عمّان- وسط جمهور من النخبة وتحت شعار "الثقافة مقاومة" نظم بيت الثقافة والفنون 3 أمسيات شعرية بدأت السبت الماضي بمشاركة 4 شعراء هم أحمد أبو إسليم وعلي الفاعوري والدكتور حربي المصري والدكتور سعيد يعقوب، واختتمت بالعاصمة الأردنية مساء أمس الاثنين.

وتخلل الأمسيات معرض للكتاب نظمته دار خطوط ضم مؤلفات متنوعة عبرت في مجملها عن حالة الغضب وتغنّت بالصمود الأسطوري للمقاومة والتضحيات التي قدمها شعب لا يكره أحدا لكنه يحب وطنه وعلى استعداد لأن يفتديه، ويتطلع للحرية والحياة في منأى عن المحتل وحصاره.

وقد غلبت على ما يقرب من 10 قصائد اللهجة الخطابية الناقدة والجارحة في بعضها لواقع العرب الرسمي، لكنها تنسجم وما رددته حناجر المواطنين الذين تظاهروا في الميادين والمسيرات نحو الوطن الفلسطيني مطالبة بفتح الحدود، أو من تجمعوا أمام سفارات الدول التي دعمت القاتل وانتصرت له على حساب دماء الأبرياء في غزة.

وخلدت الأمسيات البطولة والثبات على الأرض مهما غلت التضحيات، وأكدت أن الوطن ليس قطعة غيار، في إشارة للتهجير أو ما يريده المحتل من نكبة جديدة للفلسطينيين.

غزة غيرت وجه العالم

وفي الأمسية التي عقدت مساء أمس تلا الشاعر أحمد أبو إسليم 5 قصائد نالت إعجاب الحضور، ومن عناوينها: "في الحياة" و"دمهم مطر" و"عبد الّله" و"صباح الدم إسرائيل".

ومن قصيدة " غزة " نقتطف بتصرف:

في الموت طفل لم يجد قبرا يلم عظامه
رجل يفتش عن ملامح وجهه… بعض الثياب تقيأت
جسدا تعفر بالتراب وطفلة
نسي المؤذن صوته
عند الولادة في ثنايا أذنها
فتقافزت "الله أكبر" مع بقايا لحمها

الشاعر علي الفاعوري: حاولت أن أكون واقعيا في قراءة المشهد العربي (الجزيرة)

وفي حديث للجزيرة نت قال أبو إسليم "غزة غيرت معالم الواقع في يوم واحد، ومن خلال القصيدة أحاول أن أرفع من قيمة المقاومة الفلسطينية في الوقت الذي تخلى العالم عنها وعن فلسطين".

وحول دور المثقفين عقب عملية "طوفان الأقصى" -التي أطلقتها المقاومة ضد إسرائيل"- يرى أبو إسليم الذي لُقب بـ"شاعر القضية" في مسابقة "أمير الشعراء 2008" أنه على المثقف بالذات أن "ينتصر للمقاومة حتى لو كان يسير عكس التيار، وحتى لو كان الثمن خسارة بعض المصالح الذاتية، لأنه حين يغلب المصالح الذاتية على العامة، وهذا شأن الكثير من المثقفين، نجد أن الثقافة تفقد محتواها كمحرض للوعي ورافعة للواقع".

الشعر رصاصة

أما الشاعر علي الفاعوري فألقى قصيدة جديدة تحمل الكثير من الإسقاطات السياسية بعنوان "غزة" وهي آخر قصيدة وطنية كتبها، ومنها:

أي شعر وغزة اليوم تحكي قصة المجد والعلا بالدماء
وحدها الآن والملايين نمل وغثاء يشي بطول غثاء
وحدها الآن والإذاعات بوق أرعن الصورة مختتن بالرغاء
أشرب الصبر من كؤوس المنايا.. نشرب الخمر في كؤوس ضباء
وننادي سيوف من ذبحونا وتمادوا منّا لذل النداء

وفي حديثه للجزيرة نت، قال الفاعوري إنه حاول ما أسماه "تقشير الواقع السياسي" وأن يكون واقعيا في قراءة المشهد العربي تجاه ما تحصده آلة القتل الصهيونية في غزة.

وقال الفاعوري "على الشعر أن يخرج من خلف الستار ويقف مكشوف الوجه أمام كل هذا التخاذل العربي والعالمي.. وعلى الشعر أن يكون رصاصة قبل أن يكون كلمة تقال".

فالبطل في مجمل القصائد هو النموذج الشعري، أكان مقاتلا يمتشق سلاحه أو مواطنا فقد عائلته أو بيته، وصبر وتحمّل قذائف الحقد، أو عاملا في الجهاز الطبي أو الدفاع المدني، كما جاء في قصيدة الدكتور سعيد يعقوب:

سلمت يمينك أيها البطل
يا من بها يستنبت لها الأمل
لولاك نار الصدر ما انطفأت
كلاّ ولا شفيت به الغلل
ستظل نورا خلف مشعله تمشي ولو طالت بنا السبل

الشاعر سعيد يعقوب يطالب بإسناد المقاومة الفلسطينية (الجزيرة)

وقال الشاعر الدكتور حربي المصري للجزيرة نت "إننا كمثقفين عرب علينا واجب دعم المقاومة باعتبارها النهج المثمر في مواجهة المشروع الصهيوني وإسنادها بالكلمة المقاتلة وتحريض جماهيرنا على الصمود مهما غلت التضحيات".

وفي قصيدته التي القاها في أمسية السبت بعنوان "عودة جسّاس" نقتبس منها بتصرف:

جهّز سهامك قالت الأقواس
عار ويأتي بعده الجسّاس
وتعود بكر من خيام شتاتها
تمشي ويرشد ضعنهم نخّاس
قالوا تصالح ليس ثمة مخرج
وأغمد سيوفك ما لنا متراس
الصلح لا يجدي فجرّد كفنا
من كفهم فجميعهم أنجاس
والصلح لا يجدي ودمعة مسجد
تهمس وتعزف حزنها الأجراس
القدس خط فاصل قال الذي فيه
صفة الأقدار والأقداس
أدعو الجليلة كي تجيّش نخوة
للقدس يصنع نصرها الحراس

طوفان الأقصى

وعقب الأمسية قال الشاعر والتشكيلي محمد العامري للجزيرة نت إن حدث "طوفان الأقصى" استثنائي في تاريخ المقاومة الفلسطينية وما أنجزته خلال ساعات، وصمودها على الأرض رغم التضحيات يعتبر صادما للمحتل والعلوم العسكرية العربية والأجنبية.

وأضاف أن الحدث الكبير "أسقط فكرة الحضارة الغربية لكونها اتخذت موقفا مؤيدا للقاتل، ممّا قاد إلى رفع منسوب الكراهية لدى المواطن العربي تجاه الغرب والكيان المحتل، وتساوى الغرب الحضاري مع القاتل".

وحول تقييمه لمدى تجاوب القصائد مع "طوفان الأقصى" رأى العامري أن الشاعر لم يكن منفصلا عن قضاياه المحورية والإنسانية، فقد ألقى الشاعر حربي المصري، وهو بالمناسبة مختص بالكيمياء، قصائد ترتقي بقدر كبير إلى نبض الشارع العربي، وهي ناقدة بشكل جارح للمواقف العربية الباهتة.

وحسب رؤيته فقد غلبت على قصائد أمسية السبت النبرة العالية، فـ"القصيدة الخطابية" هي ما يتناسب وطبيعة حناجر الجماهير العالمية أجمع والعربي خاصة.

الشاعر مظهر عاصف: لا يمكن لألف شاعر كالمتنبي أن يعبروا عن نقطة دم واحدة أريقت (الجزيرة) المقاومة واسترداد الحقوق

وفي أمسية الأحد، قدم الشاعر الدكتور سعيد يعقوب 3 مقاطع من قصيدة "طوفان الأقصى" منها بتصرف:

سَلِمَتْ يَمِينُكَ أَيُّهَا البَطَلُ ..  يَا مَنْ بِهَا يُسْتَنْبَتُ الأَمَلُ
لَوْلَاكَ نَارُ الصَّدْرِ مَا انْطَفَأَتْ .. كَلَّا وَلَا شُفِيَتْ بِهِ الغُلَلُ
وَشَغَلْتَ نَفْسَكَ بِالعُلَا هَدَفًا ..  وَالنَّاسُ بِالَّلذَّاتِ تَنْشَغِلُ
سَتَظَلُّ نُورًا خَلْفَ مِشْعَلِهِ ..  نَمْشِي وَلَوْ طَالَتْ بِنَا السُّبُلُ

مَهْمَا عَلَيْنَا أَجْلَبَ الأَعْدَاءُ ..  وَتَغَطْرَسَ الأَنْذَالُ وَالعُمَلَاءُ
وَبَغَى عَلَيْنَا الظَّالِمُونَ وَحَشَّدُوا .. وَقَسَا المُصَابُ وَطَالَتِ الظَّلْمَاءُ
تَمْتَدُّ فِي قَلْبِ التُّرَابِ جُذُورُنَا ..  وَلَنَا بِرَغْمِ الحَاقِدِينَ بَقَاءُ
وَجِبَاهُنَا رَايَاتُ عِزٍّ فِي المَدَى .. وَرُؤُوسُنا فَوْقَ السَّمَاءِ سَمَاءُ

بَاقُونَ رَغْمَ القَصْفِ وَالتَّدْمِيرِ ..  بَاقُونَ رَغْمَ رَسَائِلِ التَّحْذِيرِ
وَشْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ وُجُودُنَا ..  بَاقٍ، بِرَغْمِ جَرَائِمِ التَّطْهِيرِ
هَذِي البِلَادُ بِهَا نَزِيدُ تَجَذُّرًا ..  وَوُجُودُكُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جُذُورِ
وَسَتَرْحَلُونَ وَقَدْ غَشَتْكُمْ ذِلَّةٌ .. مَعَ خِزْيِ عَاقِبَةٍ وَشَرِّ مَصِيرِ

هَذِيْ الجَرَائِمُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَا البَشَرُ ..  وَلَا المَغُولُ بِهَا جَاؤُوا وَلَا التَّتَرُ
هَذِيْ الجَرَائِمُ لَمْ تَسْمَعْ بِهَا أُذُنٌ ..  وَلَا رَأَى عُشْرَهَا مَهْمَا رَأَى بَصَرُ
هَذِيْ الجَرَائِمُ لَا الحَيْوَانُ قَارَفَهَا .. وَلَا الشَّيَاطِينُ لَوْ هَمُّوا بِهَا قَدِرُوا
رُدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ ..  وَعَاقِبُوهُمْ وَلَا تُبْقُوا وَلَا تَذَرُوا

وفي حديثه للجزيرة نت، قال الشاعر سعيد يعقوب إن قصائده تضمنت مجموعة من الرسائل الموجهة لأبناء الأمة عموما، أولاها التأشير على حجم الدمار الهائل الذي ارتكبته قوات الاحتلال بقصفها الممنهج لتدمير معالم الحياة في قطاع غزة في حرب إبادة وتطهير عرقي، والثانية التوعية بضرورة إسناد المقاومة وأهل غزة بأسباب المنعة والقوة والثبات.

وتضمنت الرسالة الثالثة التحذير من الخطر القادم والداهم من العدو الذي يستفرد اليوم بغزة، وسينتقل إلى أدوار أخرى للقضاء على أمتنا العربية والحضارة الإسلامية، وهناك رسالة موجهة للمقاومة تمجد البطولة وتدعم الصمود، وتشد على أيدي المقاومين لمواصلة تحدي آلة الدمار الإسرائيلي باعتبارها الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق المشروعة.

وقال الدكتور يعقوب إنه كتب ديوانا كاملا بعنوان "غزة تنتصر" عقب عدوان 2014 بحكم أن الشاعر "زرقاء اليمامة" في مجتمعه يرى بعيون القلب حسب وصفه، لكنه استدرك بالقول إنه يؤمن أن الحق لا يمكن استرجاعه إلا بالمقاومة، واعتمادها خيارا وحلا وحيدا من أجل التحرر من الاحتلال، ولا بد من دفع ثمن باهظ، فنحن ندافع عن أرضنا وعرضنا وديننا وهويتنا العربية الإسلامية".

قصائد تحرق الصمت والضعف

وعن مدى تعبير قصائد 3 أمسيات شعرية عن تطلعات الأهل في فلسطين المحتلة، قال الشاعر مظهر عاصف الذي حضر الأمسية "لقد عبرت إلى حد كبير، ولكن الوجع الممتد من المحيط إلى الخليج يجعل من غير الممكن لألف شاعر كالمتنبي أن يعبروا عن نقطة دم واحدة أريقت، والوجع هو كما قال الراحل نزار قباني (لا يستطيع أن يعبر عن فمي إلا فمي)".

وأضاف -في حديث للجزيرة نت- أن الذي يعبر عن الوجع "هو الذي يصدره طفل أخرجوه من بين الأنقاض شهيدا أو جريحا أو ناجيا إلى حين، كما الوجوه التي ترى فيها آثار الحياة والموت، هو صوت الانفجارات والنيران، صوت الهدوء الذي يسبق الموت، الفرحة التي يصبّر الناس أنفسهم بها عند أي خبر عابر عن انتصار واحد، ولو كان بسيطا على شكل كلمة أو جملة أو عبارة وردت على لسان أحد المقاومين أو المتجذرين في أرضهم".

ويرى أننا "نجتر الحزن منذ 75 عاما" وأن "الوجع العربي أكان متعلقا بقضيتنا الأولى فلسطين أو بقضايا الأوطان العربية الجريحة كسوريا وليبيا واليمن والسودان، يدفعنا دوما إلى إراقة الحبر على الورق تماشيا مع إراقة دم الأبرياء والمظلومين على الأرض".

وقال أيضا إن الشعر ترجمة لكل ما يجري حولنا "لكنه عندما يتعلق بقضية فلسطين فإنه يأخذك نحو التحريض على المقاومة ورفض المحتل وإظهار العداء لكل من يبرر جرائم هذا الكيان الغاصب، ولن تجد في القصيدة الحقيقية دعوة للتسامح والتعايش أو أسئلة عن سبب العداء، فهي قصيدة واضحة المعالم تعرفها بعينها منذ أول السطر، وتظهر لك طرفي المعادلة: صاحب الأرض ومغتصبها".

ويواصل مظهر عاصف بالقول "كانت القصيدة على الورق أشبه بالجمر الذي يحرق الصمت والضعف الذي يسكننا.. كانت تسير على صفيح ساخن نحو أمل يتعلق بالجميع ويتمناه الجميع بمن فيهم من لم يقرأ بيتا واحدا من الشعر" ويضيف "هذه الأحداث لم تفجر إبداع الشاعر بل فجّرت الشاعر نفسه من الحزن".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: طوفان الأقصى قال الشاعر للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

بعد 9 أشهر من القتال.. ما المطلوب أن تتنازل حماس عنه!

يمانيون – متابعات
في سنوات خلت، ولا سيما بعد الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” عام 1987، كان العديد من مراكز الدراسات المختصّة بمتابعة شؤون الحركات الإسلامية يصنّف الحركة بأنها تنظيم راديكالي متشدّد، وخصوصاً في ما يتعلّق بالصراع مع دولة الاحتلال الذي رأت فيه الحركة في ذلك الوقت أنه صراع عقائدي لا يتعلّق بصراع على الحدود الجغرافية لفلسطين المحتلة فحسب، بل بنظرة أشمل، كانت ترى أن اليهود سبب كل الخراب والشر في العالم، ولا بد من مواجهتهم بغض النظر عن الأثمان التي يمكن أن تدفعها الحركة في سبيل ذلك.

بعد سنوات من تلك الفترة التي شهدت صعوداً كبيراً للحركة على المستوى الشعبي في صفوف الفلسطينيين، وبعد غياب عدد كبير من قادتها المؤسسين نتيجة عمليات الاغتيال الصهيونية المتتالية، أمثال الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور إبراهيم المقادمة وغيرهم الكثير، حدث بعض التغيّر في موقف الحركة في ما يتعلّق بكثير من القضايا التي اعتقد البعض، لا سيّما من أنصارها ومحبّيها، أنها ثابتة ولن تتغيّر، مثل القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعدما كانت الحركة ترفع شعار فلسطين من البحر إلى النهر أو المشاركة في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية “المجلس التشريعي”، بعدما كانت ترى أن هذه المشاركة تسليم وإقرار باتفاق أوسلو الذي وُقّع بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني عام 1993، والذي عارضته الحركة بشكل واضح لا لبس فيه، ووصفته إبّان توقيعه بأنه خيانة للوطن والشعب، وأنه سيأتي بنتائج كارثية على القضية الفلسطينية لن تكون أقل ضرراً من وعد بلفور المشؤوم.

لاحقاً، اكتسحت حماس انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، متفوّقة على حركة فتح التي افتقدت القيادات الشابة أو هكذا أُريد لها، وعانت الكثير من المشكلات على مستوى الإدارة والبرامج وطرح الحلول والرؤى لكثير من القضايا التي كانت تهم الشارع الفلسطيني في تلك الفترة، إضافة إلى تهم الفساد التي لاحقت مجموعة كبيرة من النافذين في كبرى الحركات الفلسطينية، والتي ذاب جزء كبير من أجهزتها وقياداتها في جسم السلطة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ترك وما زال آثاراً كارثية في هذه الحركة العريقة والكبيرة.

في الحقيقة، أنا هنا لا أنوي استذكار تاريخ حركة حماس، ولا تعداد إنجازاتها، وهي كثيرة، ولا إخفاقاتها كذلك، ولا أرغب أيضاً في هذا الوقت تحديداً بفتح صفحة الانقسام الداخلي البغيض الذي مرت عليه سنوات طوال من دون تفكيك تداعياته أو معالجة آثاره رغم عديد المحاولات التي بُذلت في هذا الإطار، إذ إن المرحلة الحالية التي تشهد فيها القضية الفلسطينية واحدة من أكثر مراحلها حساسية وخطورة بفعل العدوان الصهيوني تحتّم على الجميع أن يبحث عن القواسم المشتركة بين جميع أبناء الشعب الفلسطيني وبين قواه السياسية المناضلة، والتي كما جرت العادة عند كل الشدائد تُلقي كل خلافاتها وتبايناتها خلف ظهرها، وتنسى أو تتناسى، ولو مؤقتاً على أقل تقدير، كل ما شجر بينها من مشكلات، وتركّز جهودها على مواجهة التحدّيات والمصاعب التي تستهدف كل أبناء هذا الشعب من دون تمييز أو تفريق.

بعد انطلاق معركة “طوفان الأقصى” قبل 9 أشهر تقريباً، والتي فاجأت الكثيرين، سواء من الفلسطينيين أو “الإسرائيليين” وغيرهم في كل أرجاء العالم، تم اتهام حركة حماس من كثير من الأطراف، كان من بينها أطراف فلسطينية، بأنها أخطأت في تقدير الموقف، ولم تحسب حساباً لقوة الطرف الإسرائيلي الذي تعرّض لإهانة غير مسبوقة دفعته إلى الرد بقسوة وعنف كبيرين، ولا للإمكانيات الهائلة التي يملكها، ولا لإمكانية تدخّل حلفائه في العالم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى تنفيذ الحركة عملية عسكرية هجومية بهذا الحجم غير المسبوق من دون إطلاع أيٍ من حلفائها، سواء الفلسطينيون أو في محور المقاومة، على نياتها ومخططاتها، وهو الأمر الذي اعتقد البعض حينها أنه سيترك آثاراً سلبية في مشاركة هؤلاء الحلفاء في المعركة.

في حقيقة الأمر، يمكن تفهّم اختلاف البعض مع حركة حماس فيما ذهبت إليه صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، سواء من ناحية الاستفراد باتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الكبير أو في ما يخص عدم وجود خطط قابلة للتنفيذ على مستوى تأمين الجبهة الداخلية في قطاع غزة، لا سيما على صعيد مواجهة الأزمات التي لا تُحصى، والتي نشأت نتيجة العدوان والحصار أو في ما يتعلّق بالأمن الغذائي للمواطنين الذين عانوا المجاعة وما زالوا، أو بتأمين المياه الصالحة للشرب أو الحد الأدنى منها أو الكهرباء، وغير ذلك الكثير من المتطلبات الحياتيّة الضرورية، ولكن من غير المفهوم قيام البعض بالهجوم على الحركة واتهامها بأنها كانت السبب المباشر فيما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، من جوع وفقر ودمار وإطباق للحصار بصورة شاملة، إلى جانب العدد الهائل من الشهداء والجرحى والمعتقلين والكثير من الأزمات التي لم تكن لتحصل لولا عملية طوفان الأقصى بحسب وجهة نظرهم.

واللافت في الموضوع أكثر أنَّ هناك مطالبات من آخرين بدأ نسقها يرتفع رويداً رويداً بضرورة تقديم حركة حماس، ومعها كل فصائل المقاومة، جملة من التنازلات تكاد تقترب من إعلان الاستسلام بهدف إنهاء العدوان، ووقف مسلسل المذابح والجرائم الذي يُرتكب بحق الفلسطينيين، بغض النظر عن التداعيات الاستراتيجية التي يمكن أن تتركها هذه التنازلات، وإمكانية أن تؤدي إلى نتائج كارثية على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يعاني أصلاً صعوبات ومشكلات جمّة نتيجة أسباب لا يتّسع المجال لذكرها حالياً.

هذه المطالبات التي تحمل نيات حسنة من البعض، ولا سيما الفلسطينيين منهم، تحمل في طيّاتها خطورة كبيرة، وخصوصاً أنها تتقاطع بشكل أو بآخر مع مطالبات أخرى من دول إقليمية وعالمية تقف على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي قدّمت وما زالت عشرات مليارات الدولارات “للدولة” العبرية من أجل قتل وإبادة سكّان القطاع المنكوب، إضافةً إلى إمدادها بمختلف أنواع الأسلحة التي تقطّع أوصال النساء والأطفال، وتحوّل بعضهم إلى رماد بفعل الموجات الانفجارية الهائلة الناتجة عن قنابلها التي يزن بعضها 2000 رطل ويزيد.

في كل جولات المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين حركة حماس كممثل عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وبتشاور كامل مع باقي أطراف محور المقاومة في المنطقة، وبين الكيان الصهيوني ومن ورائه أميركا وبريطانيا وغيرهما، والتي جرت في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، كانت حماس تبذل جهوداً كبيرة من أجل إيقاف العدوان ورفع الحصار وإعادة الإعمار، وصولاً إلى إبرام صفقة تبادل أسرى مشرّفة يُفرج بموجبها عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين الذين يقبع المئات منهم وراء قضبان سجون الاحتلال منذ سنوات طوال.

وقد أبدت حماس، بحسب اعتراف الوسطاء أنفسهم، مرونة كبيرة في هذا الجانب، وقدّمت بعض التنازلات التي رأت أنها لن تخلّ بالمبادئ التي تم التوافق عليها بين فصائل المقاومة، والتي تسعى في الأساس إلى حفظ حقوق الشعب الفلسطيني والمحافظة على منجزات معركة طوفان الأقصى، والتي لا يجوز التفريط بها مهما كلّف الأمر.

الحديث عن تعنّت حماس والمقاومة كان يصدر على الدوام عن دولة الاحتلال التي يعرف الجميع، بمن فيهم الأميركيون، أن رئيس وزرائها لا يرغب في التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، وأنه يسعى لإطالة أمد الحرب المجنونة التي يشنّها جيشه ضد قطاع غزة لأطول فترة ممكنة، وأن مماطلته وتسويفه التي لا تخفى على أحد تهدف في المقام الأول إلى المحافظة على كرسي الحكم في “إسرائيل”، والذي يهتز من تحته بشدّة خلال الفترة الأخيرة ويقترب من السقوط نتيجة الإخفاقات، سواء في قطاع غزة أو على الحدود الشمالية مع لبنان، والتي يقترب محورها من الانفجار الشامل نتيجة تواصل العدوان على غزة.

في اعتقادي، الحملة الممنهجة التي يشارك فيها العديد من الأطراف العربية والغربية للضغط على حركة حماس لتقديم جملة من التنازلات، والتي يوازيها ارتفاع في وتيرة العدوان على مختلف مناطق القطاع، كما يحدث في رفح منذ شهرين أو حي الشجاعية ومنطقة تل الهوا شرق وجنوب غرب مدينة غزة، إضافة إلى تشديد الحصار بشكل غير مسبوق، ستشهد مزيداً من الحراك خلال الأيام والأسابيع القادمة. هذا الأمر بدا واضحاً في التصريحات الأميركية الأخيرة التي حمّلت حماس مسؤولية عدم التوصّل إلى اتفاق حتى الآن، وهو الأمر الذي ردّت عليه في أكثر من تصريح ولقاء صحافي.

بعد هذا الوقت الطويل من القتال الصعب والقاسي في شوارع القطاع المحاصر وأزقّته، وبعد إخفاق وفشل واضحين لجيش الاحتلال في تحقيق أيٍ من أهداف الحرب المعلنة، وفي ضوء المزيد من التأزّم على مستوى العلاقات الداخلية الإسرائيلية، التي باتت تُلقي بظلالها القاتمة على المشهد الصهيوني بكل تفاصيله، وهو الأمر الذي دفع البعض في الدولة العبرية إلى إبداء مخاوفه من مغبّة انفلات الأمور من عِقالها، سواء في ما يتعلّق بالعلاقات الداخلية الصهيونية التي يتوقّع الكثيرون ارتفاع وتيرة الخلافات بداخلها، بما يمكن أن يصل في وقت ما إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين اليهود المتدينين المتطرفين من جهة والصهاينة العلمانيين من جهة أخرى أو في ما يتعلّق بإمكانية تحوّل الحرب على غزة إلى مواجهة إقليمية من العيار الثقيل، يُجمع كل قادة الاحتلال أنها لن تكون في مصلحة “دولتهم”، وخصوصاً أن جيشهم العالق في رمال غزة لا يملك الإمكانيات البشرية والتسليحية لمواجهة حرب على أكثر من جبهة، إضافةً إلى وضع الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني، والتي لا يمكن لها أن تتحمّل الضغط الناتج من مواجهة من هذا النوع.

في ضوء كل ذلك، هناك محاولات لمزيد من الضغط على حركة حماس لقبول المقترح الأميركي لوقف إطلاق النار، والذي عدّه بايدن خطة إسرائيلية في الأساس، فيما تنصّل منه نتنياهو على الهواء مباشرة في المقابلة التي أثارت جدلاً كبيراً على إحدى القنوات الصهيونية التلفزيونية، قبل أن تعود مصادر صهيونية وتؤكد التزامه به.

هذا الضغط الذي ألمحت إليه الكثير من الجهات العربية والأوروبية، والذي تتحاشى حركة حماس الإشارة إليه علانية حفاظاً على علاقاتها بالعديد من الأطراف في المنطقة، يبدو أنه يهدف إلى دفع الحركة إلى تقديم تنازلات في عدد من الملفات، وإن كان لا يُطلب منها ذلك صراحة، إلا أن المتتبّع للتصريحات الصهيونية والأميركية تحديداً يمكن له اكتشاف الكثير من النقاط التي يرغب الحليفان الاستراتيجيان في الحصول عليها حتى من دون تضمينهما في مقترح الاتفاق.

النقطة الأولى تتعلّق بفك الارتباط بين المقاومة في قطاع غزة من جهة، والضفة المحتلة ومدينة القدس من جهة أخرى، إذ يسعى العدو الإسرائيلي للحصول على ضمانات بعدم مشاركة المقاومة في غزة في أي مواجهة قادمة يكون عنوانها القدس أو المسجد الأقصى، بحيث تُترك القدس وأقصاها لأهلها فقط، وهم الذين كانوا على الدوام يسندون ظهورهم على ركنهم الشديد في غزة، والذي لم يخذلهم في معظم المحطّات التي تطلبت تدخلاً مباشراً وعاجلاً.

هذا الحال ينسحب، بحسب الرغبة الصهيونية ، على مدن الضفة المحتلة أيضاً، والتي يحتاج الاحتلال فيها إلى إطلاق يده للقضاء على كل مظاهر المقاومة في مخيماتها وقراها، من دون أن ترفع المقاومة في غزة البطاقة الحمراء في وجهه، كما حدث في عدد من المرات، والتي خاضت فيها المقاومة في القطاع مواجهات عسكرية بغض النظر عن فترتها الزمنية من أجل ردع الاحتلال عن مواصلة جرائمه في الضفة.

النقطة الثانية هي رغبة العدو في ضمان امتناع المقاومة في قطاع غزة عن إعادة بناء قوّتها العسكرية بالصورة التي كانت قبل الحرب أو بصورة أكثر تنظيماً وأكثر فاعلية، وهو، أي العدو، يريد فرض نظريته الأمنية والعملياتية على كل جغرافيا القطاع بما يشبه الحالة الموجودة في مدن الضفة المحتلة، بحيث تتحوّل الفصائل المقاتلة التي ذاق بأسها خلال مراحل المعركة الحالية إلى ما يشبه قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة، والتي لا تضطلع بأي من الأدوار المنوطة بها في حفظ أمن المواطنين وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم صباحاً مساء بفعل اعتداءات جيش الاحتلال والمستوطنين، فيما تنتفض لإعادة مستوطن أو جندي صهيوني دخل إلى إحدى المدن الفلسطينية عن طريق الخطأ.

ثمة نقطة ثالثة وأخيرة، حتى لا نطيل، تتعلّق بإعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، والتي تُعتبر إحدى أهم نقاط الخلاف بين المقاومة والعدو، إذ إن هناك رغبة إسرائيلية في التدخّل في كل ما يحتاجه القطاع من أدوات ومواد الإعمار، سواء على صعيد النوع أو الكم، وهو بذلك يسعى إلى إطالة فترة الإعمار إلى أجل غير مسمّى، ولا سيما أن إصلاح وتجاوز الأضرار الناتجة من العدوان الحالي تحتاج، بحسب كثير من الجهات المختصّة، إلى أكثر من 10 سنوات وربما يزيد، إضافة إلى مليارات الدولارات التي لا يبدو أن الاحتلال سيسمح بتدفّقها بسلاسة ويُسر، كما حدث خلال الحروب السابقة، والتي ما زال البعض من المواطنين لم يستلم التعويضات الخاصة بها حتى وقتنا الحالي.

على كل حال، المطلوب من حماس والمقاومة أن تتنازل عنه كثير، وهو في حال حدوثه لا سمح الله يعني من دون أدنى شك أن كل التضحيات التي قدّمها شعبنا في غزة والضفة، وفي باقي ساحات المقاومة في المنطقة، ستذهب أدراج الرياح، وستخرج “إسرائيل” المأزومة والغارقة في دوامة من المشكلات والأزمات منتصرة، وهو الأمر الذي سيترك تداعيات هائلة على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني، وعلى مشروع المقاومة الذي اشتدّ عوده وقوي ساعده في كل المنطقة.

بالتأكيد، نحن على ثقة تامة بأن هذا الأمر بإذن الله لن يحدث، وأن حماس وكتائبها المظفّرة والجهاد وسراياها البطلة وكل قوى المقاومة الشريفة والعزيزة التي قدّمت تضحيات كبيرة وغير مسبوقة، وبذلت في سبيل منع انتصار العدو المجرم كل جهد ممكن، ووقفت كالجبل الشامخ في وجه التهديدات والابتزازات والإغراءات لن تكون إلا كما عهدها شعبها وأمّتها وفيّة وأمينة على مصالحة، وحريصة على أن يعيش بكرامة وحرية، مهما كان طالت فترة العدوان، ومهما ازدادت كلفته.

نحن على ثقة على الرغم من تضاؤل فرص الوصول إلى وقف لإطلاق النار بفعل التعنّت الصهيوني المعتاد والتساوق الأميركي الواضح، بأن نهاية هذا العدوان باتت قريبة، وأن سيوف الاحتلال التي أشهرها في وجه غزة ومقاومتها وشعبها ستتكسّر عما قريب، وأن كل الخطط التي يتم الحديث عنها “إسرائيلياً” وأميركياً لليوم التالي لتوقف العدوان لن ترى النور بإذن الله، وسترتد مكايدهم إلى نحورهم، وستسقط أوهامهم كأحجار الدومينو، كما سقطت نخبة جنودهم وضباطهم في تل السلطان والشابورة والشجاعية والزيتون وجباليا وعبسان.

مقالات مشابهة

  • دعم الكتاب المطبوع وعودة مؤتمر أدباء مصر.. أبرز مطالب الشاعر أحمد شبلول لوزير الثقافة الجديد
  • بإطلالة خضراء.. بشرى تشارك في مهرجان عمان السينمائي
  • بطولة تامر هجرس وهيدي كرم.. مفاجأة في دور عرض فيلم «جوازة توكسيك»
  • احتفالات 30 يونيو.. تاريخ الثورات المصرية في لقاءات نادي الأدب بالزقازيق
  • رايات الشمس البنفسجية
  • قصائد وجدانية ووطنية في المحطة الثقافية بجرمانا
  • السليمي يرفع تصنيفه للمركز 13 عالميا بعد ذهبية بطولة آسيا
  • هيئة قصور الثقافة تنعي الشاعر محمد خميس
  • بعد 9 أشهر من القتال.. ما المطلوب أن تتنازل حماس عنه!
  • هيئة قصور الثقافة تنعى الشاعر محمد خميس