُستؤنفت يوم الخميس، جاءت بهدف التوصل لـ”وقف اطلاق نار”، لكن، من السابق لأوانه، مناقشة “حل سياسي دائم”، فيما أشار مسؤول فى وزارة الخارجية الأمريكية إلى أنّ “الجولة الجديدة ستركز على ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتحقيق وقف لإطلاق النار، واجراءات أُخري لبناء الثقة”!.
-6-
وما عادت أخبار حرب السودان “المنسية”، تجد مكاناً لها فى قنوات الأخبار وشاشات التلفزيونات، وقد انتقلت عدسات كاميرات الفضائيات الدولية والإقليمية بصورة خاصة، إلى (غزّة) حيث تدور حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ضد الشعب الفلسطيني، وسط صمت عالمي مخجل، وأسيف!.
-7-
اليوم، وبعد ستة اشهر وإسبوعين من الحرب “المليجيشية”، مازالت ذاكرة سكان وساكنات الخرطوم تسترجع تصريحات السفارة الامريكية بالسودان، وهي تقول “إنّها تُراقب الوضع فى الخرطوم، والمناطق المحيطة بها عن كثب، وإنّه لا خُطط لها، لإجلاء مواطنيها فى الوقت الحالي، وإنّها تحثّهم على البقاء فى منازلهم حتّى ِشعار آخر” (المصدر: الجزيرة 16 أبريل 2023)، ولكن، سرعان ما قررت – وتمكنت – الحكومة الامريكية، من إجلاء مواطنيها بعد إسبوعين من الحرب فى 30 أبريل 2023، وقد صدر بياناً رسمياً من الخارجية الأمريكية، وتحديداً، من مكتب المتحدث بإسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر، بتاريخ 29 أبريل 2023، أكدت فيه “وصول قافلة نظمتها الحكومة الامريكية تضم مواطنين أمريكيين وموظفين سودانيين ومواطني دول حليفة وشريكة إلى بورتسودان يوم 29 أبريل” (نص البيان منشور فى موقع السفارة الأمريكية فى مصر)، ثمّ توالت الدول فى إجلاء بعثاتها الدبلوماسية ورعاياها، من منطقة النزاع الداخلي المسلح، وهو – بلا شك – حق مشروع، واستحقاق دستوري يتوجب أن توفي به الحكومات لمواطنيها، فى أزمنة الحروب والنزاعات الداخلية والخارجية!.
-8-
نعم، مازالت الذكرة السودانية حيّة وستظل متقدة، وهي تسجّل وتسترجع تصريحات طرفي النزاع، وهما منخرطان فى حرب شرسة ومدمرة على الأرض، توازيها وتدعمها وتؤجج نيرانها حرب إعلامية أُخري، تُنشر فيها قليل من الحقائق، وكثير من البروباقاندا والدعاية الحربية، وهي حرب إعلامية مدفوع لها بسخاء، تدور رحاها فى مواقع إليكترونية أغلبها مجهول المصدر والتمويل، وتمتليء بأخبارها الزائفة، فضاءات الميديا الإجتماعية، وتتواصل فيها حرب المعلومات المضللة والمغلوطة والكاذبة، ويسود فيها خطاب الكراهية، والتحشيد – وبخاصة للشباب – للإنضمام لطرفي الحرب، ليصبحوا وقوداً لحربٍ ليس لهم فيها ناقة، ولا جمل، كما يقولون !.
-9-
مرّت أشهر الحرب الستة ونيف، ببطء زماني كئيب، وضيق مكاني شديد، وهاهي الأعين السودانية المُسهدة، تنتظر نتائج الجولة الثانية من مفاوضات جدّة، وتتساءل القلوب والعقول المحبة للسلام، تُري هل ستنجح المفاوضات – هذه المرة – فى وقف الحرب، وتمكين مرور الإغاثة الإنسانية، والسماح للصحافة الحرّة والمستقلة، والصحفيين والصحفيات من التنقل بحرية، هي مكفولة لهم بـ(القانون الدولي لحقوق الإنسان)، و(القانون الدولي الإنساني)، للقيام بواجب التغطية الصحفية للنزاع المسلح، دون إعاقة، أو استهداف!.
-10-
دعونا نتفاءل – ولو قليلاً – وندعو لنجاح جولة المفاوضات الحالية فى تحقيق ما صرّح به صراحةً، أوألمح إليه، الوسطاء، وهو بإختصار “ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتحقيق وقف لإطلاق النار، واجراءات أُخري لبناء الثقة”، ثمّ دعونا نختم بالقول – وحتّى إشعار آخر – سيبقي السؤال الصعب والمشروع: متي يتحقق ما يسعي له الوسطاء فى مفاوضات جدّة، وليتهم أفصحوا لنا أكثر عن ماذا يعنون بالـ”اِجراءات الأخري، لبناء الثقة”، والسؤال المشروع – أيضاً – ما هي مسؤلية طرفي الحرب القانونية والأخلاقية ، وهل ألتزما بما اتفقا عليه فى السابق، وهل سيلتزمان – هذه المرة – بما سيتم الاتفاق عليه، أم سيضربا به، عرض الحائط، وماهي مسئولية الوسطاء والعالم أجمع فى جلب الطرفين إلى جادة الطريق ؟!. وعموماً، سيبقى – من قبل ومن بعد – التساؤل الكبير الذي ظلّ – وسيظل – يؤرّق أصحاب وصاحبات العقول الشجاعة، والأذهان الجريئة والمتقدة، دافعاً حقيقيّاً وقوياً لمعرفة الجواب، الذي يمكن تلخيصه فى التالي: “قد تنتهي الحرب، ولكن، متي ستبدأ الحياة” ؟!.. وشتّان ما بين السؤال والتساؤل.. فهل نعى الدرس يا هؤلاء !.
جرس أخير: “وأنت تُعِدُّ فطورك .. فكّر بغيرك .. لا تنس قُوت الحمام.. وأنت تخُوض حُروبك .. فكِّر بغيرك .. لا تنس من يطلبون السلام .. وأنت تُسدّد فاتورة الماء.. فكّر بغيرك .. من يرضعُون الغمام.. وأنت تعود إلى البيت .. بيتك .. فكّر بغيرك .. لا تنس شعب الخيام.. وأنت تنام وتُحصي الكواكب.. فكّر بغيرك.. ثمة من لم يجد حيّزاً للمنام .. وأنت تُحرّر نفسك بالإستعارات، فكّر بغيرك .. من فقدوا حقّهم فى الكلام.. وأنت تفكّر بالبعيدين، فكّر بنفسك.. قُل: ليتني شمعةٌ فى الظلام .. “((محمود درويش))
فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com
الوسوم«المليجيشية» الجيش الدعم السريع ضد الحرب فيصل الباقرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: المليجيشية الجيش الدعم السريع ضد الحرب
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: تداعيات الأفلات من العقاب من منظور سياسي/ أقتصادي
بروفيسور حسن بشير محمد نور
للسودان إرث طويل في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وصولا للاتهامات بالابادة الجماعية، التي اوصلت البلاد لمحكمة الجنايات الدولية بأحالة من مجلس الامن الدولي، ووضع ذلك السودان ضمن قائمة الدول الراعية للارهاب، وسلطت عليه عقوبات اقتصادية اقعدته عن التنمية ورفع قدرات اقتصاده وخفض انتاجيته وتنافسيته الخارجية. من السذاحة حصر تلك الانتهاكات والجرائم في جوانبها القانونية وتحقيق العدالة والقصاص فقط، رغم الأهمية الكبرى ذلك .
كان لتلك الجرائم والانتهاكات، مع الافلات من العقاب الذي لازمها عواقب جسيمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومن حيث الكفاء والاداء الاقتصادي مجتمعة. وبالطبع لا زالت تلك الجرائم والانتهاكات مستمرة حتي اليوم، بل ان وتيرتها قد ارتفعت بشكل خطير من أطراف الحرب الدائرة الان في كل مكان، سواء في مناطق سيطرت الدعم السريع أو الجيش، ولا زالت تقارير وادانات تلك الجرائم من المنظمات الدولية والوطنية المعنية بحكم القانون وحقوق الانسان والحريصة علي تحقيق العدالة وعدم الافلات من العقاب تملأ الافاق.
منذ استيلاء نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير على السلطة في السودان عام 1989، دخل السودان في مرحلة مظلمة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم المنظمة، التي استهدفت المعارضة السياسية والمدنيين وشمل ذلك تأييدًا للأنشطة الإرهابية. وعلى الرغم من الإطاحة بالنظام في ثورة ديسمبر (كانون الاول) 2018 (التي تمر هذه الايام ذكراها السادسة)، استمرت الممارسات القمعية من قبل المكون العسكري، مما أدى إلى إشعال حرب متوحشة ترافقها اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. يتناول هذا المقال التداعيات السياسية والاقتصادية لهذه الجرائم، وتأثير الإفلات من العقاب على مستقبل السودان، من منظور الفكر السياسي ومناهج الاقتصاد السياسي.
تم قمع المعارضة بشكل ممنهج ابتداءا مما عرف (ببيوت الاشباح) سيئة السيط وليس انتهاءا بقمع الحريات والعمل النقابي، وقد فرض حكم الانقاذ نظامًا بوليسيًا استهدف كل أشكال المعارضة السياسية، بالاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإعدام خارج نطاق القانون. اضافة ذلك ادخل النظام البلاد في مرحلة جديدة من الحروب الاهلية رابطا اياها بالشعارات الدينية وقد حول تلك الحرب لغزوات (جهادية) مصحوبة بتعبئة جمعت بين الايدولوجيا والخرافة، ادت تلك الحرب لازهاق مئات الالاف من الارواح، اضافة لاستنزافها للموارد ودخول الاقتصاد السوداني في مرحلة طويلة من التضخم الركودي لم يخرج منها الا بعد اكتشاف وتصدير البترول في نهاية عقد تسعينيات القرن الماضي.
أدت سياسات القمع والإقصاء إلى تكاليف اقتصادية واجتماعية وتداعيات سياسية انتهت بأنفصال جنوب السودان في 2011، ويا لها من خسائر بشرية ومادية هائلة.
لم يعتبر نظام الانقاذ من محنة انفصال الجنوب كطبيعة الانظمة الاستبدادية (والاستبداد يعمي البصيرة)، اذ اشعل حرب الإبادة الجماعية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مرتكبا مجازر بحق المدنيين، حيث استخدم التطهير العرقي والقصف الجوي والتجويع كوسائل حرب، ما دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال بحق البشير وعدد من مسؤوليه. وكان من تداعيات ذلك اخراج اقليم دارفور ومناطق في كردفان والنيل الازرق من دائرة الانتاج والنسيج الاجتماعي، ما ادي، اضافة للخسائر الاقتصادية لنزوح ولجؤ علي نطاق واسع.
لم يكتفي النظام بذلك بل قام بدعم جماعات إرهابية كان من ضمنها تنظيم القاعدة باستضافة زعيمه اسامة بن لادن وكارلوس وغيرهم، ودفع ذلك باتهامه بجرائم خطيرة مثل تفجير السفارات الامريكية في شرق افريقيا والهجوم علي المدمرة كول، مما ادي إلى إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة الوطأة اقتصاديا واجتماعيا، شملت العقوبات تجميد الأصول وفرض قيود على التجارة والاستثمار وحرمان السودان من الوصول للتكنولوجيا الحديثة بل وحتي قطع الغيار. ادي ذلك لتدمير قطاعات اقتصادية كاملة في الزراعة (مثل مشروع الجزيرة) والصناعة والخدمات وادي لتعطل قدرات النقل الجوي (شركة الخطوط الجوية السوداني، سودان اير) والبحري والنهري بشكل شبه تام.
كل ذلك قاد لعزلة دولية للسودان وحرمانه من الدعم الدبلوماسي، كما ادي الي تفكيك البنية المؤسسية للدولة وتحويلها إلى أداة قمعية تخدم النظام فقط. اما من الناحية الاقتصادية فقد كان لذلك تداعيات جسيمة علي الاستقرار الاقتصادي في انخفاض معدلات النمو، ارتفاع معدلات التضخم وتراجع سعر صرف العملة السودانية بمعدلات عالمية قياسية، اضافة لاختلال التوازن الخارجي وكان لكل ذلك اثار هائلة علي تنامي معدلات الفقر والبطالة.
لم تنجح ثورة ديسمبر(كانون اول) 2018 في تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، حيث ظل المكون العسكري، مدعوما بدولة الانقاذ العميقة يسيطر على المشهد السياسي والقدرات الاقتصادية والخدمة المدنية، اضافة للقضاء والنيابة العامة، وكان ان استمرت انتهاكات حقوق الإنسان. تصاعدت التوترات بين المكون العسكري والمدني خلال الفترة الانتقالية، وقد عجزت الحكومة المدنية من انجاز العديد من المهام المحورية مثل تفكيكك البنية المؤسسية لنظام الانقاذ، استرداد الاموال المنهوبة وتلك التي تحت سيطرت المكون العسكري بما فيه الدعم السريع، اضافة لاصلاح الخدمة المدنية والقضاء والتيابة العامة، واجازة قانون النقابات وغيرها من المهام الداعمة لروافع الانتقال الديمقراطي. أدى الاستقطاب الحاد إلى انقلاب 25 اكتوبر 2021 ، الذي كان المقدمة الموضوعية للحرب الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع
تفاقمت الازمات والتداعيات الخاصة بالجرائم والانتهاكات بعد الحرب المستمرة بين الجيش والدعم السريع، التي فاقمت من الازمة الاقتصادية وادت لأزمة أنسانية توصف بانها الاسوأ في العالم، اضافة لاتهام الطرفان بارتكاب جرائم قتل جماعي، واغتصاب، ونهب ممتلكات المدنيين، ما أدى إلى نزوح الملايين داخليًا وخارجيًا، وتدهورت او انهارت الخدمات الأساسية. وبالرغم من الاتهامات الدولية بارتكاب جرائم حرب، لا يزال القادة العسكريون يتمتعون بحرية التنقل وممارسة السلطة، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويؤدي لتطبيع الانتهاكات والاجرام.
ما يهمنا هنا هو التأكيد علي ان الإفلات من العقاب يؤدي إلى انهيار ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، ما يعزز النزعات الانفصالية والصراعات القبلية، ويؤدي لتعميق الازمة السياسية ويشجع النخب العسكرية علي التشبث بالسلطة. بالتالي فان استمرار الجرائم دون محاسبة يكرّس صورة السودان كدولة فاشلة لا تحترم القانون الدولي ويقوض فرص الاستثمار الأجنبي والتعاون الدولي مما يؤدي لتعميق الأزمة الاقتصادية.
تتصاحب تلك الازمات باعاقة التنمية بشكل تام وتزيد من معدلات الفقر والبطالة، ما يؤدي إلى أزمات اجتماعية مستعصية علي الحل. اضافة بالطبع لغياب العدالة والعدالة الانتقالية الذي يؤدي بدوره لدوامة العنف وعدم الاستقرار السياسي وتفاقم النزاعات الإهلية وتعطيل فرص السلام، ونتيجة لذلك سيظل السودان في حالة انكماش اقتصادي تفاقم من معاناة مواطنيه.
نخلص من استعراضنا الي ان الإفلات من العقاب يمثل تحديًا خطيرًا لمستقبل السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حيث يقوض أسس الدولة ويؤدي إلى استمرار دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية. من منظور الفكر السياسي، يتطلب الخروج من هذه الأزمة الاخذ في الاعتبار جوانب العدالة والعدالة الانتقالية وتعزيز سيادة القانون، بالتزامن مع استصحاب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والتكاليف الناتجة عن كل ذلك في جميع اساليب البحث عن حل مستدام ونهائي لمشاكل البلاد. ومن الجدير بالاعتبار عدم اغفال الجوانب الاقتصادية/ السياسية، التي تؤكد علي ان تحقيق الاستقرار الاقتصادي يعتمد على إنهاء النزاعات وبناء نظام حكم ديمقراطي قادر على استقطاب الاستثمارات وتطوير البنية الإنتاجية، وان ذلك لن يحدث بدون محاسبة حقيقية تخلص السودان من ان يكون رهينًا للفوضى المزمنة والازمات والتخلف.
mnhassanb8@gmail.com