الثقافة مقاومة.. قصائد غاضبة تجتمع في عمان لتمجيد بطولة غزة
تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT
عمّان- وسط جمهور من النخبة وتحت شعار "الثقافة مقاومة" نظم بيت الثقافة والفنون 3 أمسيات شعرية بدأت السبت الماضي بمشاركة 4 شعراء هم أحمد أبو إسليم وعلي الفاعوري والدكتور حربي المصري والدكتور سعيد يعقوب، واختتمت بالعاصمة الأردنية مساء أمس الاثنين.
وتخلل الأمسيات معرض للكتاب نظمته دار خطوط ضم مؤلفات متنوعة عبرت في مجملها عن حالة الغضب وتغنّت بالصمود الأسطوري للمقاومة والتضحيات التي قدمها شعب لا يكره أحدا لكنه يحب وطنه وعلى استعداد لأن يفتديه، ويتطلع للحرية والحياة في منأى عن المحتل وحصاره.
وقد غلبت على ما يقرب من 10 قصائد اللهجة الخطابية الناقدة والجارحة في بعضها لواقع العرب الرسمي، لكنها تنسجم وما رددته حناجر المواطنين الذين تظاهروا في الميادين والمسيرات نحو الوطن الفلسطيني مطالبة بفتح الحدود، أو من تجمعوا أمام سفارات الدول التي دعمت القاتل وانتصرت له على حساب دماء الأبرياء في غزة.
وخلدت الأمسيات البطولة والثبات على الأرض مهما غلت التضحيات، وأكدت أن الوطن ليس قطعة غيار، في إشارة للتهجير أو ما يريده المحتل من نكبة جديدة للفلسطينيين.
غزة غيرت وجه العالموفي الأمسية التي عقدت مساء أمس تلا الشاعر أحمد أبو إسليم 5 قصائد نالت إعجاب الحضور، ومن عناوينها: "في الحياة" و"دمهم مطر" و"عبد الّله" و"صباح الدم إسرائيل".
ومن قصيدة " غزة " نقتطف بتصرف:
في الموت طفل لم يجد قبرا يلم عظامه
رجل يفتش عن ملامح وجهه… بعض الثياب تقيأت
جسدا تعفر بالتراب وطفلة
نسي المؤذن صوته
عند الولادة في ثنايا أذنها
فتقافزت "الله أكبر" مع بقايا لحمها
وفي حديث للجزيرة نت قال أبو إسليم "غزة غيرت معالم الواقع في يوم واحد، ومن خلال القصيدة أحاول أن أرفع من قيمة المقاومة الفلسطينية في الوقت الذي تخلى العالم عنها وعن فلسطين".
وحول دور المثقفين عقب عملية "طوفان الأقصى" -التي أطلقتها المقاومة ضد إسرائيل"- يرى أبو إسليم الذي لُقب بـ"شاعر القضية" في مسابقة "أمير الشعراء 2008" أنه على المثقف بالذات أن "ينتصر للمقاومة حتى لو كان يسير عكس التيار، وحتى لو كان الثمن خسارة بعض المصالح الذاتية، لأنه حين يغلب المصالح الذاتية على العامة، وهذا شأن الكثير من المثقفين، نجد أن الثقافة تفقد محتواها كمحرض للوعي ورافعة للواقع".
الشعر رصاصةأما الشاعر علي الفاعوري فألقى قصيدة جديدة تحمل الكثير من الإسقاطات السياسية بعنوان "غزة" وهي آخر قصيدة وطنية كتبها، ومنها:
أي شعر وغزة اليوم تحكي قصة المجد والعلا بالدماء
وحدها الآن والملايين نمل وغثاء يشي بطول غثاء
وحدها الآن والإذاعات بوق أرعن الصورة مختتن بالرغاء
أشرب الصبر من كؤوس المنايا.. نشرب الخمر في كؤوس ضباء
وننادي سيوف من ذبحونا وتمادوا منّا لذل النداء
وفي حديثه للجزيرة نت، قال الفاعوري إنه حاول ما أسماه "تقشير الواقع السياسي" وأن يكون واقعيا في قراءة المشهد العربي تجاه ما تحصده آلة القتل الصهيونية في غزة.
وقال الفاعوري "على الشعر أن يخرج من خلف الستار ويقف مكشوف الوجه أمام كل هذا التخاذل العربي والعالمي.. وعلى الشعر أن يكون رصاصة قبل أن يكون كلمة تقال".
فالبطل في مجمل القصائد هو النموذج الشعري، أكان مقاتلا يمتشق سلاحه أو مواطنا فقد عائلته أو بيته، وصبر وتحمّل قذائف الحقد، أو عاملا في الجهاز الطبي أو الدفاع المدني، كما جاء في قصيدة الدكتور سعيد يعقوب:
سلمت يمينك أيها البطل
يا من بها يستنبت لها الأمل
لولاك نار الصدر ما انطفأت
كلاّ ولا شفيت به الغلل
ستظل نورا خلف مشعله تمشي ولو طالت بنا السبل
وقال الشاعر الدكتور حربي المصري للجزيرة نت "إننا كمثقفين عرب علينا واجب دعم المقاومة باعتبارها النهج المثمر في مواجهة المشروع الصهيوني وإسنادها بالكلمة المقاتلة وتحريض جماهيرنا على الصمود مهما غلت التضحيات".
وفي قصيدته التي القاها في أمسية السبت بعنوان "عودة جسّاس" نقتبس منها بتصرف:
جهّز سهامك قالت الأقواس
عار ويأتي بعده الجسّاس
وتعود بكر من خيام شتاتها
تمشي ويرشد ضعنهم نخّاس
قالوا تصالح ليس ثمة مخرج
وأغمد سيوفك ما لنا متراس
الصلح لا يجدي فجرّد كفنا
من كفهم فجميعهم أنجاس
والصلح لا يجدي ودمعة مسجد
تهمس وتعزف حزنها الأجراس
القدس خط فاصل قال الذي فيه
صفة الأقدار والأقداس
أدعو الجليلة كي تجيّش نخوة
للقدس يصنع نصرها الحراس
وعقب الأمسية قال الشاعر والتشكيلي محمد العامري للجزيرة نت إن حدث "طوفان الأقصى" استثنائي في تاريخ المقاومة الفلسطينية وما أنجزته خلال ساعات، وصمودها على الأرض رغم التضحيات يعتبر صادما للمحتل والعلوم العسكرية العربية والأجنبية.
وأضاف أن الحدث الكبير "أسقط فكرة الحضارة الغربية لكونها اتخذت موقفا مؤيدا للقاتل، ممّا قاد إلى رفع منسوب الكراهية لدى المواطن العربي تجاه الغرب والكيان المحتل، وتساوى الغرب الحضاري مع القاتل".
وحول تقييمه لمدى تجاوب القصائد مع "طوفان الأقصى" رأى العامري أن الشاعر لم يكن منفصلا عن قضاياه المحورية والإنسانية، فقد ألقى الشاعر حربي المصري، وهو بالمناسبة مختص بالكيمياء، قصائد ترتقي بقدر كبير إلى نبض الشارع العربي، وهي ناقدة بشكل جارح للمواقف العربية الباهتة.
وحسب رؤيته فقد غلبت على قصائد أمسية السبت النبرة العالية، فـ"القصيدة الخطابية" هي ما يتناسب وطبيعة حناجر الجماهير العالمية أجمع والعربي خاصة.
وفي أمسية الأحد، قدم الشاعر الدكتور سعيد يعقوب 3 مقاطع من قصيدة "طوفان الأقصى" منها بتصرف:
سَلِمَتْ يَمِينُكَ أَيُّهَا البَطَلُ .. يَا مَنْ بِهَا يُسْتَنْبَتُ الأَمَلُ
لَوْلَاكَ نَارُ الصَّدْرِ مَا انْطَفَأَتْ .. كَلَّا وَلَا شُفِيَتْ بِهِ الغُلَلُ
وَشَغَلْتَ نَفْسَكَ بِالعُلَا هَدَفًا .. وَالنَّاسُ بِالَّلذَّاتِ تَنْشَغِلُ
سَتَظَلُّ نُورًا خَلْفَ مِشْعَلِهِ .. نَمْشِي وَلَوْ طَالَتْ بِنَا السُّبُلُ
مَهْمَا عَلَيْنَا أَجْلَبَ الأَعْدَاءُ .. وَتَغَطْرَسَ الأَنْذَالُ وَالعُمَلَاءُ
وَبَغَى عَلَيْنَا الظَّالِمُونَ وَحَشَّدُوا .. وَقَسَا المُصَابُ وَطَالَتِ الظَّلْمَاءُ
تَمْتَدُّ فِي قَلْبِ التُّرَابِ جُذُورُنَا .. وَلَنَا بِرَغْمِ الحَاقِدِينَ بَقَاءُ
وَجِبَاهُنَا رَايَاتُ عِزٍّ فِي المَدَى .. وَرُؤُوسُنا فَوْقَ السَّمَاءِ سَمَاءُ
بَاقُونَ رَغْمَ القَصْفِ وَالتَّدْمِيرِ .. بَاقُونَ رَغْمَ رَسَائِلِ التَّحْذِيرِ
وَشْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ وُجُودُنَا .. بَاقٍ، بِرَغْمِ جَرَائِمِ التَّطْهِيرِ
هَذِي البِلَادُ بِهَا نَزِيدُ تَجَذُّرًا .. وَوُجُودُكُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جُذُورِ
وَسَتَرْحَلُونَ وَقَدْ غَشَتْكُمْ ذِلَّةٌ .. مَعَ خِزْيِ عَاقِبَةٍ وَشَرِّ مَصِيرِ
هَذِيْ الجَرَائِمُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَا البَشَرُ .. وَلَا المَغُولُ بِهَا جَاؤُوا وَلَا التَّتَرُ
هَذِيْ الجَرَائِمُ لَمْ تَسْمَعْ بِهَا أُذُنٌ .. وَلَا رَأَى عُشْرَهَا مَهْمَا رَأَى بَصَرُ
هَذِيْ الجَرَائِمُ لَا الحَيْوَانُ قَارَفَهَا .. وَلَا الشَّيَاطِينُ لَوْ هَمُّوا بِهَا قَدِرُوا
رُدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ .. وَعَاقِبُوهُمْ وَلَا تُبْقُوا وَلَا تَذَرُوا
وفي حديثه للجزيرة نت، قال الشاعر سعيد يعقوب إن قصائده تضمنت مجموعة من الرسائل الموجهة لأبناء الأمة عموما، أولاها التأشير على حجم الدمار الهائل الذي ارتكبته قوات الاحتلال بقصفها الممنهج لتدمير معالم الحياة في قطاع غزة في حرب إبادة وتطهير عرقي، والثانية التوعية بضرورة إسناد المقاومة وأهل غزة بأسباب المنعة والقوة والثبات.
وتضمنت الرسالة الثالثة التحذير من الخطر القادم والداهم من العدو الذي يستفرد اليوم بغزة، وسينتقل إلى أدوار أخرى للقضاء على أمتنا العربية والحضارة الإسلامية، وهناك رسالة موجهة للمقاومة تمجد البطولة وتدعم الصمود، وتشد على أيدي المقاومين لمواصلة تحدي آلة الدمار الإسرائيلي باعتبارها الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق المشروعة.
وقال الدكتور يعقوب إنه كتب ديوانا كاملا بعنوان "غزة تنتصر" عقب عدوان 2014 بحكم أن الشاعر "زرقاء اليمامة" في مجتمعه يرى بعيون القلب حسب وصفه، لكنه استدرك بالقول إنه يؤمن أن الحق لا يمكن استرجاعه إلا بالمقاومة، واعتمادها خيارا وحلا وحيدا من أجل التحرر من الاحتلال، ولا بد من دفع ثمن باهظ، فنحن ندافع عن أرضنا وعرضنا وديننا وهويتنا العربية الإسلامية".
قصائد تحرق الصمت والضعفوعن مدى تعبير قصائد 3 أمسيات شعرية عن تطلعات الأهل في فلسطين المحتلة، قال الشاعر مظهر عاصف الذي حضر الأمسية "لقد عبرت إلى حد كبير، ولكن الوجع الممتد من المحيط إلى الخليج يجعل من غير الممكن لألف شاعر كالمتنبي أن يعبروا عن نقطة دم واحدة أريقت، والوجع هو كما قال الراحل نزار قباني (لا يستطيع أن يعبر عن فمي إلا فمي)".
وأضاف -في حديث للجزيرة نت- أن الذي يعبر عن الوجع "هو الذي يصدره طفل أخرجوه من بين الأنقاض شهيدا أو جريحا أو ناجيا إلى حين، كما الوجوه التي ترى فيها آثار الحياة والموت، هو صوت الانفجارات والنيران، صوت الهدوء الذي يسبق الموت، الفرحة التي يصبّر الناس أنفسهم بها عند أي خبر عابر عن انتصار واحد، ولو كان بسيطا على شكل كلمة أو جملة أو عبارة وردت على لسان أحد المقاومين أو المتجذرين في أرضهم".
ويرى أننا "نجتر الحزن منذ 75 عاما" وأن "الوجع العربي أكان متعلقا بقضيتنا الأولى فلسطين أو بقضايا الأوطان العربية الجريحة كسوريا وليبيا واليمن والسودان، يدفعنا دوما إلى إراقة الحبر على الورق تماشيا مع إراقة دم الأبرياء والمظلومين على الأرض".
وقال أيضا إن الشعر ترجمة لكل ما يجري حولنا "لكنه عندما يتعلق بقضية فلسطين فإنه يأخذك نحو التحريض على المقاومة ورفض المحتل وإظهار العداء لكل من يبرر جرائم هذا الكيان الغاصب، ولن تجد في القصيدة الحقيقية دعوة للتسامح والتعايش أو أسئلة عن سبب العداء، فهي قصيدة واضحة المعالم تعرفها بعينها منذ أول السطر، وتظهر لك طرفي المعادلة: صاحب الأرض ومغتصبها".
ويواصل مظهر عاصف بالقول "كانت القصيدة على الورق أشبه بالجمر الذي يحرق الصمت والضعف الذي يسكننا.. كانت تسير على صفيح ساخن نحو أمل يتعلق بالجميع ويتمناه الجميع بمن فيهم من لم يقرأ بيتا واحدا من الشعر" ويضيف "هذه الأحداث لم تفجر إبداع الشاعر بل فجّرت الشاعر نفسه من الحزن".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: طوفان الأقصى قال الشاعر للجزیرة نت
إقرأ أيضاً:
ما يبقى من الشعر وما يبقى للشعراء
حاتم الصكر
رغم أن تفوهات الشعراء في الاستجوابات الصحافية والنقدية تُعد متوناً خارج نصوصهم، أجدني مهتماً بها ومتابعاً لتفاصيلها بفضول معرفي للمقارنة بينها وما يتحقق في النصوص. بهذا الإحساس قرأت التحقيق الذي أجراه وقدم له الصديق الناقد عبد اللطيف الوراري (القدس العربي-14 شباط/ فبراير2025) وهو ممن يحرصون على متابعة شؤون الشعر وشجونه، وتقلبات كتابته وتلقيه. لذا وضع عنواناً دالّاً بأقل العبارات. إنه يستفتي أربعة من (شعراء اللحظة الراهنة) كما يصفهم العنوان عبر سؤال جوهري (هل ما زال في جعبة الشعر ما يقوله ويصطنع الدفاع عنه؟).
في التقديم خلص الوراري إلى رسم مشهد شديد التفاؤل براهن الكتابة الشعرية. وجدتني أشاطره إياه، مستذكراً تجربتي حين كنت أجمع نصوص كتابي عن الميتاشعري في قصيدة النثر العراقية، ونصوصاً عربية لجزء تالٍ عن قصيدة النثر العربية. فقد أحسست أن النصوص تشي بكثير من المزايا الفنية والجمالية اللافتة، ذكّرني بها ما تحدث عنه الوراري في التقديم. فقد ارتقت الهوامش الشعرية إلى مقام المراكز التقليدية وبرزت حساسيات شعرية جديدة، ووعي منشقّ متسم بالرفض والغضب والجرأة المضمونية والشكلية.
لكن الوراري يضع يده من بعد على أزمة التلقي، فوجد أن (الجمهور) لا يرى في الشعر الجديد ما يرجوه بالمقايسة مع ما عهده في ذخيرته. إن الأزمة في جانب مهم منها في (التلقي)، كما أود تسميته توسيعاً لمصطلح (الجمهور)، وتخلصاً من إحالاته العامة التي يشير لها وضع الجمهور بإزاء الإلقاء والحالة الشفاهية لتوصيل الشعر. وهو عنصر مهم في صراع النصوص الجديدة مع تداوليتها الناقصة. فالجمهور يقيس بما يعيد لذاكرته (دور الشعر) في التحفيز ومعالجة الأدواء الاجتماعية والسياسية الراهنة، فيما يبدو واضحاً أن الكتابة الشعرية لم تعد قادرة على أن تكون صوتاً مناسباً لتسارع ما يجري، وما يتغير كل ساعة من حولنا. ويقابل ذلك إهمال التلقي المطلوب بكيفيات تحفظ شعرية الشعر وحداثته، وأدبية الكتابة أيضاً. وهو ما سنعالجه في فقرة تالية.
استطاع الوراري إذاً أن يضع طرفيْ المشكلة في صلب استفتاءٍ قصد به استجلاء ما يراه الشعراء في تلك التساؤلات، ما داموا ممن يكتبون الجديد، ويمثلون حساسيات عربية من خمسة بلدان.
وبالعودة إلى الإجابات سنرى أن الشاعرة نجاة علي (مصر) تؤكد ما تشهده القصيدة الجديدة، وهي قصيدة النثر عندها، فهي تتطور وتحرر الكتابة من كون الشعر مجرد شكلٍ لحمل مضامين تسلب روحه الحقيقية. وترى أن الشعر ينجو بالعودة إلى ذات الشاعر وأسئلته. ونفهم أن هذا هو دوره في رأيها.
أما سعيف علي – تونس، فيرى أن التلقي بخير، ويحتكم إلى ما تمثله القراءة عبر المنافذ المستحدثة خلافاً لطريقة التلقي التقليدية أي النشر الورقي حيث الأعداد متواضعة. وهو يذهب إلى الكتابة الشعرية ذاتها وينزع عنها أي دور، فهي تقوم بوظيفتها عبر ما تحققه من إنجاز وتلغي المنبرية وتتجه نحو علاقات تلقٍ يراها مناسِبة. ويأخذنا العراقي أحمد ضياء إلى ما هو قريب من قناعات زملائه في فك ارتباط الشعر بالسياسة كعمل مباشر، وهجْر المنبرية والخطابية، ويلفت النظر إلى ما تفعله الثورة الرقمية من تشتيت التلقي. ويكمل عبد الجواد العوفير من المغرب ما يراه زملاؤه، فالشعر ليس له دور حقيقي في التغيير المطلوب اليوم، لكنه يغير عبر مهمة شعرية أكبر يقوم بها الشاعر للتحرر من المسلمات. ويختم اليمني محيي الدين جرمة بالقول إن التغيير بالمعنى السياسي المباشر والنمطي لا يقوم به الشعر، ويوكل له مهمة جمالية تقترب مما يعوّل عليه زملاؤه عبر عزلات مشروعة ورؤى جديدة لكونه اختياراً جمالياً فرديا.
لاحظت من الإجابات أن ثمة قناعة لدى المستفتين بأن الشعر غادر دوره المرتبط بالمنبرية، وتبعية الجماعة. وأنه ينجز دوره مع تعديل الوظيفة والمصطلح عبر الاقتراب من ذات الشاعر والابتعاد عن الدور السياسي المباشر، لا لتعالٍ أو تجنب لما هو مشروع في الحياة، وحق يتعلق بالحرية والعدالة، ولكن دون خضوع لصوت أعلى من صوت الشعر الذي يصر الشعراء على أنه غادر المنبر والخطابية، واكتفى بجمالياته القادرة على استيعاب ما يجري عبر وعي (مضاد) وعميق ينطلق من ذات الشاعر لا من قناعات جمعية جاهزة، لا تدع له مكاناً خاصاً لتوصيل رؤيته.
حسناَ. للشعراء أن يقولوا ما يرون. فهم أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاءوا، كما ينقل حازم القرطاجني في «منهاج البلغاء» عن الخليل بن أحمد. ويستطرد حازم على كلام الخليل بصدد حرية أمراء الكلام، فيقول إنهم لا يقولون شيئاً لا وجهَ له. وذلك يتطلب تأوُّل ما يقولون بوجه من الصحة وتخريج كلامهم عليه.
وهم بحسب هولدرلين في مقولته «ما يبقى يؤسسه الشعراء» موكلين بإنجاز حضاري كبير، لكونهم كما في إحدى قصائده:
الشعراء أوعيةً مقدسة
تُحفَظ فيها خمر الحياة
وروح الأبطال
لكن الفرضية التي يحتج بها العرب لتعظيم دور الشاعر، وحقه في التصريف الحر مشروطة أيضاً. لأن الشعراء موكلون (باستخراج ما كلَّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون، البعيد ويبعدون القريب، ويُحتج بهم ولا يُحتج عليهم). وهذا يحيلنا إلى ما ورد من تصريح في نماذج الإجابات لشعراء الجيل الراهن. فإعلاء شأن الشاعر يجب أن يكتمل بتقديم ما لا تستطيعه الألسن الأخرى غير الشعرية. ويعني التنبه إلى كثرة التكرار والتماثل في الأصوات والأساليب حتى في نماذج من شعر الحداثة.
وإذا كنا بصدد الكتابة الجديدة وقصيدة النثر تحديداً، فليكن لنا الحق في افتراض أن لكل شاعر قصيدة نثره. بمعنى تلك التي تعبر عن ذاته ورؤيته. وإلا فقد نجد أنفسنا أمام تقليدية جديدة وهو ما حذّر منه بعض من ساهم في الإجابة على تساؤلات الوراري.
ليكن للشعراء الحق في الابتعاد عن منهجيات الخطاب المباشر ونثره الذي لا يناسب مقاصد القصيدة الجديدة. ولكن علينا أن نتعرف ما تعنيه دعوة الشعراء للعودة إلى الذات. وهو ما يتطلب إزالة غموض والتباس كبيرين يحايثان ذلك. فالذات ليست تلك المقصودة في الشعر الرومانسي مثلاً، أو التي تقف مناوئة للأنا الجمعية التي يندرج الشاعر تلقائياً واختيارياً فيها، حين يكون عليه الاصطفاف مع الآخر في حقوقه وفي عصر يتسم بالقسوة وافتقاد العدالة والانحدار السريع نحو الدكتاتوريات وتجلياتها الاجتماعية.
أما ما يشير له الشعراء في إجاباتهم، وكذلك تقديم الناقد الوراري، حول أزمة التلقي فهو إعلان صادق عن إحساس عام لدى الشعراء بأن القراءة أصبحت بعيدة عن مطمحهم. فهم لا يجدون الصدى والرجع المطلوب لما يكتبون، لا بكونهم أفراداً بانتظار تقويم تجاربهم بقدر الحاجة لمعرفة أصداء كتاباتهم الجديدة وموقعها في الخط الشعري المتنامي، والمعبر عن راهن شعري متميز بمعايشة التحولات الكبرى في الحياة وذلك ما لا تحققه لهم ردّات فعل القراءة الراهنة. فالشعر يأخذ شيئاً فشيئا مكانة قصية من اهتمامات الأجيال والدارسين. ويمكننا أن نعزو ذك لعدة أسباب منها عودة الشفاهية الجديدة بسبب الثورة الرقمية والاستغناء عن القراءة والمتابعة. إنها وباء حضارة الفرجة: نقلة أو ردّة شفاهية لا أريد حصرها شعرياً في تراجع الحداثة وتصدر المنبر والوزن، لكنها سياق عام أهم من ذلك، وأخطر بالضرورة تتمثل في الفرجة والشفاهية.
وفي حوار مع ماريو فارغاس يوسا ترجمة الشاعر اسكندر حبش (ضفة ثالثة. 18/12/24) يجيب على سؤال عما يخص الاتجاه الذي يسلكه العالم اليوم؟ وهل نحن على الدرب السليم؟ فيقول يوسا: إننا في حضارة الفرجة صرنا نعيش تراجعاً أو انحطاطاً (فالحرية الاقتصادية وحرية السوق لم ترافقهما حياة ثقافية مكثفة ولا حياة روحانية، لقد أصبحت الثقافة لعبة، ترفيهًا، وتسلية. لقد هُمّشت بطريقة كبيرة إزاء الزينة والسهولة والسوق). وأحسب أن البصر يتفرج الآن، ويرى لاهياً من دون أن يبصر ما يجري، حتى في حالتنا العربية التي يعوزها التبصر بمآلات حاضرنا ووجودنا.
وها نحن نعيش سطحيات العصر الإلكتروني كما يرى أولتر أونج. عصر «يعادل مرحلة ثانوية من الشفاهية، لا يعتمد فيها الفهم والتصور على مجردات الكتابة، بقدر اعتماده على الحكايات المروية والصور التوضيحية ومغامرات الأبطال، حيث تأخذ المؤثرات السمعية والبصرية بلبّ المتلقي وتسلبه قوة التركيز الذهني».
ولدينا عربياً ما يدعو للإحباط وإضعاف التلقي، متمثلاً بدعوات النقد الثقافي الممنهجة بنسخته العربية إلى نبذ جماليات الشعر، والتهشيم المتعمد لرموزه ومشروعه الحضاري، وتراثه وحداثته، بدعوى نسقيته، والحكم عليه بنفاد صلاحيته.
وأحسب أن مناقشة تلك التفاصيل ستفضي إلى التعرف على ما يمكن للشعر أن يفعله في عالم لا شعري بجدارة.
ولكن يبقى الشعر علامة على إنسانية الإنسان وتجدد خطاب مواجهة الفناء والانحسار الروحي الخطير.
المصدر: القدس العربي