بابا الفاتيكان: نحن مدعوون لنكون كنيسة خادمة للجميع وخادمة للأخرين
تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT
البابا فرنسيس: نحن مدعوون لنكون كنيسة خادمة للجميع وخادمة للأخرين
نحن، تلاميذ يسوع، ونريد أن نحمل إلى العالم خميرة أخرى، خميرة الإنجيل: الله في المقام الأول ومعه الذين يحبهم، الفقراء والضعفاء هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي في اختتام الجمعية العامة العادية السادسة عشرة لسينودس الأساقفة
بمناسبة اختتام الجمعية العامة العادية السادسة عشرة لسينودس الأساقفة ترأس قداسة البابا فرنسيس القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس وللمناسبة ألقى الاب الأقدس عظة قال فيها بحجة جاء أحد معلمي الشريعة إلى يسوع، فقط لِيُحرِجَهُ.
تابع البابا فرنسيس يقول أيها الإخوة الكرادلة، الإخوة الأساقفة والكهنة، الرهبان والراهبات، الإخوة والأخوات، في ختام هذه المرحلة من المسيرة التي قطعناها، من المهم أن ننظر إلى المبدأ والأساس الذي منه يبدأ كل شيء: محبة الله بكل حياتنا ومحبة القريب محبتنا لأنفسنا. لا استراتيجياتنا، ولا حساباتنا البشرية، ولا موضة العالم، بل محبة الله والآخرين: هذا هو قلب كل شيء. ولكن كيف يمكننا أن نترجم اندفاع المحبة هذا؟ أقترح عليكم فعلين، حركتين للقلب أود أن أتأمل فيهما: العبادة والخدمة.
أضاف الحبر الأعظم يقول الفعل الأول العبادة. الحب هو عبادة. العبادة هي الجواب الأول الذي يمكننا أن نقدمه لمحبة الله المجانية والمدهشة. إن دهشة العبادة هي أمر أساسي في الكنيسة. فالعبادة، في الواقع، تعني الاعتراف بالإيمان بأن الله وحده هو الرب وأن حياتنا، ومسيرة الكنيسة، ومصير التاريخ يعتمدون على حنان محبته. إنه معنى الحياة.
تابع الأب الأقدس يقول نعم، من خلال عبادته نحن نكتشف مجدّدًا أننا أحرارًا. لهذا السبب، غالبًا ما ترتبط محبة الرب في الكتاب المقدس بمحاربة جميع أشكال عبادة الأوثان. إنَّ الذي يعبد الله يرفض الأصنام، لأنه فيما أن الله يحرر، الأصنام تستعبد. هي تخدعنا ولا تحقق أبدًا ما تعد به، لأنها صنع أيدي البشر. إن الكتاب المقدس صارم ضد عبادة الأوثان لأن الأصنام هي عمل الإنسان وهو يتلاعب بها، في حين أن الله هو الحي على الدوام، الذي لم يُخلق كما أعتقد، والذي لا يعتمد على ما أتوقعه منه، والذي يمكنه بالتالي أن يقلب توقعاتي، لأنه حي. والدليل على أننا لا نملك دائمًا الفكرة الصحيحة عن الله هو أننا أحيانًا نشعر بخيبة أمل: كنتُ أتوقّع ذلك، كنت أتخيّل أن الله سيتصرف بهذه الطريقة، ولكنني كنت مخطئًا. وبهذه الطريقة نسير مجدّدًا درب عبادة الأوثان، ونريد من الرب أن يتصرف حسب الصورة التي رسمناها له. إنها مخاطرة يمكننا دائمًا أن نخوضها: أن نفكّر بأننا نسيطر على الله، ونحبس محبته في مخططاتنا. ولكن تصرّفه هو على الدوام غيرُ متوقَّع، وبالتالي يتطلب الدهشة والعبادة.
أضاف البابا يقول علينا دائمًا أن نحارب ضدَّ عبادة الأصنام؛ تلك الدنيوية، والتي غالبًا ما تنبع من المجد الشخصي، مثل الرغبة في النجاح، وتأكيد الذات بأي ثمن، والجشع من أجل المال، وسحر الوصولية؛ وإنما أيضًا عبادات الأصنام تلك المتخفية في صورة روحانية: أفكاري الدينية، ومهارتي الرعوية... لنسهر لكي لا ينتهي بنا الأمر في أن نضع أنفسنا في المحور بدلًا من الله، ولنعد إلى العبادة. ليكن هذا الأمر محوريًا بالنسبة لنا نحن الرعاة: لنخصص وقتًا يوميًا لعلاقة حميمة مع يسوع الراعي الصالح أمام بيت القربان. لتكن الكنيسة كنيسة تعبد، ولنعبد الرب في كل أبرشية، في كل رعية، في كل جماعة! لأنه بهذه الطريقة فقط سنتوجّه إلى يسوع، وليس إلى أنفسنا؛ لأنه فقط من خلال الصمت المُصلّي ستسكن كلمة الله في كلماتنا؛ لأننا فقط أمامه سنتطهر ونتحوّل ونتجدد بنار روحه. أيها الإخوة والأخوات، لنعبد الرب يسوع!
تابع الحبر الأعظم يقول الفعل الثاني هو الخدمة. الحب هو أن تخدم. في الوصية الكبرى، يربط المسيح الله والقريب، لكي لا ينفصلا أبدًا. لا توجد خبرة دينية حقيقية تصم آذانها عن صرخة العالم. لا توجد محبة لله دون مشاركة في العناية بالقريب، وإلا فهناك خطر الفريسية. ربما لدينا بالفعل الكثير من الأفكار الجميلة لإصلاح الكنيسة، لكن لنتذكر: عبادة الله ومحبة الإخوة بمحبته، هذا هو الإصلاح العظيم والدائم. أن نكون كنيسة تعبد وكنيسة تخدم، تغسل أقدام البشرية الجريحة، وترافق مسيرة الضعفاء والمهمشين، وتخرج بحنان للقاء الفقراء. لقد أوصى الله بذلك كما سمعنا في القراءة الأولى.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات، أفكر بالذين هم ضحايا لفظائع الحرب؛ بآلام المهاجرين، والألم الخفي للذين يجدون أنفسهم وحيدين وفي ظروف الفقر؛ وبالذين تسحقهم أعباء الحياة؛ والذين لم تعد لديهم دموع، والذين لا صوت لهم. وأفكر في عدد المرات التي يتم فيها، خلف كلمات جميلة ووعود مُقنعة، تعزيز أشكال استغلال، أو لا يتم فعل أي شيء لمنعها. إن استغلال الأشخاص الأشدَّ ضعفًا هو خطيئة جسيمة تُفسِد الأخوَّة وتدمر المجتمع. نحن، تلاميذ يسوع، ونريد أن نحمل إلى العالم خميرة أخرى، خميرة الإنجيل: الله في المقام الأول ومعه الذين يحبهم، الفقراء والضعفاء.
تابع الحبر الأعظم يقول هذه هي الكنيسة التي نحن مدعوون لأن نحلم بها: كنيسة تكون خادمة للجميع، وخادمة للأخيرين. كنيسة لا تطلب أبدًا شهادة حسن سيرة وسلوك، بل تقبل وتخدم وتحب. كنيسة أبوابها مفتوحة، وتكون ميناء رحمة. وكما قال القديس يوحنا الذهبي الفم: الرجل الرحيم هو ميناء للمحتاجين: الميناء يستقبل ويحرر جميع الغرقى من الخطر؛ سواء كانوا أشرارًا أو صالحين أو أيًا كانوا الميناء يؤويهم داخل خليجه. لذلك، أنت أيضًا، عندما ترى إنسانًا على الأرض قد غرق في سفينة الفقر، لا تحكم عليه، ولا تسأل عن سلوكه، بل حرره من شقائه.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن الجمعية السينودسيّة تقترب من نهايتها. في محادثة الروح هذه، تمكنا من أن نختبر حضور الرب الحنون وأن نكتشف جمال الأخوَّة. لقد أصغينا لبعضنا البعض، وبشكل خاص، في التنوع الغني لقصصنا وحساسياتنا، وضعنا أنفسنا في إصغاء للروح القدس. اليوم، لا نرى الثمرة الكاملة لهذه العمليّة، ولكن يمكننا أن ننظر ببصيرة إلى الأفق الذي ينفتح أمامنا: إنَّ الرب سيرشدنا وسيساعدنا لنكون كنيسة أكثر سينودسية وإرسالية، تعبد الله وتخدم نساء ورجال زمننا، وتخرج لكي تحمل للجميع فرح الإنجيل المعزّي.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيها الأخوات والإخوة: أشكركم على كل ما فعلتموه في السينودس وعلى ما تواصلون القيام به! أشكركم على المسيرة التي قمنا بها معًا وعلى الإصغاء والحوار. وإذ أشكركم، أود أن أتمنى لنا جميعًا: أن نتمكن من أن ننمو في عبادة الله وفي خدمة القريب. ليرافقنا الرب ولنمضِ قدمًا بفرح!
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: البابا فرنسیس أن الله
إقرأ أيضاً:
قصة الوادي الصغير 13
الكاتب حمد الناصري
شعر الزعيم " ثابت" بالإحباط مِمّا حدث لرجال الوادي الصغير والحارات العشر وقرية الأعلى وقرية البحر وقرية التراث والبلدة العتيقة وجموع أحياء الرمال والكثبان، وتساءل، لماذا نخرج بخطة عمل ولمْ نُحقق غاية ولمْ نصل إلى هدف.؟
فقال محدثاً مُستشار المُتحد غلام الباشق:
ـ يا ترى صدقوا جميعهم أنّي لا أصلح لزعامة المُتحد " سيح المالح المتحد " ولا حتى قيادة الحارات العشر، والقريتين البحرية والتراث أو البلدة العتيقة.
كُنت أقف بحزم، وتحمّلت الأمانة وتحكّمت في صِفة الاكتساب وثابرت في تحسين مُستوى المعيشة ولي في ذلك مُبادرة، تحمل اسم " المعايش الثابتة ".
ـ اسمع مني يا سيدي.. نحن نحتاج إلى تصحيح مَسار قبل قيادة المُتحد وقبل تمكينك من تولّي زمام الأمور.. فلا بُد لك في هذه المرحلة الحاسمة، أنْ تلتفت إلى المكانة التاريخية التي تتمتع بها القُرى البحرية والرملية والأحياء والكثبان، فلكل قريةٍ رجال وتاريخ ولكل حي رجال وتاريخ، فإنْ كنت تعتقد بأنكّ ترتقي إلى العَلياء بإسقاط أولئك الرجال، فقد يكون سُقوطهم بإسقاطك من حظوتهم، ولن تنال التفوق والنجاح بدونهم.. لكنك لم تهتم بما يُميز كل قرية وحيّ، إنها إمكانيات وقوة، وكان خطؤك في ذلك كبير.. فكسب الثقة ليست مشاعر ولكن من علامات الصلابة.. نيتكَ طيبة وضميرك حيّ، وعلى قَدْر هِمّتك حَلّقت إلى سماء القِمم، وكما قيل قديماً " قدر الرجل على قَدْر هِمّته.؛ ولكن يا ـ سيدي ـ اختيار المُجاملات، اختيارك الخطأ.. اختيار لا واقع فيه، وإني واثق أنّ لك هدفًا ومشروعًا.. والأمر هُنا يختلف، فالمُدارة ليستْ مُجاملات فمُداراة الناس توارثناها أباً عن جَد وهيَ إرث حقيقي أُمِرْنا بها، والمُجاملات رِياء لا عاطفة فيها ولا هيَ بعقيدة نعتد بها.؛
تحدّثت معك بشأن خطة سير العمل، مثلًا، الحرص على العبارات الرقيقة والتأثير السحري على الحضور والناس، انتقاء الكلمات في المكان والزمان.. ولا تتحدّث عمّا خَفِي عنك من نوايا غربية وشرقية، وكان إصْرارك غير مُناسب وكان يَنبغي عليك التحرّز من الوقوع في مَصيدة الفِعْل غير المرغوب.. ولكنك أخذت تتردّد بين هؤلاء تارة وبين غيرهم تارة أخرى.. ثم تخفّفت عن قوتك تجاه ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة من بَعد توكيدها، ونكَثْت عهدك معهم حتى بدا لك أنّ ضَررهم أكبر من نفعهم وأعمالهم سيئة على مُجتمعات الأعراب، ثم قلت أنّ ذوي العيون الزرقاء هم أحسن حالًا، وفلسفة قولك، بأنّ صَمْت الشرقيين، إنه ضَرْب من الخيال إنْ استطعت خداع الغربيين، ثم ماذا بَعد.؟ خسرنا تلك القوة الكبيرة، ثُم قصدت ذوي العيون الزرقاء والأنوف الفطحاء... فالخداع ـ يا سيدي ـ باب مَنهي عنه لا يجوز الاتجار به.؛
وأعلم أنّ رجال الوادي ورجال قرية التراث والبلدة العتيقة وقرية البحر والجبل وأحياء الرمال والكثبان، تعجّبوا واستغربوا من ذلك الانقلاب المُفاجئ في كل مرّة تنكسر إلى فئة وتحط من قدر فئة أخرى، ذلك لا يليق بك كقائد وزعيم وبَقِينا وحدنا.. أنا وأنت.؛ أليس ذلك يُعَد نقصاً في شخصيتك أو انتقاص من شخصيتك.؟ لا تَلُمني إنْ تخليت عنك، فأنت سبب فرار الناس عنك.؟
بدا ثابت الزعيم المخلوع بأمر الناس منهارًا، خائرًا، اضطرب تفكيره وشلّت حركته وتذبذبت كياسته، وأخذ يُهدد ويصرخ ويتوعد.. رجل يُلقي التحية ومَثل بين يدي ثابت والمُستشار غلام الباشق لا يزال لم ينتهِ من حديثه مع ثابت، فقال الرجل:
ـ يا ثابت.. قالها بالاسم.. ورددها يا ثابت.. أنت من الآن لست زعيماً ولا قائداً ولا نَفْقَه ما تقول، وإنّا مُستعدون لخلعك بالقوة، فأنت ومن معك وأعوانك ضُعفاء بيننا لا قوة لكم.. يا ثابت، اخلع نفسك بالتي هي أحسن، فأنت لستَ عليهم بسُلطان.؛ إني أنقل إليك رسالة القوم، إمّا أنْ تتزحزح وتخلع نفسك، وإمّا أنْ نُزحزحك بقوتنا ونُخرجك بمهابة وحْدتنا.؛ يا ثابت، وهذه الرابعة، لا نُحِب لك التطرف بل نُريد منك أنْ تكون بعيداً عن المخاطر.
ـ ولكنكم أنتم ولّيْتُموني ودَعَوتُموني إلى حَمْل أمانة المسؤولية، فلماذا تلومونني ولا تلوموا أنفسكم.. أليس ذلك فيه ظُلم وفسادٌ كبير.. أتتركونني بعد أنْ كنت شاغلاً المسؤولية بأمانة وصِدق ثم قال في نفسه، كيف أتخلّى عن ذلك الأمل الكبير فقيادة الوادي الصغير يحتاج إلى وقفة صَلبة وثبات لا إلى هرب.؟ من يَظلمني مرّة فستلحق به مَظلمتي مرّات.؟
انصرف الرجل وقد لزم الهدوء وهو يُسرع الخطا عائدًا من حيث جاء.. وتبعه آخرون.
*
تهامس "ثابت" وقليل من رجال، كانوا قلقين وخائفين، قال أحدهم.. النار تأكل بعضها إنْ لم تجد ما تأكله.؛ إني أتوجس خِيْفة من كلام الرجل، إنه يُهدد الزعيم ثابت، وهذا خطر كبير، إنه يستهدفنا بقوة.
قال الهامس ونظراته لا يُخفيها عن "ثابت" يُصوبها في عينيه، أيها الرجل، لا تكن سبباً في مَصرع رجالنا ولا سبباً في مَوتنا.؛ اخلع نفسك من زعامة فيها شر لك ولنا.؛ وتنحَّ عن مسؤولية المُتحد فلا خير في مسؤولية مُولّدة للخصام بين الرجال والانشقاق والتفرّق.. إياك وتضخيم الأمور، إياك والغِلظة لا تحقد على قومك، عزّز استقرارك بينهم، ابتعد عن حالات الشكوك المُستمرة.. فإنْ لم تثق بهم لن يثقوا بك.. والنهاية ماذا.؟ خِصام وعداوة وشحناء.. ثم يَتلوها قلق وخوف وتوجس ثم صراع واقتتال بائن وغير بائن. مالكَ والسُلطة.. اخلع نفسك خير لك، نحِّ نفسك بنفسك، ذلك خير.؛
انصرف الرجل الهامس إلى ثابت غاضباً والذي طَلب منه، خلع نفسه عن زعامة المُتحد والتنحّي عن المسؤولية وفي قلبه غصّة.
*
قال غلام الباشق مُستشار الزعيم "ثابت" وقد صَوّب عينه ناحية الرجل الذي انصرف وفي نفسه غصّة من الحال المُزري الذي وقع فيه الرجال، دون أنْ يُمهل الزعيم ثابت للتعقيب والرد:
ـ ليس لديك ما تقوله بعد هذا الحال المُزري.؟ افعل ما يُريدون لا كما تُريد أنت.؟ حافظ على بقاء حياتك.؟ فالنية الطيبة خير من شجاعة عاصية.؛ ألم تقرأ، الرجال يُفضّلون على غيرهم ليس بعنادهم ولكن بنيّة طيبة، تُرفع درجاتهم إلى مراتب بسعيهم لا بعنادهم وإصرارهم على بقاء كلمته الأعلى.؛
ـ إني أفكّر في تعميم فوضى مُتعمّدة للأحداث، فوضى تُمكّننا من استغلال بعضهم لصالحنا، وتكون فرصة سانحة لتوطيد علاقتنا مع ذلك الغريب الناصح "آرثر" الذي استطاع كسبَ ودّنا وسارع إلى مدّ يد العون للمتحد ونجح بأفكاره في زرع ثقتنا به.. إنه الرجل الذي وقف إلى صّفّنا أكثر من إخوة لنا في الدّيار والرمال والكثبان.
شعر ثابت بضيق، فسارع مُسرع الخُطا ولحق به غلام الباشق مُستشار المُتحد بينما ثُلة قليلة من الناس لم يَتبعوه، وانصرفوا راجعين دون رضى عمّا يحدث في مُتحد الحارات العشر، وبعد وقت قصير، طرق ثابت باب الغريب" آرثر" وجلس إلى جواره وقد أثنى " آرثر " على ما سَمعه من حديث من مُسْتشار المُتحد غلام الباشق، وما أجمع عليه الرجال، وما أصرّ عليه ثابت وقال:
ـ دعوني ، أحدثكم على عُجالة، فأنا ناصحُ أمين للزعيم ثابت ، ولا دخل لي في قراراتكم المحلية وسِياستكم مع الغير، ودوافعكم لا أعرفها ولا تخصّني ، فأنا مُهمتي أنْ أعَلِّم وأنْ أصقل المواهب وأغرس القِيَم التنموية ومُقتصد غير مُسرف لمقدّرات وخزائن أرضكم وناصح أمين على وحدتكم ، مُتفهم لعلاقات مجتمعكم ، ذلك ما أستطيع فِعْله تجاهكم بلا إفراط فيه ، وإني أعهد إلى نفسي خدمتكم ومُستعد لأُعَلّمكم صَنْعَةً تَلْبَسونها وصَنْعَةً تُحصنكم من بأس الأشرار ، كما أستطيع دعمكم بالأفكار الإيجابية وأستمع إلى مُلاحظاتكم الهادفة لمجتمع سيح المالح المُتحد .؛
والتفتَ إلى مُستشار المًتحد غلام الباشق وابتسم:
ـ وحرّك سبابته بالنفي.. لا أريد منكم جزاءَ ولا شُكوراً ولكني أريد دافعاً منكم لتحقيق الطموحات التي نسعى إليها جميعاً، ولتخليد قِيَم يُشار إليها بالبَنان.؛ والحق أقول، سواء رفضتموها أو وافقتم عليها، فأنتم أدرى بمصلحتكم، فصَيّروها كيف شئتم وارتضيتُم.؟ وما أنا إلا مُعَلِّم ناصح وأمين لخدمة مُجتمع سيح المالح المُتحد وأُشْهِد السماء العالية والأرض النازلة أني أحببتكم كما أحبكم الرّب الأعلى وأحْمِل في نفسي شيئاً كبيراً كما حملتْ الارض أثقالها، وتزلزلت من السماء مودّة الربّ رأفة بكم، فجعلتنا في محبة وعلاقة تربطنا ببعض.؛
ثم أشار إلى حيث زعيم المُتحد، وأنت يا "ثابت" لقد تَعَلّمت على يدي، وكنت في عُنْفوانٍ وقوة وعزم وإرادة وكُنت كبيراً كلما توثّقت علاقتنا بالمجتمع والأرض، ولا ريب فإنّ أفكارك هادفة تُعَبّر عن مشاعر القلق والخوف الذي كان يُراودك، وكان طُموحك يَرقى إلى مُستوى الزعامة، فأتَيْنا بها إليك ولم تكن في الحُسبان وأمرها لم يكن مُتوقعاً في عقلك، لكنّا لا نخلف وعْدًا قطعناه على أنفسنا ولا نظلم أحداً إلا بِقَدر ظُلمه لنفسه.؛
ولا غرو فقد جعلناك في زعامة مُؤثرة على الصعيد المُجتمعي.. زعيم سيح المالح المُتحد، وقد أعجبتني رُؤيتك البعيدة، إذْ كُنت ترى الإحْتراب في رمال الوادي الصغير هَدْر للطاقات.؛ وأنّ نِزاع الأقوام على الدِّيْن من صِناعة البَشر فكُثرت الاقاويل المُنبتّة وازدادتْ الاعتقادات الظنية، وذلك يُعَد انتكاساً أضرّ بنهوض المُجتمع وكانت أفعالها نتاجاً مُخزياً أدّت إلى جرائم لم تعهدوها من قبل وألحقت خسائر كبيرة على المُجتمع الآمن.
قال "ثابت " بذل وخُنوع واستكانة، كأنه يستجدي آرثر:
ـ لا شكّ في ذلك، فأنا أسْعى كما تَسْعون وأنّ سَعيكم سوف يُرى وعملكم سوف يُجزى، وما قد اتفقنا عليه باقٍ لا تبديل فيه، وله مُتّسَع من القول، وغايتنا تغيير العُقول في أرض الأعراب وهي من أهم أهداف اتفاقنا غير المُعلن، وما قد اتفقنا عليه سِراً لنْ نبوح به لأحَد غيركم وسِرّكم محفوظٌ لألْف سَنة مِمّا تَعُدّون.؛
ـ إذنْ، عليك الآن بالتنحّي عن المسؤولية والتخلي عن الزعامة، واقترب من ذلك الرجل الذي اشتهر في مٌجتمع الحارات واشْدد أزرك به بطريقة غير مُباشرة لتكون مقبولًا لديه.. ثم سوف نُعرفك بكل شيء.؛
ـ نعم .. نحن على ما اتفقنا عليه ولا أحد يَفتر عنه.؛
ألقى المُعلم " آرثر " في قبضة " ثابت" صَرة من المال وضعها في بطن يدَ زعيم المُتحد الذي خُلع بأمر الغريب " آرثر " وتنحّى عن زعامة المتحد في ساعتها وقال المُعلم الساعي إلى الفوضى والقلق:
ـ ذلك ثمن تخليك عن زعامة المُتحد، ودافع للحَماس والتجديد، نحن نُقدّر العُقول ونرفع من قدركم، ونُثمّن التضحيات، وقد اقتنعنا بتلك المخاوف التي أبداها ذلك الرجل المُلقب بـ محسن الشيخ من رجال الوادي وأشدهم مكراً وخبثاً ، وقد بدتْ بيننا تفاهمات مُسبقة أننا ننزع منكم ما نشاء ونُؤدي لكم ما تشاؤون وسَبق وأنْ أعطيناكم فكرة عن عملنا معاً .
والحق أقول، أننا رأينا بأنْ نخمد ثورة مجتمعات الوادي الصغير بدءًا من البلدة العتيقة مروراً بالحارات العشر والساحل الطويل وانتهاء بقرية البحر ورجال الوادي الصغير، والتي مَنشؤها الشرقيون ذو العيون الزرقاء وجمعٌ من الناس، ونراهُ يشتد وناره تشتعل، وثورة يقودها مُحسن المعروف بـ محسن الشيخ، وكان من باب أولى التضحية بزعامة المُتحد، فربما قد تُؤدي إلى هلاك أنفس كثيرة وأنت مقصدها الأول.. وإنْ لم تفعل فسوف تتحوّل أصابع الاتهام إليكم وسوف تذهب الأفكار التي خططنا من أجلها معاً، ولكي تسير الأمور بلا إجحاف ولا ظُلم في حق الذين رغبوا في تنحيك عن إمارة سيح المالح أو ما يُعرف بـ متحد سيح المالح. ولكي يكون قرار التخلي عن قيادة المُتحد لأجل مُجتمع آمن ومُتعايش بسلام، ذلك هو قرار سَليم ودافع لتحقيق نشر الإيجابية بين الناس وتلاحم المُجتمع، وهذا كان رأي الرسالة الابويّة والقيادة الاعلى والقوة الغالبة في البحر والرمال.
خرج ثابت من دار المُعلم الغربي "آرثر" مُكفهر الوجه غاضباً والتفت إلى غلام الباشق وأردف بضيق:
ـ إذن، الأمر الآن يُحَفّزنا إلى ترسيخ القيم التي يُؤمن بها الشرقيون، وبعيداً عن ذوي الوجوه الحُمر المكتنزة. الان نبدأ بخطوات أكثر تسارعاً من ذي قبل.. كنت مُتوقعاً من الغربيين جانباً شيقاً وحلاً مُثيراً لكنهم خدعوني وخانوا أماناتهم، كانوا يُمجدون أفكاري ويرفعون من قدري لأكثر من رُبْع عقد من السنين، وبدتْ الإرادة تكبُر وبدأتْ الرغبة قويّة وأنا أشدّ من أزري ومن معي يُعاونوني على الأفكار المُلهمة إلى ذلك التحدّي ، والانتقال من حالة إلى أخرى بهمة كبيرة ونشاط يتزايد في نفسي ، كل ذلك من دافع يمتلئ بالسّعة التي قدموها لي الغربيون ذوي الوجوه الحُمر المكتنزة ، وها أنا الآن واحد من أولئك العُظماء وصِرْت مَضرب المَثل ومثلا يُقتدي به ، ثم لا يلبثون إلا أن يَتوارون عني خوفاً من ثورة رجال الوادي الصغير.
( ل ويريدون منا نحن من يزعمون أو يدعون بأنهم أسوياء فكراً ومنهاجاً بأن نكون معهم وأن لم نوافقهم ونسايرهم يصفوننا بالخونة وهنا الخيانة كما يقول المثل وحين ... )
إنهم يُريدون أنْ يَخدعوني وأنا خادعهم، وسأخذلهم ويدّعون بأنهم أسْوياء في الفكر ولهم مِنهاج وهم به مُؤمنون ، وهو مَنهج الخداع والمَكر وفي سيرة الأجداد لم يُوافقهم أحد ، وسوف أسايرهم حتى ولو وصفوا قومنا بالخونة.؛ فحين يَلزم الامر ، أنقلب عليهم ، ذلك مذكور في قيَم الحرب وله نظائر شتى ، في قيم الخِداع ، فقيل الحرب خدعة .؛ فحين تطغى عليك قوة أكبر منك ، وتصبح أنت عدواً على أهلك وجماعتك ، وكانت سيرتك مُعتدلة بينهم ، مُلتزمة بالصدق والمقام العالي حتى إذا أتت ساعة الاكتفاء منك والاستغناء عنك ، لا يرونك ثابت ولا مُحسن ولا عامرٌ ، يُبررون تصرفاتهم في الظُلمة ، أعذاراً تحمل أوزاراً ملأي بالتعجرف ، تنطق بها ألسنتهم قبل أوعية أفئدتهم ، ثم يكونون خصوماً يَقسون عليك بالمكر والخداع ، ألم تسمع يا ـ غلام الباشق ـ قول الحكمة "واحدة بواحدة والبادي أظلم " وفي نصوص من تُراثنا الماجد " من بُغي عليه لينصرنهُ الله" ينصرهُ كيف يشاء وبالطريقة ذاتها .. أليس ذلك يُعد فجوراً ودوافعاً تجرّ بعضها إلى مزيد من الكذب والتجنّي على أمّتنا وعلى قيمنا وأخلاقنا وعلى رجل ، عُرف بثباته وعزمه ورُشده.؛
لن أتركهم كما يُريدون ، سأتركهم يفهمونني بأني لست هيناً ، لا شيء يُعادل الإرادة وثبات الموقف ، إرادة تولّدت في عزم وصَبر وجَلد وثبات في ثورة على الماضي ليكون في نماء مُستمر مُتجاوزاً النقيض الذي ولّد القسوة والانشقاق وأوجاع الضغينة بين الناس والأقوام ، إنّ الماضي حُزن لم نشعُر به إلا بعد تجربة خُضناها بقوة من أجل الاستقرار والأمان ، تجربة تنتمي إلينا ، فقد اوقفنا الصراعات بالأفكار التي جئنا بها وأخمدنا ثورة البحر والجبل والرمال ، تجربة يتضح أثرها بمواقفنا الثابتة وعزمنا المُتجدد والمُستمر.
وسأذهب إلى السيد إسكندر آرون ، قائد بحرية الشرقيين ، لقد كان الرجل خير رجل من ذاك الارعن المُعلم آرثر الذي بدا سخيفاً ، سقيم العهد ، حاقد على مُعتقدنا وعينه على ثروتنا .. لا يكفّ عن الإفصاح عمّا بداخله من غِلّ وحقدٍ دفين ، وشرور كافرة بإيماننا القويم ، وكل ذلك مثالب من جُحود مُلحدة ، لا أصل لها ولا إقرار حتى في تُراثهم الذي يُنكر سيرة تُراثنا ويُخفونها بأفكارهم العوجاء ويُعرّضون إيماننا ومُعتقدنا إلى نزعة عِوار تشُوب نصوصهم وما يحتويه تُراثهم المِعْوج.؛
ألم تر قوله "وسوف نرسّخ ذلك في عقليات المُجتمع ، فتنازلك ، خلع للمسؤولية من ذات نفسك ، وهذا أمر كبير لا يفهمه إلا ذوو قِيَم أصيلة وقائد كبير ، وذوو تاريخ على قَدْر تاريخ الرمال والوادي الصغير ، الضارب بجذوره في أعماق التكوين ، ذلك التكوين الأصيل له أثر عظيم في شخصك، وسوف نَعدك بأن تكون قائداً على المُجتمع كاملاً تحت اسم واحد .؛ " تُرى إلى متى سيضل هذا الاستخفاف بمهامنا ومسؤوليتنا في المُتحد.؛
بعد استراحة قصيرة .. انطلق ثابت وبرفقته المستشار وأبلغا قيادة بحرية الشرقيين أنهما يرغبان في مُقابلة السّير إسكندر آرون للأسباب التي يَعلمها .. فسمح لهما ، وركبا قارباً صغيراً ، يتقافز موجات البحر إلى أنْ وصلا مركز القيادة البحرية في القرية البحرية التي تتبع منظومة الوادي الصغير .. وعرض ثابت عليه ، الأفكار التي يُمكن أن يعملا بها معاً لأجل بسط هيمنة الشرقيين على الغربيين ، واستمع السّير إسكندر آرون إلى حديث ثابت ، وقال بهدوء غير مُنفر ولا مُستفز:
ـ كلام رائع وجميل كعادتك ، ونحن كل يوم نتعلّم من بعضنا المزيد من الأفكار الإيجابية ، فالوادي ليس بوادٍ صَغير ولكنه كبير بتاريخه المُشرّف وعظيمٌ بإنسانية ذوي القِيَم والأعراف، وقد عُرف رجال الوادي الصغير ، بأنهم أول مَن شَرّعوا قانون مَبادئ الحياة .. الحرية والعدل والكرامة وكان دستورًا مُتعدد الصّفات ، شَمل المُساواة والمحبة بين الناس ، كما حرصَ على نشر الوُد والعطف والرحمة ونبذَ الشرّ بكل أشكاله الظُلم والحقد والكراهية ،وتلك قيمٌ وقفت إلى جانب الضَعيف في السراء والضراء.
سكت برهة ثم عقّب "السير إسكندر آرون" بلغة مُنددة بالتهديد والوعيد للغربيين :
ـ نحن خصوم مع الغربيين ، لا شك في ذلك ، فإن تعمل معنا ، فلا بأس في ذلك ، ولا ريب ، أنك قد قبضت الثّمن مُسبقاً ونحن مُستعدون لمضاعفة الثّمن الذي تُريد ؛ وأنت اليوم على رأس هرم التغيير ، لكنا أردنا أنْ تكون قائداً مُلهماً ، ومُغيّراً فذاً ، فاسمع واعمل كما تُؤمر، تنازل وتخلّ عن المسؤولية بطريقتك ، تجاوب مع قومك حتى تكون الأقوى والأقرب ، ونحن نُتابعك ، كُن هادئاً ، فأنتَ بأعيننا ، وعلى أمْنٍ وسَلامة ، نَحرسك بقوتنا التي لا تنام ، وإيّاك ، أنْ تَعْدُو عيناك عمّا اتّفقنا عليه أو تتجاوز عن خُطّتنا التي أمرناكَ بها وكُلِّفْت بها ، تقرّب من جماعتك وافعل ما يُريدون ، تخلً وكن مُوافقاً كيف شاؤوا ، وأرادوا ، في الزعامة والمسؤولية ، سواء أكان مُحسن الشيخ أو عامر النجدي أو أيّ رجل في الوادي الصغير.
كن مُخبراً أمينا كما عهدناك، ولا نشكّ فيك إلا بقدر ما شككت في نفسك وفي ثقتك بنا، ولا شك أنها مَحَبّة من السّماء إليك.؛
*
رجع ثابت وفي نفسه حقد على الشرقيين ، ولىّ بوجهه بائساً ، وأفكاره مُشتتة لا شرقية تقبله ولا غربية ترتضيه .. وسارع الخُطا إلى حيث الولاّدة كارينا .. وبسط عليها أفكاره وطريقة عمله مع الغربيين وشكا لها أنّ "آرثر " أغضبه.. فردت الولاّدة كارينا صديقة المعلم آرثر، بطريقة خبيثة ، ماكرة وكان للتو قد وصل " آرثر" وسمع تحاورهما وتفاجأ به ثابت لكن خرس ولم يُبدي حركة، حتى أنه بقيَ على قعدته :
ـ نحن مُهتمون بك وستكون يوماً قائد التغيير بالوادي الصغير ، ما يهمنا الآن هو أنْ نجمع الحارات والأحياء تحت سلطة وسيادة واحدة .. كما فرقنا مجتمعات الأعراب علينا أن نجمعها الآن .. هذه فلسفتنا ، وكما بدأنا ، وعْدًا علينا نسَدّهم ونجمعهم تحت سُلطة واحدة ويكون ثابت سَيّداً عليهم.. وتجربتنا لا يفهمها غيرنا ، نُفرّق ونسُدّ ، تجربة ثمرتها رسالة الربّ الأعلى وفُرصة ثَمينة لأنْ نجمع سيح المالح والوادي الصغير فهما أقرب القريبين ولو تضامناً وستأتي بقيّة القُرى تُباعاً ومُجتمعة ، خاضعة ، تطلب الانضمام إلى سيادة واحدة ومُتحد واحد ، وذلكَ لكيْ نضمن لك مقاماً محموداً في الوادي الصغير ، وتبدو ذا قيمة ومعنى ، ونعمل بعدها معاً ، ونُبَدّل ما نشاء من ذلك المُعْتقد القائم على العُبودية ونُقدّمك كأنموذج للسيادة الجديدة ،كما يُريدها الربّ سَلاماً أعلى ؛
ابتسم المعلم الغربي " آرثر" وهزّ رأسه ، مُقتنعاً بحوار صديقته الماكرة كارينا .. ولم يجد "ثابت" بُداً، فمدّ يده إلى "آرثر" وتصافحا ، مذكراً إيّاه ومُمازحاً ، تعرف أنّ المُصافحة عند الأعراب قوة وعزم وأنّ مُلامسة الخُشوم "الأنف بالأنف" تحية وسلام وكًلّما تقاربتْ الصُدور وتلاقت الأجساد شَعر الطرف الآخر بقوة العلاقة وصِدْقَها والمُصافحة عند البَدو من العادات الأصيلة والسُلوك المُتوارث وهي من قِيم وثقافة الأعراب واسعة الانتشار.
وقف " آرثر" ونهض ثابت واستقام، فقام " آرثر" بتمرير يده على جسد "ثابت" الزعيم المخلوع عن سيح المالح المُتحد ، لقد فعلتُ بيدي هذه ، كي يُطهرك الربّ من عُبودية الأعراب وتكون المُخلص لقومك الأعراب إرضاءً للرب، واعلم أنّ مُلامسة يديَ جسدك مفتاح التجديد والتقارب وفاتحة للتواصل والتغيير.
اسمع وافهم يا ثابت ، من الآن ، يجب أنْ تقوم بنشر رسالة الرب فهي تكليف لك وتطهير لقومك الأعراب ، فالمصافحة للذكر والانثى لا تَخِلُّ بالآداب العامة والحديث والنقاشات والعلم والمعرفة لكليّهما ولا فرق بين الرجال والنساء وذكّر بها رجالك التي تأمَن منهم بأنها مَظهر من مظاهر محبة الربّ وغفرانه.
اتكأ آرثر على أريكة أُعِدّت له خصيصاً وأردف قائلا وقد أقبل بوجهه إلى ثابت، وقال ، زعيم مخلوع، خير من زعيم مَقتول.؛
سكت قليلاً واحتسى شاياً مَغليّا وقال:
ـ رسالة الربّ سلام وتعاون ومحبة للناس أجمعين ، فطوبى لمن أحبّه الربّ وكان سَلاماً لكل الناس.؛
فطوبى لمن آمنَ بالسلام ذلك السلام الذي اختصّ به الربّ الأعلى ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة ، وأمّتنا الغربية عُرفت مُنذ ماضٍ تَليد ومن قديم الزمان باسْم العَرّابين ، وبالغُفْران يتطهّر كل إنسان من خطايا البشرية وما قد يُرتكبَ من أخْطاء آتية ، تُكفّر بالغُفران والخطايا بالسلام ورسالة الربّ سلام ونحن مُكَلّفون بها .. والغاية منها خلاص الإنسان من خطيئة الظُّلمة أو من خطايا الظلام إلى حياة النور.. والعَرّابون لهم حظ كبير، ذكورا وإناثاً، ومنها جاء اسم الأعراب، لذلك بيننا قواسم مُشتركة بمختلف الفئات ولا يجوز أنْ يَستهين أحد العَرّابين أو الأعْرابيين بما هو مُكلّف به فانتشار السلام بين الناس سلام الربّ وسلام الخلاص من الخطيئة.؛
قال ثابت مُحدّثاً ومُحاوراً نفسه.. خيانة المُجتمع خطيئته وسلام غير مُطمئن ، وإذا علم رجال الوادي والحارات وأحياء الرمال واستشعروا بالخطر والخديعة ، ستكون ردّة الفعل عاصفة ليس كمثلها عاصفة بل هي أشد قسوة من عاصفة ثمود وعاد وأشد عذاباً ونُكْراً من حادثة سلام الرب.. ولكن الأهم عندي المَزيد من السيادة.. فلندعهم وخطيئتهم.. ما يهمني هو أن أبْقى مُطمئنًا، وأنّ ما يقوله مُخبر الغرب صحيحاً، وسأكون في قيادة أكبر من سيح المالح ، سيداً على رجال الوادي الصغير المُتحد ولو بعد حين.
هزّ آرثر رأسه إيجاباً .. دون أنْ يَعلم ما يُحَدّث به ثابت نفسه، لكنه أراد جسّ نبض علاقته به وخاصة بَعد تخليه عن الزعامة:
ـ عِمادة الخلاص من الخطيئة أمر عظيم.. ولكن نفرّا من الذين آمنوا برسالة الربّ غير مطمئنين إليها .؛
فأحسّ ثابت بأنه يُعنيه أو هو يُشير إليه في كلامه.
فعقب في الحال وبهدوء تام :
ـ لماذا ..؟
ـ لأنّ الوجوه عَبست وكلحت ونفرت، لكأنّها مُكرهة ومُجبرة، وأمّا الذين قالوا بتكفير الخطايا لم يكونوا أهلاً لحملها باسم الربّ.؛.
ـ نعم، قد نَجِد بعض الأفكار أقرب إلى الشرقيين الذين آمنوا بعلاقة الروح بالشرّ كنتاج للخطيئة.؛
غضب " آرثر" غضباً شديداً وعقّب في الحال بسخط وضَيق :
ـ يا ثابت.. نحن تحدّثنا معًا، وقدّمْناكَ على كبار مُجتمع سيح المالح المتحد بعد أنْ كان حارات صغيرة مُشتتة ومُتنازعة، جِئْنا بك من القاع إلى الرأس، وكنت مَصدرًا مسؤولًا في المجتمع، ومَصدر سَلام من الربّ.. زعامة جعلتك كبيراً بين أقرانك، رغم أنكَ أجرمت في حق فالع وأخوه فلوع من قبله.. وأخفيتهما وجعلت عليهما حرساً شديداً واضطررت أخيراً إلى نهاية مَفتوحة لحادثتهما.؛
واليوم أراك تُعبّر عن سَخط لم يَسُرّ عِمادة الروح وقد بُلّ جسدك بطهارة الربّ.؛ ألم تقرأ نص الروح الطاهرة" أَنا مَعكم بَعْدُ زَمَن .. ثُم أمْضي.. إلى حيث أكون.."
تأثّر ثابت أو هو تصنّع تأثراً زائلاً، حزنَ وبكى.. وذرف دموعاً، وتمتم بصوت يسمعه آرثر:
ـ أيتها الروح الخفية، لك مَحَبّتي، فاجعلي النور ثباتاً في قلبي وسأعمل جاهداً لانغماس الأعراب في نورك، لكيّ يتطهروا بنورك العالي.
هزّ آرثر رأسه وابتسم:
ـ إنّ في ذلك خير، ونحن ماضُون في انتشار تَسْمية العرّابين أو العَمّادين في بقاع ذوي العيون الزرقاء أيضاً، باسْم الربّ، حتى يعمّ السلام في بقاع أعرابكم وفي شرق بلاد البِيْض فارعي الطول وحتى بلاد ذوي العيون السُود ، سكت ثم تمتم بكلام وثرثرة غير مفهومة بطريقة صحيحة كأنها تعويذة سريّة .. ولكم فضائل عُروبة نُقّيت باسم الربّ الأعلى ، وكان سلاما للعالمين وماضٍ عُرف بالمَهد وسلام المَهد سلام الربّ ولكم فيه نصيب كبير وشَمْعَة أرادها الربّ في عروبتكم، وفي حِقب زمنية ، نشرتُم السلام على رمالكم ، تنفيذاً لوصيّة الربّ وتطهيراً لخطايا جَهل أكثركم ، فما أطْهَرهُ من سلام مَجّده الربّ لأجل خطيئة لا تَعلمونها، وكُفّرت باسمه الأعظم لتكون مَسِيرة الحياة طيبة في رمال أعرابكم وفي بحركم وفي جبالكم والحارات والكثبان والرمال ، وفي الأسرار الخفية ، قال الربّ " أنا بينكم وبين الكثبان والرمال أعراب يَجهلون ، مُدد أزمانهم تطول وهم ساهون عن بصيرتنا... إلى أن قال في الإصحاح الأعظم وفي حديث مَجد الربّ الأعظم "سيتواصل البشر ببعضهم وسَيعقبهُ وجوداً، يتطوّر في سِلسلة الوجود بشراً ، وقد تتغيّر حِقب الزمن بأحداث تحمل خيراً للناس وعلى الحياة وأحداثا تأتي بالشرّ على إنسانية الأعراب .. فأصْلحوا تاريخهم الطويل وأجمعوا أمرهم تجدوني مُقبلا غير مُدبر، أكون معكم في كل حُقبة من تاريخ زمَن تتجدد فيه مُدد حَمْراء غير ساكنة، وتأتي بَعدها وعَقِبها سِنين حافلة بأحداث مُتغيرة، شديدة وليّنة، ذلك قول الربّ الأعلى، تهيئةً لحياة آمِنة رغم ما سيتغيّر عليها من أنْماط وسلوكيات مُستمرة لا نَقاء خالصًا فيها ."
توقّف آرثر برُهة وصَوّب نظره إلى ثابت.. ثُم استأنف حديثه.. نحن وإياكم نلتقي في كل شيء، لكن أصابكم بعض تحريف في القِيَم كما أصاب رسالة المحبة الأعلى.. وكنتم الفاعلين بتبليغ رسالة السلام ورسالة إصلاح أمّتكم، رسالة الربّ تخصكم فهي نور خصّكم بها الربّ الأعلى قبل أن يَخصّنا بها ، والربّ الأعلى حمّلكم إيّاها قَبْلَنا ولكنكم قوم تجهلون الحقيقة ، وتجهلون ما ينتظركم من رَحمات الربّ الأعلى وكثيرٌ منكم انفلتوا عن الحقيقة وخلص إلى غيرها من تُرّهات وشُبهات وقع فيها كثير منكم ،وكانَ ذلك الانفلات مُؤلم للعقل والقلب معاً لأنه انفلاتٌ بغير رُؤية حكيمة منكم.. وبرزتْ نصوص الحقيقة شريعة وملامح وِفَاق بين الربّ والأعراب وتوثّقت كسمة تتجلّى في سلوك أعراب أحبهم الربّ وفي وفاق يُنظر إليه على أنه تعاطف ومشاعر خصّها الرب الأعلى في حميمية بينه وبين كل فرد منكم .. لكني رأيت فيكم ، بأنكم قوم تجهلون ، ويُؤسفني القول ، أعراب لا تفقهون.؛
وكأنّ ثابتا يتحفّز للرد ،لأن آرثر وكزهُ بألمٍ في صدره وأحدث وجعاً عميقاً ، فكل الأحاديث التي جاء بها آرثر باسم الربّ كأنه يعنيه خاصة .. لكنّ آرثر قطع عليه مُبتغاه؛ فقال دعني أكمل لك .. جدلاً استقرّ وخلاف استمرّ وجاهد البعض ليكون لهم الغلبة ، وغيرهم أرادوا أنْ يَستحكموا بسطوة النّيل من الآخر ، ولأجلكم ـ من أجل أعراب قليلون ـ سَعى الربّ ليكون له ذاتاً تذوقها بشريتكم ، ويتكبّد الربّ جهادها.
يتبع 14