أثير – الإعلامي العربي زاهي وهبي

لكل امرئ من دهره ما تعود.
شطرٌ من جدنا أبي الطيب يختصر علاقتنا بما نألفه ونتعوّد عليه.
ربما يكون التعوّد مفيداً في حالاتٍ كثيرة، لكنه في حالات أخرى كثير الضرر والأذى.
أخطر ما نواجهه في الصراع الضاري مع المحتل الإسرائيلي أن نعتاد على مجازره ومذابحه بحق الشعب الفلسطيني.

نغضب ونثور لحظة وقوع المجزرة، ثم رويداً رويداً تصبح أخبار المجازر وصور الأطفال الممزقين أشلاء والأمهات الباحثات في مشارح المستشفيات عن فلذات أكبادهن أمراً معتاداً ومألوفاً لا يحرك فينا سوى مشاعر الحزن والأسى
بينما نكمل حياتنا اليومية حتى نكاد ننسى.

نحيا في عصر الصورة، وبمقدار ما هي مهمة هذه الصورة وضرورية لنقل حقيقة الاحتلال الإسرائيلي وفضح جرائمه، بمقدار ما يحمل تكرارها شبهة الألفة والتعوّد، حتى تصير مشاهد القتل والتنكيل جزءاً عادياً من يومياتنا المضغوطة بألف همّ وهمّ.

لحظة وقوع مذبحة المستشفى المعمداني في غزة بصواريخ المحتل الإسرائيلي هبّت الناس في مختلف أصقاع الأرض مستنكرة هول المجزرة. لكن لنعترف، ارتكب الاحتلال عشرات المجازر بعد مجزرة المعمداني لكن مستوى التفاعل معها إعلامياً ورفضها واستنكارها لم يرقَ إلى مستوى الهبة التي أعقبت مجزرة المستشفى. فهل المجزرة في المستشفى مهولة ومفزعة ومدانة، أما إذا ارتكُبَت في عمارة سكنية تصبح مقبولة مثلاً؟.

لا نشكك بمشاعر الناس الصادقين الذين ملأوا الشوارع والطرقات في معظم عواصم العالم رفضاً لهمجية الاحتلال ومحرقته الصهيونازية في غزة. بل نحذّر من خطورة التعوّد الذي يقودنا إلى التبلّد. تبلّد المشاعر والأحاسيس يودي بنا إلى الإحباط والقنوت، وهذا ما لا نريده أو نتمناه. بقاء الغليان في الشوارع والساحات، وعلى صفحات السوشيال ميديا والشاشات ضروري جداً كي تبقى قضية فلسطين حية، وكي تظلّ همجية الاحتلال الإسرائيلي بدية للعيان.

من غير الجائز أو المقبول أن يرتبط مستوى اهتمامنا بفلسطين وقضيتها النبيلة العادلة بمنسوب الدم الفلسطيني. بمعنى أوضح لا يجوز أن تغدو فلسطين أولوية لأقلامنا وأصواتنا وصفحاتنا ومنابرنا فقط حين يُسفك الدم الفلسطيني الغالي بفعل آلة القتل الإسرائيلية الفتّاكة وكأننا نقول للفلسطينيين نحن معكم فقط عندما تُقتلون وتُسفَك دماؤكم!

لنتذكّر دائماً أن الاحتلال واقع يوميّ يعيشه الشعب الفلسطيني. حين يصمت دوي المدافع وهدير الطائرات لا يعني ذلك أن المياه عادت إلى مجاريها والحياة إلى طبيعتها. ثمة الحواجز والجدار والاعتقالات والأسرى والاغتيالات وهدم البيوت والحصار والقمع والتنكيل. كل هذا يحصل بشكل دائم ويومي، لذا فإن الواجب الإنساني والأخلاقي يستدعي حضوراً يومياً لفلسطين في قائمة اهتماماتنا، بل في أولوية اهتماماتنا. فلسطين ليست قضية فلسطينية أو عربية فحسب، فلسطين قضية كل إنسان حرٍّ حالمٍ وساعٍ إلى العدالة والحرية.

هذا ما بدا جلّياً في الآونة الحالية، معظم شعوب العالم نزلت إلى الشوارع والميادين رفضاً للإبادة الهمجية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، رافعة الصوت عالياً: فلسطين حرة، فلسطين حرة. وكما كتب الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصرالله في مقدمته لكتابي “هوى فلسطين”: “نحن نقف مع فلسطين لا لأننا فلسطينيون أو عرب بل نقف معها لأنها امتحان يومي لضمير العالم”.

أما أولئك الذين يقولون أن فلسطين ليست قضيتهم. فهم إما سُذَّج وحمقى ومهابيل يظنون أنهم في منأى عن أهداف الاحتلال ومشاريعه الإستراتيجية غير المعلنة، وإما جزء من ماكينة غسل الأدمغة التي تريد ان تنسينا فلسطين وقضيتها النبيلة العادلة، وتقنعنا أن إسرائيل حمامة سلام يحيط بها الأشرار من كل جانب. أحّا(!)

لأبناء فلسطين نقول:

لكم الأمسُ والهمسُ وأعلى النشيد(*)
لكم الآن والغدُ الأكيد
لكم شرفةُ الصبح، حسرةُ الدمع، وشمسٌ طالعةٌ من جوف الجراح
لكم غناءُ البلابل في الحقول
وصمتُ الظهيرةِ الكسول
لكم حبَّةُ القمح إذ تصير سنبلة (أو قنبلة)
ونهاراتٌ ناصعة مثل فرح الأولاد
لكم تغنِّي الأرضُ الحزينة
لا الخوفُ يكتمُ صوتها ولا الجلاد.
_____
(*) مقتطفات من قصيدة الكاتب “لكم الدولة”.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

إبادة ممنهجة للنسل الفلسطيني... وغزة تستغيث: افتحوا المعابر

"الاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يمنع الماء والدواء والغذاء عن أطفالنا... إنه يُبيد النسل الفلسطيني"، بهذه الكلمات اختصر الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة، مشهدًا صحيًا وإنسانيًا هو الأقسى منذ عقود، متهمًا الاحتلال الإسرائيلي بممارسة جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، لا سيما الأطفال والنساء.

وفي مقابلة تليفزيونية، أكد البرش أن إغلاق المعابر بشكل كامل منذ بداية الحرب فاقم من انهيار المنظومة الصحية، وأدخل المستشفيات في "حالة تدهور غير مسبوقة"، مشيرًا إلى أن القطاع الصحي ينهار بشكل تدريجي، وسط غياب الأدوية والمستلزمات الطبية، وحرمان الطواقم من الحركة.

أشار البرش إلى أن الأطفال هم الأكثر تضررًا من تداعيات الحصار والحرب، موضحًا أن أكثر من 40 ألف طفل أصبحوا أيتامًا، وأن 100 طفل فقدوا حياتهم وهم ينتظرون فتح المعبر لتلقي العلاج. ولفت إلى أن نحو مليون طفل في غزة محرومون من المساعدات المنقذة للحياة، في ظل تعمد الاحتلال منع دخول أي إمدادات إنسانية.

وأضاف أن عدد الضحايا جراء التبعات غير المباشرة للحرب، كالجوع والمرض والعطش، بات يتجاوز أولئك الذين قضوا تحت القصف، في دلالة واضحة على اتساع رقعة الموت الصامت.

من بين 38 مستشفى في غزة، لا يعمل سوى 20 بشكل جزئي فقط، وسط عجز تام عن تقديم خدمات الجراحة والطوارئ والعناية المركزة. وتابع البرش: "نفتقد إلى الماء والكهرباء، ولا نستطيع تشغيل الأجهزة الطبية... ما تبقى من المستشفيات ينهار أمام أعيننا".

وفي تطور خطير، كشف البرش أن الاحتلال اعتقل أكثر من 360 من الكوادر الطبية في غزة، ما يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يُوجب حماية العاملين في القطاع الصحي زمن الحرب.

وختم الدكتور البرش تصريحاته بتوجيه نداء عاجل للمؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، مطالبًا إياها بـ"تحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية"، والعمل فورًا على فتح المعابر، وإدخال المساعدات الطبية والإنسانية لإنقاذ ما تبقى من الأرواح في قطاع يحتضر.

طباعة شارك غزة الاحتلال النسل

مقالات مشابهة

  • إبادة ممنهجة للنسل الفلسطيني... وغزة تستغيث: افتحوا المعابر
  • الإعلامي الحكومي بغزة: العدو الصهيوني يُفاقم تجويع الأطفال وسط تفشٍ غير مسبوق لسوء التغذية الحاد
  • الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب
  • “الإعلامي الحكومي”: الاحتلال يُفاقم تجويع الأطفال في غزة
  • بين فشل أمريكا المُدوِّي وصمود اليمن.. قصة الضمير العربي الوحيد المدافع عن فلسطين
  • نائب رئيس فلسطين يشكر القيادة المصرية والشعب المصري على موقفهم الداعم للشعب الفلسطيني
  • من يقتل الحقيقة لا يحق له أن يكتب التاريخ
  • جبهة دعم فلسطين تدعو إلى جعل قضية غزة حاضرة بقوة في مسيرات فاتح ماي
  • د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!
  • البرلمان العربي يرحب بتعيين حسين الشيخ نائبًا لرئيس دولة فلسطين