عربي21:
2024-10-02@02:38:21 GMT

تحطيم نشوة النصر على فلسطين ومقاومتها

تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT

تحاول البروباغندا الصهيونية الاستفادة من الدعم الهائل الذي توفره دعاية وسائل الإعلام الغربي والأمريكي المنسجم معها، والذي وقع في نفس الحفر المظلمة والمخجلة منذ عقود في حمى الإسلاموفوبيا ومكافحة الإرهاب، واليوم في شعار مخاطر "حماسوفوبيا" لإثارة شهية غربية وصهيونية للابتعاد شيئاً فشيئاً عن أسس الصراع في المنطقة العربية، وفي القلب منها قضية فلسطين، ومقاومة أصحاب الأرض فيها المشروعَ الاستعماري الصهيوني المقام على أرضهم منذ النكبة الأولى عام 1948، ثم احتلال بقية فلسطين في حزيران 1967، ثم توالت التواريخ المؤسسة لمشاريع التمدد الاستعماري والاستيطاني في بقية المدن الفلسطينية مع بداية "عهد السلام" في مدريد 1991 وأوسلو 1993، ومثّل الضربة على مستوى الطموح التاريخي العريض في مشروع المقاومة وحركة التحرر الوطني الفلسطيني.



لكن عملية "طوفان الأقصى" وقدرة حركة "حماس" وذراعها العسكري كتائب القسام على تحطيم الصورة الاستعمارية لإسرائيل المتفوقة بكل شيء على أصحاب الأرض ومحيطهم العربي كما تسوق الدعاية الغربية عنها، أصابت العالم كله وخصوصاً الولايات المتحدة والغرب بحالة ذهول وصدمة من الصفعة التي تلقاها مشروعهم الاستعماري الصهيوني، وظهوره لأول مرة بحالة العجز المؤدي يوماً ما إلى هزيمة محققة إن تغيرت الظروف والمعطيات السائدة حتى لو كانت قليلة.

ضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر شكلها الأول عسكري، إلا أنها ستأخذ الشكل الاجتماعي والسياسي والفكري في فترات لاحقة، بغض النظر عن مآل جولة العدوان الأخير على غزة، فيكفي أنها أظهرت المفاجأة الكبيرة للمقاومة الفلسطينية التي يحاول الجميع تحطيمها
فضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر شكلها الأول عسكري، إلا أنها ستأخذ الشكل الاجتماعي والسياسي والفكري في فترات لاحقة، بغض النظر عن مآل جولة العدوان الأخير على غزة، فيكفي أنها أظهرت المفاجأة الكبيرة للمقاومة الفلسطينية التي يحاول الجميع تحطيمها.

الهوس الأسطوري بربط المقاومة بالإرهاب، كان ديدن القوى الاستعمارية على مر التاريخ، وفي الحالة الفلسطينية طرأ تبدل كبير في المواقف بعد عملية طوفان الأقصى، ظهر خوف كبير من الضربة التي وجهتها المقاومة لإسرائيل، فتوقفت الصورة والتاريخ على تخوم غلاف غزة عند القوى الغربية وعلى رأسها الادارة الأمريكية، أصبح هذا التاريخ (السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) كمبتدأ لبروباغندا جديدة قديمة تُقدم رؤيه للمنطقة المبتلية بـ"إرهاب حماس" لا بإرهاب الاحتلال ووجوده فوق ما تبقى من أرض الفلسطينيين لتهويدها، ومحاصرتهم وقتلهم دون أن يكترث العالم، فالقضية معروفة ببيانات القلق مما يجري في المنطقة ومعروفة أكثر بالنفاق الهائل والكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بضحية فلسطيني وآخر صهيوني.

هذا الهوس وصل لبعض الأصوات العربية في عواصم التطبيع التي بدت مستاءة من "بربرية شنيعة" من حماس، ولم تصب بقشعريرة مقتل آلاف الأطفال في قطاع غزة، ولا قتل النساء وعملية التدمير الممنهج التي يقوم بها الاحتلال من خلال الاستهداف المنظم لأحياء المدنيين، وتدخل في تصنيف الإبادة الجماعية وجرائم الحرب واستهداف المشافي والمدارس مع كل البنى المدنية للسكان، ولم تطالب برفع الحصار ووقف العدوان فوراً.

يمكن أن يفهم المرء في بعض الأحياء جذور بعض المواقف الغربية وعودتها للعزف على وتر الحروب الصليبية أو الضخ في الخطاب الديني كتبرير للاصطفاف مع الاحتلال كـ"صهيوني" أو "يهودي" كما عبر بايدن ووزير خارجيته بلينكن، لكن لا يُفهم تبدل مواقف عربية رسمية تستعير مفردات صهيونية لتوصيف الشعب الفلسطيني ومقاومته؛ إلا لنفس الأسباب التي جعلت القوى الغربية في حالة استنفار منقطع النظير لحماية المشروع الاستعماري الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي، والتي دفعت الرئيس الفرنسي ماكرون لتقديم اقتراح إنشاء تحالف دولي لمحاربة "حماس" على غرار التحالف المقام لمحاربة تنظيم "داعش".

ومحاولة الربط بين حماس وبين تنظيم داعش كانت منذ اللحظة الأولى للعبور، لكنها لم تواجَه بخطاب عربي يعترف ويقر بأن للفلسطينيين حركة مقاومة، وحماس هي أحد أطرافها ولها حضور في المجتمع الفلسطيني وتمثيل برلماني وخاضت انتخابات في الهيئات التشريعية والطلابية وغيرها وفازت بكثير من المقاعد.

ولا ننسى الموقف الأهم الذي كان على السلطة الفلسطينية أن تأخذه برفض هذا التصنيف والهجوم على حركة حماس "الإرهابية" على اعتبار أن أي حركة مقاومة وتحرر وطني للاحتلال هي حركة "إرهابية " وفق منطق المستعمر ومنطق القوى التي تدعمه.

لكن بعد كل هذه البروباغندا التي استعرت منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحاول العالم الغربي أن يقف متحداً خلف مشروعه الاستعماري في فلسطين، خرجت الأصوات والمواقف في الشوارع الغربية والدولية من واشنطن ونيويورك إلى سيؤول وطوكيو مرورا بلندن؛ رفضاً لسياسة الإرهاب الصهيوني والتطهير العرقي والتمييز العنصري، سقطت الدعاية الصهيونية في البربرية على قطاع غزة وفي الوحشية المنفلتة لعصابات بن غفير ونتنياهو ولمجلس الحرب في الضفة والقدس.

لا أحد يستطيع أن يصف حقيقة إسرائيل وإرهابها في المعسكر العربي والغربي، ليس لأنها أغرب من الخيال في ارتفاع منسوب الدم الفلسطيني، بل لأن أحدا من المعسكرين يحلم بالهزيمة الفلسطينية التي يُمكن أن تؤسس من غزة حسب أوهام الكل، برفع منسوب الدم والحطام إلى أعلى منسوب.. لكن الأصح أيضاً، أنه كلما تأخر الاحتلال باعترافه بالحقوق الفلسطينية وكلما تأخر العالم المتحضر بالتراجع عن سياسة النفاق الاستعمارية وتراجع "السلام" فستكون الأثمان كبيرة
لا أحد يستطيع أن يصف حقيقة إسرائيل وإرهابها في المعسكر العربي والغربي، ليس لأنها أغرب من الخيال في ارتفاع منسوب الدم الفلسطيني، بل لأن أحدا من المعسكرين يحلم بالهزيمة الفلسطينية التي يُمكن أن تؤسس من غزة حسب أوهام الكل، برفع منسوب الدم والحطام إلى أعلى منسوب.. لكن الأصح أيضاً، أنه كلما تأخر الاحتلال باعترافه بالحقوق الفلسطينية وكلما تأخر العالم المتحضر بالتراجع عن سياسة النفاق الاستعمارية وتراجع "السلام" فستكون الأثمان كبيرة، ليس لأن الفلسطينيين قوة عظمى يمتلكون سلاحا فتاكا سيهزمون المشروع الاستعماري عسكرياً، بل لقوة الحق الذي يسانده كل الأحرار في المعمورة ولأن مقاومة إبادته والدفاع عن أرضه وطرد المحتل منها حقوق مشروعة.

فالسلام ليس أمناً واتفاقات تطبيع وتحالف ومشاريع اقتصادية، ولا هو وقف لإطلاق النار فقط، للسلام أسس لا مناص منها ولا مفر. فدون تفكيك البنية الاستعمارية للمشروع الصهيوني ودون الاعتراف الكلي بحقوق الشعب الفلسطيني ووجوده التاريخي فوق أرضه وبحقه في العودة وبالإقرار بالقوانين الدولية ذات الشأن، فإن البربرية الصهيونية الشنيعة ستبقى مصدراً لكل شر على أرض فلسطين وحولها مهما حاول أعداء فلسطين تزوير وقلب الحقائق؛ وحاول بعض أذناب التصهين القراءة من نفس الرواية الصهيونية لإشاعة هزيمة عربية وكأنهم في نشوة نصر على فلسطين ومقاومتها، لكن الرد مستمر من غزة ومن أرض فلسطين ومن الشوارع الحرة الثائرة في القارات الخمس ومُحطماً لهذه النشوة.

twitter.com/nizar_sahli

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإرهاب فلسطين المقاومة غزة الإسرائيلي إسرائيل فلسطين غزة الإرهاب المقاومة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من تشرین الأول الفلسطینیة التی

إقرأ أيضاً:

الإرث الاستعماري للدولة السودانية وطبيعة تكوين النخب السياسية: دراسة تاريخية تحليلية

دكتور هشام عثمان

تُعد الدولة السودانية الحديثة نتاجًا لإرث استعماري معقد، تداخلت فيه عوامل متعددة من الاستعمار الثنائي (البريطاني-المصري) إلى إرث دولة المهدية، مروراً بالحقب السياسية ما بعد الاستقلال. أثرت هذه الخلفيات بشكل كبير على طبيعة الدولة وبنيتها، كما شكلت النخب السياسية التي قادت البلاد لاحقًا، والتي ورثت أنماطًا من السلوك السياسي والاجتماعي المستمد من هذه الحقبة الاستعمارية.

الإرث الاستعماري للدولة السودانية:

1. الخلفية التاريخية:

قبل الاستعمار البريطاني، شهد السودان تعددية سلطوية وتبايناً في أنماط الحكم، بدءاً من سلطنات الغرب في دارفور وسلطنة الفونج في الوسط والشمال، وصولاً إلى دولة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر. هذا التباين خلق نوعاً من التنوع الثقافي والسياسي، لكنه أيضاً زاد من انعدام التوازن بين مراكز القوى في البلاد.

2. الاستعمار الثنائي (1899-1956):

أدى الاستعمار الثنائي إلى تشكيل الدولة السودانية ضمن حدود جغرافية وسياسية محددة، ووضع سياسات عمدت إلى تقسيم البلاد إلى شمال "عربي-إسلامي" وجنوب "إفريقي-مسيحي". كما أدت السياسات الاستعمارية إلى تهميش بعض المناطق وإعطاء امتيازات للمناطق الأخرى، ما عمّق الفجوة الاجتماعية بين المركز والأطراف.

السياسات الإدارية والاجتماعية: قسّم الاستعمار السودانيين وفق اعتبارات جهوية وإثنية، واتبعت الإدارة الاستعمارية سياسة "المناطق المقفولة" التي منعت الشماليين من دخول الجنوب، الأمر الذي أدى إلى عزل الجنوبيين وجعلهم أكثر ارتباطاً بالمسيحية والغرب.

النظام التعليمي والإداري: ركز البريطانيون على خلق نخبة تعليمية وإدارية في شمال السودان، وذلك عبر إنشاء المدارس الخاصة في المدن الشمالية مثل الخرطوم وأم درمان، وتخريج كوادر تربوية وإدارية ساهمت لاحقاً في قيادة البلاد.

طبيعة تكوين النخب السياسية السودانية:

1. النشأة من رحم الدولة الاستعمارية:

أفرز الاستعمار نخبة سياسية ذات توجه مركزي، وهي نخبة تربّت في بيئة استعمارية وورثت نمطاً من الحكم والإدارة مبني على المركزية، مما جعل هذه النخبة تميل إلى احتكار السلطة والتمسك بالسيطرة على الدولة المركزية.

الانتماء الطبقي والجهوي: كانت النخبة السياسية التي نشأت في فترة الاستعمار متمركزة في الشمال النيلي، وتحديداً في مدن مثل الخرطوم، وادي حلفا، أم درمان، والخرطوم بحري. ينحدر أغلب أفراد هذه النخبة من طبقة المتعلمين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المستعمر، وتولوا مناصب إدارية في الخدمة المدنية.

توجهات سياسية مبنية على الإرث الديني والطائفي: تم تقسيم النخب السياسية بين تيارات دينية، مثل التيار الأنصاري التابع لحزب الأمة، والتيار الختمي التابع لحزب الأشقاء (الوطني الاتحادي لاحقًا). هذا التقسيم عزز من الطائفية السياسية وجعل الأحزاب السياسية تعبر بشكل كبير عن ولاءات دينية، بدلاً من تقديم رؤى سياسية وطنية.

2. النخب السياسية بعد الاستقلال (1956-1989):

استمرت النخب السياسية بعد الاستقلال في ممارسة السياسات نفسها التي اعتمدت على المركزية، وابتعدت عن تحقيق التوازن بين الأقاليم المختلفة. تركّزت السلطة في أيدي طبقة سياسية شمالية، مما أثار حفيظة الأقاليم الأخرى وأدى إلى اندلاع حركات تمرد عديدة في الجنوب، النيل الأزرق، ودارفور.

الأيديولوجيات المتصارعة: شهدت فترة ما بعد الاستقلال صراعاً أيديولوجياً بين التيار اليساري المتمثل في الحزب الشيوعي السوداني، والتيار الإسلامي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي، إلى جانب الأحزاب الطائفية التقليدية. هذا الصراع قاد إلى فترات من الحكم المدني والعسكري المتعاقب، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي.

3. النخب السياسية في فترة نظام الإنقاذ (1989-2019):

تمكن الإسلاميون من الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1989 بقيادة عمر البشير، الذي كان واجهة مدنية لتوجهات الإسلاميين بقيادة حسن الترابي. تبنت نخبة الإنقاذ سياسات اقتصادية واجتماعية هدفت إلى تهميش القوى التقليدية وإعادة هيكلة المجتمع وفقاً لمفاهيم إسلامية، مما أدى إلى تعميق الانقسام بين المركز والأطراف.

الهيمنة السياسية: انتهجت النخبة الإسلامية سياسة "التمكين"، التي منحت كوادرها السيطرة على مفاصل الدولة، بينما تم تهميش وإقصاء القوى السياسية الأخرى. هذه السياسات أدت إلى انفصال جنوب السودان في 2011، وتصاعد التوترات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

تأثير الإرث الاستعماري على النخب السياسية:

لا يمكن فهم طبيعة النخب السياسية السودانية دون النظر إلى تأثيرات الحقبة الاستعمارية. ورثت النخب السودانية من الاستعمار سياسات التقسيم الجهوي والإثني، كما تبنت نمطاً إدارياً مركزياً عزل الأطراف وأفرز بيروقراطية نخبوية تميل إلى خدمة مصالح المركز على حساب تنمية الأقاليم. أدت هذه السياسات إلى انقسامات اجتماعية وسياسية عمّقت الفجوة بين النخبة الحاكمة وبقية المكونات الاجتماعية في البلاد

الإرث الاستعماري للدولة السودانية لا يقتصر فقط على الأبعاد السياسية والإدارية، بل يتعداها ليشكل طبيعة النخب السياسية ذاتها. فهذه النخب، سواء كانت طائفية أو أيديولوجية أو عسكرية، تمحورت حول المركز وعملت على تكريس سلطتها على حساب الهامش، مما أدى إلى اندلاع صراعات داخلية عديدة. بالتالي، فإن أي محاولة لتغيير طبيعة الدولة السودانية يجب أن تبدأ بتفكيك هذا الإرث الاستعماري وإعادة هيكلة النظام السياسي ليعبر عن تطلعات جميع المكونات الاجتماعية في السودان يذكر أن جمهورية السودان جاءت تالية لنيجيريا حيث احتلت بريطانيا نيجيريا لأكثر من قرن منذ عام 1850 وحتى 1961 واحتلت جمهورية السودان لنصف الفترة منذ 1898 وحتى 1956 لذا تظهر جليًا المشتركات بين المستعمرتين في النواحي الإنشائية ومشاريع البنى الأساسية بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية والمشاريع الزراعية فمقابل تعطيل نشاط الاكتفاء الذاتي شجعت الإدارة البريطانية أهل نيجيريا على زراعة محاصيل اقتصادية مثل الكاكاو والفول السوداني بجانب القطن بذات الطريقة التي شجعت بها انتاج القطن في جمهورية السودان في مشروع الجزيرة الزراعي بدل الذرة، ومدت السكك الحديدية في كل من لاقوس وعطبرة في ذات العام 1898، وكذلك مقابل كينقس كوليج (King’s College) في العاصمة لاقوس أنشأت كلية غردون التذكارية (Gordon Memorial College) في الخرطوم إضافة إلى ترفيع المتحمسين لخدمة الإمبراطورية بمنحهم فرص التعليم العالي في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) وهي مؤسسة أنشئت في العام 1916 كذراع لدعم الخطط السياسية والتجارية والعسكرية الاستعمارية البريطانية، وبالفعل تخرج فيها مختصون في العلوم السياسية والتاريخ والاقتصاد واللغات والإعلام من كل مستعمرات بريطانيا شغل بعضهم وأدار مؤسسات مهمة في بلاده مثل جامعة الخرطوم في جمهورية السودان.

وعلى غرار فعلها في الهند، نتج عن مخططات الإدارة البريطانية ظهور طبقة وسيطة من المتعلمين لتكوين أول حكومة وطنية ضمت معظم أفراد مؤتمر الخريجين، وكانت في الواقع نتيجة ثانوية لمراحل إعداد طويلة بدأت في نيجيريا، فالانقليز استفادوا من تجاربهم في نيجيريا ونسخوا معظمها إلى السودان، فانتفت حاجتهم لإلحاق المستعمرة الجديدة بوزارة المستعمرات فأتبعوها لوزارة الخارجية مع انتداب بعض السياسيين والمختصين في الإدارة للمحافظه على الهياكل الموروثة والثقافة السائدة في المجتمع بأقل التكاليف، فالإنقليز كانوا قد أنجزوا بالفعل خطوات الاستقطاب الجيوسياسي في السودانين الغربي والشرقي على ما كان يبدو لهم مجموعة بشرية واحدة موزعة في موقعين جغرافيين، وبذا يكون تأسيس حكومة سودانية كاملة تشرف عليها وزارة الخارجية البريطانية مسألة لا تختلف كثيرًا عن إنشاء ملحقية تجارية في قنصلية بريطانية لمتابعة المصالح التي تمثلت في تأمين المحاصيل الاقتصادية مثل القطن.

انتهى أمر المجموعة السودانية المستقطبة بواسطة الإنقليز إلى تولي السلطة ممثلة في دواوين الحكم والقضاء والجيش والمناصب الدينية والإشراف على مراكز التعليم والمؤسسات الاقتصادية ليس على أساس احترافي بل تطبيقًا للنموذج الموروث من النظام الطبقي المهني لمجموعات الفولاني، فصارت تلك المؤسسات مظهرًا للسيادة ظلت كل الفئات التي تحتكرها تؤدي مهامًا شكلية مراسيمية لا تسهم في الانتاج أو تدعمه بل عالة على المجتمع والدولة وعلى القطاعات المنتجة الضعيفة التي خطط لها أن تظل بدون سلطات وبدون حقوق لأجيال بينما تفرغت حكومة مؤتمر الخريجين والحكومات التالية للبحث عن سيد جديد بديلاً للانقليز بالمسارعة لتبني قضايا الأمة العربية وكل مشاريعها متسلحة في ذلك بذات النموذج الفاشل الذي اعتبرته مؤهلاً للوكالة في المنطقة.

ولعدم ثقة المجموعة التي ورثت الحكم في قدراتها أو في أهليتها لتولي أمر الدولة لقصور النموذج الطبقي الفولاني المدعوم الآن بأيديولوجية عروبية إسلامية تطابقت معه في كثير من المفاهيم والموجهات، استمر الانهيار في المستعمرة منذ خروج الإنقليز، فالمجموعات التي تسلمت حكم الدولة كانت مدربة على العمل والطاعة ولكنها لم تكن مستعدة لتحمل مسؤولية الدولة الحديثة ولم تكن جاهزة لصدمة الحرية غداة منح الاستقلال للدولة الوليدة، ويفسر ذلك ضخامة عدد العاملين في المؤسسات الحكومية التي تحولت إلى جمعيات إعاشة، وكثافة الضباط من الرتب العليا في الجيش لدولة تصنف من دول العالم الثالث ظلت منذ خروج الإنقليز تتعثر في خططها التنموية وتعاني من المجاعات وهي تمتلك كل مقومات الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي بما لم يتوفر لأي دولة أخرى في المنطقة

hishamosman315@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • رئيس الوفد الوطني يبارك العملية الإيرانية التي ضربت أهدافا عسكرية للعدو داخل فلسطين المحتلة
  • نشوة عابرة.. كيف حوّل نتانياهو حظوظه السياسية في عام واحد؟
  • الإرث الاستعماري للدولة السودانية وطبيعة تكوين النخب السياسية: دراسة تاريخية تحليلية
  • رونالدو لـ الفريان: أنت رقم واحد .. فيديو
  • رئيس الوزراء الفلسطيني: دعم السعودية للقضية الفلسطينية سياسيا ودبلوماسيا مستمر منذ عقود
  • حماس ولجان المقاومة في فلسطين تدينان لعدوان علي الحديدة
  • أبو جبل : لم أخذ حقوقي من النصر .. فيديو
  • صورة النصر المزعوم لنتنياهو وهاريس
  • لشكر: خطاب القضية الفلسطينية يجب أن يكون عقلانيا وكفى من مخاطبة النخاع الشوكي بالحماس وباللاءات التي تسقط!
  • 5 أندية أوروبية تتنافس لضم العقيدي