تمثل ألمانيا مثالا ساطعاً للازدهار الاقتصادي والاستقرار في أوروبا، باقتصادها القوي الذي يتميز بالإبداع التكنولوجي، وقطاع التصنيع النشيط، والقوى العاملة الماهرة، والذي أكسبها باستمرار موقعاً بين الاقتصادات الرائدة في العالم. وبالنسبة للعراق، هناك دروسٌ قيّمة يمكن استخلاصها من نجاح التجربة الألمانيَّة، خصوصاً وهي تمرُّ بمرحلة إعادة بناء وتحديث اقتصادها.

في هذه المقالة، نبين العناصر الأساسيَّة للنموذج الاقتصادي الألماني وما يمكن للعراقيين الاستفادة منه لتحسين آفاقهم الاقتصاديَّة.

السياق التاريخي

كان النموذج الاقتصادي الألماني، حجر الزاوية في النجاح الاقتصادي للبلاد بعد الحرب، ويمزجُ هذا النموذج، والذي يشار إليه غالباً باسم «اقتصاد السوق الاجتماعي»، بين الرأسماليَّة التي يحركها السوق وشبكة أو منظومة أمان اجتماعي فعالة، مع التركيز على الكفاءة الاقتصاديَّة والعدالة الاجتماعيَّة، وكان هذا النهج الاقتصادي الجديد يهدفُ لإيجاد توازنٍ دقيقٍ بين رأسماليَّة السوق الحرة والتدخل الحكومي، وكان يسعى إلى تسخير كفاءة قوى السوق مع ضمان تقاسم الثروة والرخاء على نطاقٍ واسع.

شهدت ألمانيا منذ الحرب العالميَّة الثانية تحولاً اقتصادياً ملحوظاً، إذ تطورت من دولة مزقتها الحربُ لتصبح واحدة من الاقتصادات الرائدة في العالم.ولكي نفهم المشهد الاقتصادي بطريقة موضوعيَّة نحتاج أنْ ننظرَ إلى تاريخ ألمانيا الحديث، من خلال المرور السريع على العديد من الأحداث والتطورات الرئيسة التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل المسار الاقتصادي لألمانيا بما في ذلك:

* تشكيل جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة (1949).

* خطة مارشال (1948 - 1952).

* إصلاح العملة (1948).

* المعجزة الاقتصاديَّة (الخمسينيات والستينات).

* التكامل الأوروبي (1957).

* سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا (1989 – 1990(.

* اعتماد اليورو (1999).

* برامج سوق العمل ونظام الرعاية الاجتماعيَّة.

* الإصلاحات (2003).

* الأزمة الماليَّة العالميَّة (2008(.

* سياسات البيئة والمرحلة الانتقاليَّة.

* الابتكار التكنولوجي والصناعة (مع التأكيد على الأتمتة والرقمنة والتصنيع الذكي).

* تداعيات جائحة (كوفيد – 19) (2020 – 2021(.

لقد شكلت الأحداث المذكورة والتطورات الرئيسة رحلة ألمانيا الاقتصاديَّة المتميزة منذ الحرب العالميَّة الثانية وحتى يومنا هذا، ومن إعادة البناء والنمو السريع إلى إعادة توحيد الألمانيتين والإبداع المستمر، فإنَّ التزام ألمانيا بالاستقرار الاقتصادي والازدهار جعلَ منها قوة اقتصاديَّة عالميَّة.لا يزال اقتصاد السوق الاجتماعي في ألمانيا أنموذجاً للنجاح الاقتصادي الذي يوازنُ بين النمو الذي يحركه السوق والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وأسهم تركيزهم على جودة التصنيع، والقوى العاملة الماهرة، والتعاون في مجال العمل، وشبكات الأمان الاجتماعي، في تعزيز مكانتهم كقوة اقتصاديَّة عالميَّة، ويعدُّ النموذج الاقتصادي الألماني بمثابة شهادة دائمة على إمكانيَّة مزج الكفاءة الاقتصاديَّة مع العدالة الاجتماعيَّة، ويقدمُ دروساً لدول التي تسعى إلى الرخاء الاقتصادي المستدام ومنها العراق.

من هنا يمكننا أنْ نرى أنَّ النموذج الاقتصادي الألماني هو نموذجٌ خاصٌّ وفريدٌ يجمعُ بين عناصر الرأسماليَّة والديمقراطيَّة الاجتماعيَّة، وهو يسعى إلى تسخير كفاءة قوى السوق وريادة الأعمال مع ضمان تقاسم فوائد النمو الاقتصادي على نطاقٍ واسع، فضلاً عن وجود شبكة أمان اجتماعي قويَّة لحماية المواطنين. وكثيراً ما يُستشهد بهذا النهج المُتفرد بوصفه أحد أسباب النجاح الاقتصادي الذي حققته ألمانيا وقدرتها على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وهو لا يتماشى بدقة مع الفئات الأيديولوجيَّة التقليديَّة للرأسماليَّة أو الاشتراكيَّة، ولكنه يمثل بدلاً من ذلك نهجاً عملياً وفعالاً للإدارة الاقتصاديَّة.

ركائز النجاح الاقتصادي الألماني

يتسمُ الاقتصاد الألماني بخصائص تشكلُ العناصر الرئيسة للقوة التي أكسبت جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة الصدارة والقيادة:

1 - الاقتصاد الموجه للتصدير:يعتمد الاقتصاد الألماني على الصادرات، وإنَّ سعي الدولة الدؤوب لتحقيق الجودة والدقة في التصنيع جعل من عبارة “صنع في ألمانيا” مرادفاً للموثوقيَّة.

2 -  الابتكار والبحث والتطوير:(R&D)

يتجلى التزام ألمانيا بالابتكار في استثماراتها الكبيرة في البحث والتطوير، وتعملُ شبكتها من الجامعات والمؤسسات البحثيَّة على تعزيز التقدم التكنولوجي وتطوير المنتجات الجديدة.

3 -  التدريب المهني والقوى العاملة الماهرة: يجمع نظام التعليم المزدوج في ألمانيا بين التدريس في الفصول الدراسيَّة والتدريب العملي، الامر الذي يخلقُ ويضمنُ وجودَ قوة عاملة ماهرة وقابلة للتكيف.

4 -  الاستثمار في البِنْية التحتيَّة: تتمتع ألمانيا ببِنْية تحتيَّة جيدة الصيانة والإدامة، بما في ذلك وسائل النقل العام الفعالة والطرق السريعة الحديثة.

مكامن القوة والتحديات إنَّ موقع ألمانيا الجيوسياسي وسياساتها الاقتصاديَّة متشابكان بشكلٍ وثيقٍ، حيث تنبع العديد من نقاط القوة من المزايا الجيوسياسيَّة التي تتمتع بها، وفي مقدمتها:

* الموقع الاستراتيجي في أوروبا.

* انسيابيَّة الوصول إلى الأسواق الكبيرة وجودة الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة.* الاستقرار السياسي.* القوى العاملة الماهرة.* الاقتصاد الموجه للتصدير.* التقدم التكنولوجي.* قيادة تحول الطاقة.* القطاع المالي الرصين.* القدرة على مواجهة الصدمات الاقتصاديَّة.* التأثير الدولي.* العلاقات التجاريَّة الثنائيَّة.* علاقات وطيدة متعددة الأطراف.وبالرغم من أنَّ النظام الاقتصادي الألماني حققَ نجاحاً ملحوظاً، فإنَّه لا يخلو من التحديات ونقاط الضعف، إذ تشمل بعض الأخطاء أو التلكؤات الإستراتيجيَّة الرئيسة في النظام الاقتصادي الألماني:* الاختلالات الاقتصاديَّة داخل الاتحاد الأوروبي.* عدم المساواة في الدخل.* التحديات الديموغرافيَّة والمخاوف البيئيَّة.* الاعتماد على الصادرات.* تحديات الرقمنة.* التفاوتات في سوق العمل.* تعقيدات البيروقراطيَّة واللوائح التنظيميَّة.

ومن المهم الإشارة إلى أنَّ نقاط الضعف والتحديات هذه تخضع لنقاشات داخليَّة مستمرة وقد تختلف أهميتها وفقاً لوجهة نظر أصحاب المصلحة، ولقد أظهر النظام الاقتصادي الألماني مرونة في مواجهة تحديات عدة، مثل الاعتماد على روسيا في مصادر أمن الطاقة، أو الصين في بيع سياراتها للصين، ولكنَّ معالجة هذه التحديات ستكون ضروريَّة لاستمرار نجاحه واستدامته في مشهدٍ عالمي سريع التغير.

دروسٌ للتنمية الاقتصاديَّة للعراق ولننظر الآن إلى الدروس التي يمكنُ أنْ تنفعَ العراقَ من هذا النموذج الألماني:

1 -  التنويع:يعتمد الاقتصاد العراقي تقليدياً بشكلٍ كبيرٍ على صادرات النفط، بينما يؤكد النموذج الاقتصادي الذي تتبناه ألمانيا على أهميَّة التنويع، وهنا يحتاجُ العراق للشعور بالعجلة في استكشاف الصناعات غير النفطيَّة مثل الزراعة والتصنيع والتكنولوجيا والسياحة بشكلٍ عامٍ والسياحة الدينيَّة بالأخص لخلق اقتصادٍ أكثرمرونة.

2 - الاستثمار في التعليم:إنَّ وجود نظامٍ تعليميٍ قويٍ أمرٌ أساسٌ للتنمية الاقتصاديَّة، ويمكن للعراقيين أنْ يستلهموا من تركيز ألمانيا على التعليم، في المجالين الأكاديمي والمهني، وإنَّ القوى العاملة الماهرة هي أصلاً لا تقدر بثمن في أي اقتصاد، ويمكن للعراق أنْ يستفيدَ من تطوير برامج التدريب المهني لمعالجة البطالة بين الشباب وتزويد القوى العاملة بالمهارات المطلوبة.

3 -  دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة:

يستطيع العراق تعزيز ثقافة ريادة الأعمال من خلال توفير الدعم والموارد للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير القروض الميسرة، إذ إنَّ تشجيع نمو الشركات الصغيرة يمكن أنْ يؤدي إلى خلق فرص العمل والاستقرار الاقتصادي، ويمكن أنْ يقدروا قيمة هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة في تعزيز ريادة الأعمال، وخلق فرص العمل، والتنوع الاقتصادي.

 4- الابتكار والبحث:إنَّ إعطاء الأولويَّة للبحث والابتكار يمكن أنْ يدفع النمو الاقتصادي، وينبغي للعراق أنْ يستثمرَ في البحث والتطوير، وأنْ يعززَ التعاون بين الجامعات والصناعات، وأنْ يحفزَ الابتكارَ بين القوى العاملة فيه، وتشجيع الابتكار والاستثمار في التعليم والبحث لدفع النمو الاقتصادي.

5 - ترويج الصادرات:

ستطيع العراق استكشاف الفرص المتاحة لترويج سلعه وخدماته على المستوى الدولي، وإيجاد سلعٍ جديدة هويتها عراقيَّة بحتة، ومن خلال تحديد المزايا التنافسيَّة والاستثمار في الجودة، يمكن للمنتجات العراقيَّة أنْ تجدَ مكاناً لها في الأسواق العالميَّة، كما يمكن للعراقيين أنْ يتعلموا أهميَّة إنتاج سلعٍ عالية الجودة مطلوبة عالمياً، وإنَّ تطوير الصناعات الموجهة نحو التصدير يعزز الاقتصاد العراقي بشكلٍ كبير.

6 - الاستقرار السياسي والاقتصادي:كان للاستقرار السياسي والبيئة الملائمة للأعمال التجاريَّة في ألمانيا دورٌ فعالٌ في نجاحها الاقتصادي، وعلى العراق العمل على خلق مناخٍ سياسيٍ مستقرٍ وإطارٍ تنظيميٍ لجذب المستثمرين، وهناك انسجامٌ ورغبة كبيرة من كلا الجانبين في تعزيز العلاقات الاقتصاديَّة الثنائيَّة، بيد أنَّ هناك بعض المعوقات التي تكبحُ جماحَ تلك الرغبة ومنها ضرورة توحيد المرجعيات العراقيَّة في العلاقة مع الدول المهمة مثل ألمانيا وفكُّ التداخل في ما بينهما، والذي يتسبب خلق ثغرات في التنسيق، لا سيما أنَّ كلا البلدين يتمتعان ببيروقراطيَّة عالية.

خاتمة

تحتوي الثقافة الألمانيَّة على العديد من الأمثال والأقوال التي يمكن أنْ تقدمَ رؤى وحكمة تتعلق بالأمور الاقتصاديَّة والتمويل الشخصي والعمل الجاد.

في ما يلي بعض الأمثال ذات الصلة:

* «المال يحكم العالم».

* «ادخر في أوقات الوفرة، وستحصل عليه في أوقات الحاجة».

* «من لا يعمل لا يأكل».

* وأخيراً «من العمل كغسالة أطباق إلى مليونير»، تعكس هذه العبارة فكرة أنَّ العمل الجاد والتصميم يمكن أنْ يؤديا إلى نجاحٍ اقتصادي كبيرٍ وحركةٍ تصاعديَّة.

ومن المهم أنْ نلاحظ أنَّ السياسات الاقتصاديَّة الألمانيَّة تطورت استجابة للظروف المحليَّة والعالميَّة المتغيرة.وقد سعت البلاد في كثيرٍ من الأحيان لتحقيق التوازن بين المبادئ الموجهة نحو السوق وأهداف الرعاية الاجتماعيَّة، الأمر الذي أسهم في سمعتها كقوة اقتصاديَّة تتمتع بشبكة أمانٍ اجتماعي قويَّة.

ولقد أسهمَ تأثير المدارس والمذاهب الاقتصاديَّة المختلفة في تشكيل النموذج الاقتصادي الفريد لألمانيا، والذي يجمعُ بين عناصر الاقتصاد الليبراليَّة والرأسماليَّة والرعاية الاجتماعيَّة.إنَّ النجاح الاقتصادي الذي حققته ألمانيا هو نتيجة لمزيجٍ متناغمٍ من العوامل، بما في ذلك اقتصادها القائم على التصدير، والالتزام الذي لا يتزعزعُ بالتصنيع عالي الجودة، والبراعة الإبداعيَّة، والقوى العاملة المدربة تدريباً جيداً والقابلة للتكيف، ولم تحافظ هذه العناصر على قوتها الاقتصاديَّة فحسب، بل جعلت ألمانيا أيضاً أنموذجاً للدول الأخرى التي تسعى لتحقيق تفوقٍ اقتصادي مماثل.

يقدم النموذج الاقتصادي الألماني ثروة من الدروس المفيدة للعراق في سعيه إلى تطوير وتنويع اقتصاده. ومن خلال إعطاء الأولويَّة للتعليم والابتكار والتدريب المهني وخلق رأس مالٍ بشري متقدمٍ وتطوير البِنْية التحتيَّة، يستطيع العراق أنْ يمهدَ الطريق للنمو الاقتصادي المستدام والازدهار. إنَّ تبني المبادئ التي عززت نجاح ألمانيا يمكن أنْ يساعدَ العراق على بناء اقتصادٍ قويٍ ومرنٍ  للمستقبل.

المصدر: شفق نيوز

كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي النمو الاقتصادی الاقتصادی الذی والقوى العاملة ة الاجتماعی ة الاقتصادی فی ألمانیا من خلال یمکن أن ة التی

إقرأ أيضاً:

الحاج مصبح الصحاري حاكماً للعراق (1)

 

الدكتور سعيد بن سليمان العيسائي *

حديثنا اليوم في هذا المقال شيق ومتشعب وذو شجون، ومفتاح شخصية مقالنا هو الحاج مصبح الصحاري العماني، الذي كان مثالاً للتسامح والانفتاح على الآخرين في وقت قلَّ أن تجد فيه هذا النوع من الشخصيات ذات الخلفيات الدينية، التي تتمتع بهذ النوع من التسامح، خاصة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، لأنه سيأخذنا إلى عوالم وقضايا ذوات صلة بالتسامح والتعايش والتعددية وقبول الآخر وإعلاء المصلحة العُليا للوطن.

عرفت الحاج مصبح في طفولتي بحكم الجوار، وكان يزور والدي رحمة الله عليهما، وعلى علاقة طيبة به، وقصة هذا الرجل غريبة وممتعة؛ حيث تزوج ثلاث نساء: الأولى: من أقاربه عربية إباضية، والثانية: بلوشية سنية والثالثة: عجمية شيعية. فكأنما استطاع بهذه الزيجات أن ُيرِضي معظم الشرائح في صحار.

وأتذكر أن الحاج مصبح كان إمام مسجد، وكان يتمتع بروح مرحة، وظريفاً مع اتزان على غير عادة ذوي الخلفيات الدينية.

وهذ النموذج وغيره من النماذج الرائعة، وهو ما حدا بي لتخصيص مبحث صغير عن التسامح الديني، والانصهار المذهبي في صحار في بحثي المنشور ضمن إصدارات المنتدى الأدبي بعنوان: "الحياة الثقافية في صحار"، وذكرت أن هذا السبب وغيره من الأسباب هو ما شجع الحياة الثقافية في هذه المدينة.

ونُشير إلى أنَّه كان يوجد في صحار يهود، وعدد من الطائفة البهائية يعملون في سوق صحار القديم، الذي تحدثت عنه في مقالات إذاعية وتليفزيونية، وتخصص أتباع الطائفة البهائية في تصليح الأجهرة الإلكترونية من أواخر الستينيات، أو قبل ذلك.

وكان منهم زميل لي في المرحلة الإعدادية، كان أبوه من أوائل من افتتحوا عيادات للأسنان في صحار، وقد شاهدت طبيب الأسنان رضواني ينتقل في صحار بدراجته الهوائية (سيكل) في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ولم أكن أعلم أنه بهائي إلا في مرحلة متأخرة، وقد رأيت أتباع هذه الطائفة بنفسي في سوق صحار القديم.

سردتُ قصة الحاج مصبح لأستاذنا السيد الدكتور/ محمد كاظم البكاء، وهو عالم من علماء النحو، وله كتابات قيمة تعد مرجعاً في المذهب الشيعي، وقد تزاملنا أنا وأستاذنا الدكتور في كلية التربية بصحار عام 2003، وهو عام سقوط بغداد، فأعجب بها، ورد قائلاً: لو كان الحاج مصبح عراقياً لرشحناه لرئاسة العراق.

وذكرتها مرة لأخينا وزميلنا الدكتور علي اللواتي أستاذ التاريخ بالكلية سابقاً فاستظرفها، واستملحها، ونالت إعجابه، وسنجعل من حكايات الحاج مصبح منطلقاً للحديث عن العلاقات العمانية-العراقية، وأبدؤها بالعلاقة الحميمة التي ربطتني بالأخ الدكتورعلي القريشي، زميلي في الكلية بسبب التلاقي الفكري؛ فهو أحد كتاب مجلة العربي الكويتية، وكتب كتابه المعروف: "البديل الإباضي وفن الممكن"، وقد زار "غرداية بوادي ميزاب" في الجزائر، والتقى بعلماء الإباضية هناك، وطبع الكتاب طبعتين ثانيها في مكتبة الاستقامة بمسقط، وأشرف عليه الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل مصري الجنسية، الحائز على جائزة الدولة التقديرية، وكانت أطروحته عن المفكر الجزائري "مالك بن نبي".

وكان الدكتور علي وفياً لأستاذه، ويشيد به، ويذكره بخير دائماً، وأذكر أن الذي أخبرني عن الدكتور علي، هو عمي المرحوم أبو خليفة، الذي أمضى أجمل سنوات عمره في العراق حيث التقى بالدكتور علي بالصدفة، وأخبره أن ابن أخيه يعمل في كلية التربية بصحار، وأعطاه اسمي، وجاء بعدها الدكتور علي في اليوم الثاني يسأل عني، ومن هنا بدأت العلاقة الطيبة التي تقوم على الفكر الثقافة والحب لمصر والعراق، والعمل في القطاع التربوي والتعليمي.

وأتمنَّى أن تسنح الفرصة للكتابة عن العم (أبو خليفة)، وذكرياته الجميلة، وقصصه الممتعة في العراق التي أمضى معظمها في معسكرات التدريب مع غيره من الشباب الراغب في التغيير في الستينيات من القرن الماضي مع الجهات التي كانت تتخذ من العراق وسوريا وغيرها من الدول العربية مقرًّا لها.

وأُشير هنا إلى أنَّ بداية معرفتي بالعراق كانت عن طريق والدي رحمه الله؛ حيث كان يصطحبني معه إلى سوق صحار لنشتري "كوارة" التمر العراقي اللذيذ، الذي تأتي به السفن إلى ميناء صحار في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وعلمت بعد ذلك أن هذا التمر هو من أجود تمور البصرة، مدينة الدكتور علي، الذي أشرنا إليه.

وعندما التحقت بالمرحلة الجامعية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة في المملكة العربية السعودية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، كان لي الشرف أن درست مادة النحو والصرف على يد الأستاذ الدكتور المعفور له بإذن الله تعالى عبدالهادي الفضلي، الذي درس في العراق ومصر، وله العديد من الكتب في المدارس النحوية والقراءات، وكتابات في المذهب الشيعي؛ إذ يعد أحد الذين يستفاد من علمهم ومؤلفاتهم في هذا المذهب من أهل المنطقة الشرقية.

أهديناه أنا والأخ الدكتور راشد الحسيني، هو وغيره من الأساتذة بعض مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة في النحو والصرف والشعر، وتم اختيار أستاذنا الدكتور المرحوم رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها بترشيح الأساتذة كما حدثني بذلك أستاذنا الدكتور عبدالمحسن فراج القحطاني أحد أساتذة القسم آنذاك، وأحد الذين تشرفت بالتتلمذ على أيديهم.

وبحكم أن أستاذنا الدكتور الفضلي أمضى سنوات من عمره في العراق يحدثني أنه كان هناك ليمون يأتي من البصرة إلى مدن العراق يسميه العراقيون "نومي بصرة". ويقول أستاذنا: كثيرٌ من الناس لا يعرفون أن هذا الليمون يأتي من صحار، وبعض الولايات الساحلية القريبة منها في سفن إلى ميناء البصرة، ومن ثم يتم توزيعه على مدن العراق، فتوهم الكثير من العراقيين أنه ليمون بصراوي، علماً بأن الليمون لا يزرع في البصرة، والمقصود به هنا هو "الليمون المجفف"، الذي يستخدم في السلطات والأطعمة، وبخاصة الترشي العراقي، وشاي الليمون عند العمانيين، وغيرهم قبل أن يعرف سكان المنطقة الشاي. وروى لي أخي وزميلي الدكتور علي القريشي أنه في رمضان لا يكاد يخلوا بيت في العراق من عصير (نومي بصره) البارد المثلج وبخاصة على مائدة الإفطار.

ومن القصص الطريفة التي رواها لي معالي السيد محمد بن أحمد البوسعيدي المستشار الخاص لجلالة السلطان قابوس للشؤون الدينية والتاريخية -رحمهما الله- أنه عندما كان وزيراً للداخلية أرسله السلطان الراحل على رأس وفد للعراق في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وحدث له موقفان أثناء وجوده في بغداد، يقول معاليه: إنه ألقى خطاباً أمام عدد من أعضاء حزب البعث، واستفتحه ببيت الشاعر/ هلال البوسعيدي، الذي يقول فيه:

إن ما يربط العراق بنزوى  ... من قديم روابط من إخاء

فقاطعه أحد أعضاء حزب البعث متسائلاً عن هذه العلاقة التي يشير إليها الشاعر؛ مما حدا بمعالي السيد إلى أن يشرح بالتفصيل هذه العلاقة القديمة، وأهمها استنجاد أهل البصرة بأحمد بن سعيد، الذي أرسل أسطولاً بحرياً لمساعدة أهلها في مواجهة الفرس، وتسمى هذه المساندة، أو المساعدة بــ"النجدة العمانية للبصرة".

وقد أشرت إلى هذه القصة في أطروحتي للماجستير التي طبعتها مكتبة الضامري التي عنوانها: "الأبعاد العربية الإسلامية في الشعر العماني الحديث".

 

* كاتب وأكاديمي

مقالات مشابهة

  • شولتز: إعادة نشر صواريخ أميركا بعيدة المدى جزء من الردع
  • سفير ألمانيا يطلع على تجربة «زايد العليا» ومشاريعها الإنسانية
  • التصعيد الاقتصادي من قبل السعودية ومرتزقتها محاولة للنيل من حالة الاستقرار بالمحافظات الحرة
  • ألمانيا تمنح 20 الف يورو لكل لاعبة في حال التتويج بأولمبياد باريس
  • طبيب يحذر من علامة جلدية غير مألوفة قد تنذر بسرطان صامت
  • مراسل القاهرة الإخبارية: ارتياح ألماني من نتيجة الانتخابات البرلمانية الفرنسية
  • عن حرية الرأي في العصر الرقمي
  • «سلة ألمانيا» تحصل على «ورقة الغار»
  • الحاج مصبح الصحاري حاكماً للعراق (1)
  • ميقاتي بحث في الـ 1701 مع لازارو والتقى وفدا من العسكريين المتقاعدين