لا أتذكر بالضبط كيف بدأت حكايتي مع فلسطين. لكن بالتأكيد كبرت معنا وفينا وظلت كما هي منذ عرفتها فتية لا يصيبها الكبر ولا تشيخ، عودها طريا مخضرا باقيا رمزا للبطولة والعنفوان. فقد شاءت لنا الأقدار أن نعيش في مجتمع ومحيط عائلي لا يفتأ يلقننا اسم فلسطين وإن اختلفت وسائل التلقين. لكن عندما أنبش في الذاكرة تضيء أمامي بعض الشذرات التي قادتني إلى فلسطين.
عندما قرأت لأول مرة قصة غسان كنفاني (موت السرير رقم 12) عن موت العُماني محمد علي أكبر في أحد مستشفيات الكويت، لاحت تلك الحكاية التي يرويها أبي رحمه الله عندما قضى فترة بالمستشفى الأميري في الكويت، وكان ذلك خلال حرب 1967م، يقول والدي بأنه أفاق ذات صباح وجد رجلا كبيرا في السن يرقد في السرير القريب منه. وبمرور الوقت توثقت العلاقة بينهما وكانا يستمعان معا لنشرة الأخبار من راديو صغير في المستشفى، وكانت الأخبار آنذاك تبث من قناتين هما الـ (بي بي سي) وراديو (صوت العرب) من مصر التي تبث في حينه خطابات الرئيس جمال عبدالناصر، وما كان يبثه المذيع أحمد سعيد من تقدم الجيوش العربية وانتصارات العرب التي تنبئهم أن فلسطين على وشك التحرر من الاحتلال الصهيوني. لكن ذلك الرجل الكبير في السن -كما يقول والدي- لا يظهر على وجهه إلا الامتعاض والحزن، وكأنه يستشعر بالقادم السيئ. يتذكر والدي ما كان يقوله له «يا ولدي ما زلت صغيرا ستعرف الحقيقة عندما تكبر، ستعرف حقيقة ما يجري». كبر والدي وأدرك ما كان يعنيه ذلك الرجل.
في المرحلة الابتدائية في أبوظبي لا يغيب عن ذاكرتي ذلك المشهد وكان وقتها شهر رمضان ربما العاشر منه كنت التقط بعض الأسماء التي تتداول في تلك الفترة وكان أكثر ما تردد اسم فلسطين والعدو الصهيوني والعبور وخط بارليف والسادات، وأتذكر بمجرد ما أفطر الناس خرجوا للشارع مبتهجين وأخذوا يوزعون زجاجات (البارد) المشروبات الغازية سعداء فرحين ويهنئون بعضهم، عندما أسترجع الآن أحداثها أدرك أن ذلك اليوم هو حرب أكتوبر 1973. ولا أنسى العائلة الفلسطينية التي تسكن قريب بيتنا وكنا نحن الصغار نلعب معا لا نفترق أبدا إلا وقت النوم. وما زلت أتذكر عددا من المعلمين الفلسطينيين، وتلك اللوحة الخشبية المعلقة على حائط في الفصل مرسوم عليها علم فلسطين ونبذة عن تاريخ فلسطين والمسجد الأقصى.
في هذه الفترة برزت فلسطين لأول مرة بشكل مختلف. وكان النفسي والعقلي أكثر استعدادا لتقبل الأشياء، رغم أن المناهج الدراسية كانت تتضمن نذرا بسيطا عن فلسطين، إذ لم يكن حضورها بتلك القوة، لكن رغم ذلك كان ثمة فلسطين، في نشيد أو قصة عابرة أو حكمة قيلت، فتعلمنا نشيد (فلسطين داري ودرب انتصاري للشاعر سليمان العيسى) ونشيد بلاد العرب أوطاني. وقصة أرض البرتغال الحزين للكاتب غسان كنفاني، وأشعار فدوى طوقان وإبراهيم طوقان.
لاحقا أخذ اسم فلسطين يترسخ تدريجيا ويتصاعد في الوعي، بفضل تأثيرات الصوت في البداية ثم الصورة التي تبثها التلفزة، ثم عبر الصحف، والمجلات، وخلال هذه الفترة بدأت فلسطين تظهر في مخيلتي بشكل أقوى، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع فلسطين والفلسطينيين، أتذكر في هذا الصدد راديو صغيرا كان في بيتنا أحضره قريب لنا (ربما يلتقي مع الوالد في اسم معين) وكان رجل كبير في السن ونسميه (العُودْ) فقد بصره في آخر عمره وأصبح أعمى وقد أنهى لتوه رحلات الغوص بحثا عن اللؤلؤ، جاء الرجل ليقيم معنا، وظل في بيتنا إلى أن رحل. ذلك الراديو الذي لا يفارقه ظل يطلق صوته الأثيري عبر فضاء البيت، وكان العود يجلس عادة عند مدخل البيت، لذلك كان السماع لصوت الراديو إجباريا للداخل أو الخارج من البيت لا بد أن يلتقط سمعه ما يبثه الراديو وكنت أسمع نشرات الأخبار المتكررة وكانت فلسطين حاضرة بقوة، أما العود يصغي السمع للأخبار بشكل مغاير، ترافق سماعه حركات وعبارات ويستشيط غضبا عندما يسمع شيئا عن فلسطين. وفي الليل عندما ينام البيت وساكنوه يسكت الراديو، ينبري العود في حديث مع نفسه معتقدا أن أحد لا يسمعه، فيبدأ في تحليل الوضع الفلسطيني ثم ينتقد، وكان حادا في نقده، يردد عبارات قوية على قادة الإسرائيليين ويصب جام غضبه على الأمريكيين، فيتقمص دور القاضي ويبدأ في محاكمتهم، ثم يعرج على القادة العرب ويذكر كل واحد منهم بالاسم وكأنه يقف أمامهم يخاطبهم ويلوح لهم بيده وفي مرات يتناول العصا ويستخدمها في الكلام محاولا حثهم ودفعهم نحو فلسطين.
في أغسطس عام 1982م لا أنسى ذلك اليوم الذي تسمّرنا فيه أمام التلفزيون نشاهد ياسر عرفات يخرج من بيروت ومعه رفاقه يخطو نحو السفينة التي ستنقلهم إلى تونس وقبل أن يصعد لوَّح بيده باكيا أمام الآلاف الذين احتشدوا لوداعه قائلا «أيها المجد لتركع أمام بيروت».
كل تلك المشاهد لم تكن إلا ضبابية مشوشة، لكن يبقى الانفجار الأول للواعي بفلسطين القضية والشعب والاحتلال والمقاومة، انفتح فيها الوعي على مصاريعه فكانت فترة الثمانينيات أكثر الفترات نضوجا. مرحلة الدراسة الجامعية في المملكة المغربية. مغرب الثمانينيات كانت لنا بيئة مختلفة ومغايرة، أخذ الوعي بفلسطين يتصاعد، أينما ذهبت ستجد فلسطين، في السوق، في المقهى، وأنت راكب في التاكسي، في الصحف اليومية، في نشرات الأخبار، مع الطلبة، في الحي الجامعي، في الاعتصامات والاحتجاجات المتصاعدة في الكلية. مثلت كلية الحقوق ودراسة القانون قفزة نوعية في تصاعد الوعي بفلسطين، وهو الفضاء المناسب الذي يتفتق فيه الوعي من خلال تنظيمات وهيئات وتيارات طلابية، إذ لا تكاد تمر مناسبة في فلسطين إلا ويكون صداها في المغرب، وخصوصا بين الطلبة في الجامعات والكليات. يتداعى الطلبة فتقام الحلقات والوقفات في ساحة الكلية، تتصاعد فيها التنديدات بإسرائيل، وتلقى فيها الخطب والأشعار، وقصائد نضالية للشاعر نزار قباني ومظفر النواب وأحمد مطر وغيرهم. تبادلنا نحن الطلبة استنساخ الروايات والقصص ودواوين الشعر، ككتيبات نزار قباني، ولافتات أحمد مطر، ومحمود درويش، ورواية مدن الملح لعبدالرحمن منيف وشارع الأميرات، والبحث عن وليد مسعود، وصيادون في شارع ضيق لجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم. قرأنا بلهفة وشغف أشاعر محمود درويش وأتذكر أول ديوان شعري اشتريته هو (حصار لمدائح البحر) وكم أعجبتني قصيدة رحلة المتنبي إلى مصر.
في ديسمبر 1987م انفجرت الانتفاضة الفلسطينية أو انتفاضة أبطال الحجارة وأخذ زخمها في التصاعد. كل شيء ينطق فلسطين، في طريقي اليومي للكلية مثلا كنت أمرُّ أمام جداريات تحمل اسم فلسطين بخطوط مختلفة، أعلام فلسطين، وصورا لأطفال صغار يلوّحون بالحجارة يرتدون الكوفية الفلسطينية التي أصبحت رمزا للنضال والمقاومة وانتشرت موضة اقتنائها بلونيها الأبيض والأسود خصوصا بين طلبة الجامعات، وكان كل طالب يفتخر بأنه يرتدي الكوفية أو الوشاح حول رقبته. وكانت مدن المغرب بأكملها تشهد مظاهرات واعتصامات، في كلية الحقوق بمراكش مثلا شاركنا في رفع الأعلام الفلسطينية وصور قادة النضال الفلسطيني. وفي الوقفات والاعتصامات، منخرطون في تقسيمات نضالية، فتجد فتحاويين يرفعون صور ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد، ومنهم من يرفع صور جورج حبش، ونايف حواتمة، وصور أحمد ياسين وغيرهم من الزعماء. وفي 16 أبريل 1988م أتذكر ذلك اليوم الذي اغتيل فيه خليل الوزير أبو جهاد في تونس، وكنت يومها في المقهى وفجأة انقطع البث العادي من إذاعة البحر المتوسط التي تبث من طنجة ليعلن خبر الاغتيال.
كبرت الأسئلة وتولدت الدهشة. ترافق الوعي في هذه المرحلة ليس بفلسطين فقط، لكن كان إيذانا بالانفتاح على عوالم كانت لنا غامضة، فسقطت في هذه المرحلة الكثير من المسلّمات والمقدسات. حضرت فلسطين والقضية الفلسطينية بقوة أيضا من خلال ناجي العلي ورسومه الكاريكاتورية التي كان ينشرها في جريدة القبس الكويتية، كنت أتابع تلك الرسومات التي استلهم فيها العلي شخصيات مذهلة وأشهرها حنظلة الذي يدير ظهره ويعقد يديه للخلف ولا يظهر وجهه، وشخصية الشخص السمين وغيره من الشخصيات والرموز التي ينشرها. أعجبت كثيرا بناجي العلي وما زلت احتفظ بكراسة صغيرة تتضمن جميع رسوماته اشتريتها من بائع كتب في شارع محمد الخامس بالرباط. وكانت الفاجعة الكبيرة يوم اغتيل ناجي العلي في لندن 22 يوليو 1987م.
أما في مسقط فلا تزال لفلسطين ذاكرة طرية خضراء مورقة. في صبيحة أحد الأيام في منتصف أبريل عام 1996م كنت أجلس والشاعر الراحل الأخ مبارك العامري في مقهى بمجمع الحارثي آنذاك وكنا نتصفّح الجرائد وكانت الأخبار تتوارد عن عملية عناقيد الغضب والمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في قرية قانا بجنوب لبنان راح ضحيتها عدد كبير من الشهداء، فكتب مبارك العامري في اللحظة نفسها وعلى الطاولة نفسها قصيدة أحمد القاني أو آخر مَا رأى. وفي عام 2004م بدأنا نتابع بشغف العمل الرائع (التغريبة الفلسطينية) لوليد سيف وإخراج حاتم علي.
فلسطين التي لا تغيب وتظل حاضرة بقوة في نفوسنا جميعا جذوة تشتعل وتأبى الخمود، سردية تروى للأجيال، لا تزال ترقد في نفوسنا وقلوبنا. وتكبر في أذهاننا صورة فلسطين وترتسم فينا تلك الأيقونة التي يظل بريقها لامعا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اسم فلسطین
إقرأ أيضاً:
مبادرات مشتركة بين محافظة الغربية و«الأزهر» تستهدف نشر الوعي الديني بين الشباب
أشاد اللواء أشرف الجندي، محافظ الغربية، بالدور الرائد لمجمع البحوث الإسلامية في نشر الوعي، مؤكدًا أن مثل هذه الشراكات تساعد في بناء مجتمع متماسك ومستنير، وأن المحافظة ترحب بأي جهود تسهم في رفع الوعي لدى المواطنين، وخاصةً الأجيال الشابة، لتكون على دراية بالقيم الأخلاقية والوطنية.
تعزيز التعاون بين المحافظة والمجمع بهدف نشر الوعي الدينيجاء ذلك على خلال استقبال، محافظ الغربية، الدكتور محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وذلك في إطار تعزيز التعاون بين المحافظة والمجمع بهدف نشر الوعي الديني وتعزيز القيم الأخلاقية في المجتمع.
إطلاق مبادرات توعوية مشتركة تستهدف الشبابتناول اللقاء بحث عدة محاور للتعاون، من بينها إطلاق مبادرات توعوية مشتركة تستهدف الشباب، تنظيم ندوات دينية وقوافل دعوية تهدف إلى التوعية بالقيم الإسلامية السمحة ونشر المفاهيم الوسطية، والتصدي للأفكار المغلوطة والشائعات المغرضة إلى جانب دعم جهود الدولة في محاربة الإرهاب والتطرف لنشر الوعي المجتمعي و دعم الاستقرار والتنمية المستدامة.