الشورى الاجتماعية.. والسبلة العمانية
تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT
29 أكتوبر 2023م.. يومٌ اختار فيه الشعب العماني ممثليه في مجلس الشورى لدورته العاشرة، لمن هم داخل البلاد، أما من كانوا خارجها فقد سبقوا ذلك بأسبوع. هذا العمل الانتخابي فعل وطني علينا جميعا السعي إلى إنجاحه، ليس يوم الانتخاب أو تحت قبة المجلس فحسب، بل في المجتمع عموما. ومجلس الشورى.. ليس أعضاء يشغلون كراسيه، بل هو بوصلة مستقبل عمان، وتقليد راسخ تعبّر فيه عن اللُحمة بين الشعب والحكومة في متابعة عمل مؤسساتها؛ تشريعا ومراقبةً.
المقال.. يطرح رؤية حول «الشورى الاجتماعية»، والدور الذي يمكن أن تقوم به لخدمة الإنسان والوطن، وهذا يتطلب التطرق إلى ثلاث نقاط لتتضح الرؤية المقصودة؛ وهي: تنظيم الدولة الحديثة للشورى وتطورها، والفرق بين الشورى الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية، والشورى في عمان قبل الدولة الحديثة.
افتتح جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه (ت: 2020م) حكمه عام 1970م بخطاب ألقاه على الأمة العمانية في اليوم الأول من وصوله إلى العاصمة مسقط؛ قائلا: (إننا نأمل أن يقوم كل فرد منكم بواجبه لمساعدتنا على بناء المستقبل المزدهر السعيد المنشود لهذا الوطن. لأنه كما تعلمون أنه بدون التعاون بين الحكومة والشعب لن نستطيع أن نبني بلادنا بالسرعة الضرورية للخروج بها من التخلف الذي عانت منه هذه المدة الطويلة. إن الحكومة والشعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد). هذا الخطاب المبكر من السلطان وهو يكتب أول حرف من سردية الدولة الحديثة ببلاده؛ يضع كذلك حجر الأساس في مبنى العلاقة بين الحكومة والشعب، فـ(الحكومة والشعب كالجسد الواحد)، وعلى هذا المبدأ تدرجت سلطنة عمان في ممارسة الشورى.
كانت فلسفة إشراك المواطن بأخذ رأيه ترتكز على مدى تأثير مراكز القوى على عمل قطاعات الدولة، فكان الاقتصاد هو العنصر الفاعل في التأثير، وربما جاء ذلك لمواجهة «النظرية الاشتراكية»؛ التي دخلت الدولة في صراع مع مؤدلجيها، فصدر مرسوم سلطاني برقم (19/ 79) في: 21/ 4/ 1979م بـ«إنشاء مجلس الزراعة والأسماك والصناعة»، وقد ورد التسبيب بإصداره: (حرصا منا على إشراك المواطنين في مسؤولية رسم وتوجيه المستقبل الاقتصادي للبلاد، وإيمانا بأهمية تكاتف وترابط جميع الجهود في سبيل تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين في الحاضر والمستقبل).
لم تدم هذه المرحلة طويلا؛ فسرعان ما تغيّرت الأوضاع، وظهرت مراكز قوى أخرى، فمع عامل الاقتصاد؛ ظهر «المؤثرون الاجتماعيون»، بحكم موقعهم الاجتماعي والقبلي، أو نيلهم درجات أعلى من التعليم والتأهيل، أو شغلهم مواقع متقدمة في الحكومة لا تريد الدولة التفريط في خبرتهم، فصدر مرسوم سلطاني برقم (84/ 81) في: 18/ 10/ 1981م، «بإنشاء مجلس استشاري للدولة»، ملغيا «مجلس الزراعة والأسماك والصناعة»، يقوم عمله على إبداء الرأي في القضايا التي حددها المرسوم.
وفي خط تطور مشاركة المواطنين التي انتهجتها الدولة، وتحت وقع التحولات العالمية باتجاه الديمقراطية التي تبنّاها «النظام العالمي الجديد»، أنشئ مجلس الشورى بالمرسوم السلطاني رقم (94/91) في: 12/ 11/ 1991م: (انطلاقا من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء وتأكيدا للنهج الإسلامي في الشورى. واستمرارا لسياستنا في إعداد المواطنين للمشاركة فيما تبذله الحكومة من جهود في سبيل التنمية الشاملة للبلاد. ورغبة في توسيع قاعدة الاختيار؛ بحيث تشمل تمثيل مختلف ولايات السلطنة، وبما يحقق المشاركة الفعلية للمواطنين في خدمة وطنهم ومجتمعاتهم المحلية). وفي عام 2011م.. نتيجة مطالبة المواطنين بمنح المجلس مزيدا من الصلاحيات؛ صدر مرسوم بتاريخ: 19/ 10/ 2011م، ضمن تعديلات النظام الأساسي للدولة، بتوسيع صلاحياته. وآخر تعديل لقانون مجلس الشورى جاء بمرسوم أصدره جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله برقم (54/ 2023) في: 27/ 7/ 2023م.
الشورى الاجتماعية.. تختلف عن الديمقراطية الاجتماعية التي نادى بها بعض المفكرين اليساريين أثناء الحكم الشيوعي؛ بعدما رأوا الاستبداد و«العنف الثوري» الذي ارتكبته الأنظمة الشيوعية، فالديمقراطية الاجتماعية.. هي محاولة إصلاح سياسي للنظام الشيوعي الحاكم بغية إشراك الشعب في إدارة مؤسسات الحكم. أما الشورى الاجتماعية.. فهي لا تعمل في السياسة، وإنما عملها تفعيل الجانب الاجتماعي عبر المجتمع ذاته.
لقد دعا القرآن إلى الشورى، لكنها لم تتحول لدى عموم المسلمين إلى «نظرية سياسية»، واقتصروا على الاحتفاء بها ضمن القيم الإسلامية، بيد أن العمانيين مارسوا الشورى عبر نظام الإمامة حوالي ألف عام، تشكلت من خلاله نظريتهم السياسية، وقد أصدر الإماراتي حسين غباش (ت:2020م) دراسة في ذلك بعنوان: «عمان.. الديمقراطية الإسلامية»، لكن القليل من الباحثين سلط الضوء على ما عرف في أدبيات الفقه العماني بـ«جماعة المسلمين»، والتي يرجع إليها المجتمع؛ خاصة أثناء انهيار النظام السياسي، والذي حلَّ محلها مجلس الشورى. أما الشورى الاجتماعية.. فقد اتخذت طرقا؛ أشهرها: «نظام السبلة» الذي حلت محله المجالس البلدية. والمؤسستان؛ جماعة المسلمين والسبلة.. نابعتان من المجتمع، لكن البدائل أصبحت نظما حكومية لإشراك المجتمع، ولذا؛ تأتي فكرة الشورى الاجتماعية، لتكون برمتها عملا اجتماعيا، وهي تطوير لنظام السبلة وتوسيع له، فالمجتمع.. لم يعد تؤثر عليه مراكز القوى التقليدية وحدها، بل يكاد يصبح في عصرنا الرقمي كل فرد مؤثرا، وقادرا أن يخدم مجتمعه؛ ابتغاء وجه الله وحبا للوطن.
الشورى الاجتماعية.. التي أقترحها؛ لا تحل محل مجلس الشورى ولا المجالس البلدية، ولا تنافسها، وإنما تعاضدها وتتكامل معها. وهي عملية اجتماعية بالأساس، أي أن المجتمع ينشئها ويديرها، فهناك الكثير من القضايا التي لا يُتطرق إليها من قِبَل المجالس البلدية، كما أن التمثيل المحدود والتنافس على هذه المجالس تهمّش العديد من خبرات المجتمع. وتأتي فكرة الشورى الاجتماعية لتلافي هذه الإشكالات، بتوسيع الفعل الاجتماعي، ليصبح عملا يوميا، ناهضا من قاعدة المجتمع.
والفكرة.. هي أن يقوم مجموعة من القانونيين والناشطين الاجتماعيين والمثقفين ومن في حكمهم بوضع مسودة المشروع، دون تدخل من الحكومة، إلا لاعتماده من سلطان البلاد أعزه الله. المشروع.. يقوم على فكرة تشكيل مجلس في كل ولاية؛ أقترح تسميته «السبلة العمانية»، يتكون من 50 عضوا؛ رجالا ونساءً، ينتخبون من مختلف القطاعات والتوجهات المجتمعية، يختارون لهم رئيسا ورؤساء للجان والفرق المنبثقة عن المجلس، ويكون والي الولاية مشرفا، وثلاثة أعضاء من الحكومة مراقبين، وأعضاء المجلس وكل من يعمل فيه لا يتقاضى أجرا. وتكون مدة عضويته ثلاث سنوات، يجري اختيار نصف الأعضاء كل دورة، مع بقاء النصف الآخر مدة ثلاث سنوات أخرى لنقل خبراتهم للأعضاء الجدد، ومَن تنتهي مدة عضويته لا يجدد له، وهكذا تتعاقب الأجيال وتتجدد الدماء وتتراكم الخبرات، ومع الزمن تُسدُّ الإشكالات التي في انتخابات مجلس الشورى والمجالس البلدية. بل إن «السبلة العمانية» بآليات تفعيلها للشورى الاجتماعية سوف ترفد هذه المجالس، وتطور من عملها.
«السبلة العمانية» القائمة على فلسفة الشورى الاجتماعية.. تتلخص مهمتها في رفع توصياتها فيما يتعلق بالشأن الاجتماعي؛ بمختلف جوانبه الاقتصادية والصحية والبيئية والتعليمية، وكل ما يتعلق بالمجتمع، إلى جلالة السلطان مباشرة، وبذلك؛ توجد أعين أخرى تبصر بها الدولة المجتمع، وأيدٍ تمتد للحكومة بالعون، وبها تترسخ قيمة الشورى بين الناس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشورى الاجتماعیة المجالس البلدیة الحکومة والشعب مجلس الشورى
إقرأ أيضاً:
رئيس مجلس الشورى يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان
يبدأ معالي رئيس مجلس الشورى الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ زيارة رسمية إلى جمهورية باكستان الإسلامية على رأس وفد من مجلس الشورى تلبية لدعوة تلقاها من رئيس الجمعية الوطنية الباكستانية سردار إياز صادق.
ويجري معالي رئيس مجلس الشورى جلسة مباحثات رسمية مع رئيس الجمعية الوطنية الباكستانية سردار إياز صادق، ويلتقي رئيس مجلس الشيوخ الباكستاني يوسف رضا جيلاني، ومن المقرر أن يلتقي معاليه خلال الزيارة عددًا من كبار المسؤولين الباكستانيين.
وأكد معالي الدكتور عبدالله آل الشيخ – في تصريح صحفي – أن هذه الزيارة تأتي في سياق تعزيز العلاقات التي تجمع البلدين والبحث في سبل تطويرها في المجالات كافة، لا سيما المتعلق منها بتعزيز التعاون البرلماني بين الجانبين.
اقرأ أيضاًالمملكةأمير نجران يهنئ القيادة بمناسبة فوز المملكة باستضافة كأس العالم 2034
وأشار في – معرض تصريحه – إلى أن العلاقات المتميزة بين البلدين بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود, وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- وقيادة جمهورية باكستان تعبر عن تاريخ ممتد من التعاون البناء والروابط الأخوية بين البلدين والشعبين الشقيقين.
ويضم وفد مجلس الشورى برئاسة معالي رئيس المجلس, أعضاء لجنة الصداقة البرلمانية السعودية الباكستانية الدكتور عادل ميرداد نائب رئيس اللجنة، والدكتور حسن الحازمي، والدكتورة عائشة زكري، والدكتور عبدالله الوقداني، والدكتورة معيضة الغامدي.