لجريدة عمان:
2024-07-05@10:34:56 GMT

العالم بلباس غزاوي

تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT

مع الأحداث الأليمة التي مرت بها غزة فلسطين، والتي جعلت العالم مظلما كالحًا ليلا ونهارا، فالإنسان وهو بعيد عن الحدث، وهو يعيش آمنا مطمئنا في سربه، عنده قوت يومه، لكنه لا يستطيع العيش معزولا عن العالم، ولو حاول ذلك بعزل ذاته، إلا أن نفسا بشرية واحدة تُحرم من حق الحياة، بلا ذنب ولا جرم، هي كسحابة سوداء، تمطر ألما وحزنا وكآبة على العالم أجمع.

بيد هناك بارقة أمل، عندما نجد العالم أجمع يتفاعل مع غزة، نجد ذلك في الشرق والغرب، جميعهم اجتمعوا على حرمة الدم، ومكانة الإنسان، ووقف الحرب، وحماية المدنيين والمستضعفين في غزة، وكأن العالم بأحرار شعوبه جُمِعَ في غزة، وغزة أصبحت ليست تلك الحدود الجغرافية المحدودة، بل أصبحت هي العالم ذاته.

هناك اليوم مئات المظاهرات في العالم، والداعمة للقضية الفلسطينية، ليس على المستوى العربي والإسلامي فحسب، بل أصبحت هذه المظاهرات إنسانية، واقفة عند الإنسان الفلسطيني والغزاوي، وفي بلدان داعمة للاحتلال، ومجرمة لكل ما هو ضد السامية، حيث هناك آلاف المتظاهرين في ولايات أمريكية وفي لندن ومانشستر وغلاسكو وباريس وبرلين وتورونتو وسيدني ومدريد وبلباو وبرشلونة وفالنسيا وفيينا وهلسنكي وهاسليهولم وموستار وبريشتينا وهاملتون وأوكلاند، وغيرها كثير.

هؤلاء المتظاهرون ليسوا من المسلمين فقط، وليسوا من المهاجرين العرب فحسب؛ بل شاركهم من غير المسلمين من الأديان الأخرى، حتى من اليهود الرافضين ما تقوم به الصهيونية من إبادة في غزة، وظلم في فلسطين، ومن المسيحيين البروتستانت الرافضين للظلم والإبادة والوحشية غير الإنسانية بحق الفلسطيني والغزاوي، ومن غير العرب من أحرار العالم، ومن منظمات حقوقية وإنسانية عالمية.

قضية غزة وفلسطين اليوم لم تعد قضية عربية أو إسلامية فحسب؛ بل هي قضية إنسانية، ما يجرى في غزة وفلسطين أصبح مفتوحا مدركا في العالم أجمع، ولئن كان الإعلام سابقا موجها حسب ما تريده السياسات خصوصا الغربية، ولما غرسته لسنوات طويلة في العقل الغربي، من خلال الصحافة والتلفزة والسينما، في تصوير العرب بما فيهم الفلسطينيون بالوحشية والبربرية، ولما أشاعته من المظلومية اليهودية، وبدعوى محاربة السامية، مع أن الظلم اليهودي في القرون الوسيطة وما بعدها خصوصا لا ذنب للعرب والمسلمين به، كما يقول المؤرخ اليهودي أوري أفنيري (ت 2018م) في صفحته كتلة السلام: «كل يهودي مستقيم، يعرف تاريخ شعبه، لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلا، في الوقت الذي كان العالم المسيحي فيه يلاحقهم وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم بالسيف»، وحتى اليوم اليهود متعايشين في الدول الإسلامية، وكانت لهم مكانة ومنزلة سياسية وعلمية في العهود الأولى، كالعباسية والعثمانية وغيرها.

وإذا كان للمسيحيين رؤية أيدلوجية سلبية اتجاه اليهود، بدعوى مقتل المسيح، ثم تغير الحال خصوصا مع المسيحية البروتستانية الإنجليكانية، حيث منهم من يرى أن التعجيل بقيام الدولة اليهودية هو تمهيد لمجيء المسيح، وتمهيد أيضا لتحقق نبوءات الكتاب المقدس، والتي أخذها منهم السبتيون الأدفنتست ثم شهود يهوه، «فيرون أن قيام دولة لليهود تحقيق لنبوءات البشارة بالحكومة الأرضية، وهي أرض الفردوس، حيث سيبدل الله بعد فترة وجيزة كل الحكومات البشرية بحكومته هو، وسينعم رعايا هذه الحكومة بالسلام، فوجود حكومة سماوية برئاسة المسيح، وبعدها تتحقق بشارة تحقق الحكومة الأرضية مع السماوية، وإسقاط الحكومات الأرضية»، وهذا سيتحقق في فلسطين عن طريق قيام الدولة اليهودية.

وسبق أن كتبت في جريدة «عمان» مقالة تفصيلية حول هذا بعنوان «الصهيونية ومسألة الدولة من العلموية وحتى الأصولية الدينية»، ممكن الرجوع إليها بعدا عن التكرار، ثم لما استغل الدين في السياسة، فأصبحت العلمانية بلباس ديني أو العكس، وهيمنت على الكنيسة الغربية الكاثوليكية الهيمنة السياسية الغربية ذات التوجه البروتستانتي المتعصب، عكس الكنيسة الشرقية الأرثدوكسية في الجملة، حيث بقت العديد منها ذات استقلال كالكنيسة القبطية والمشرقية عموما.

بيد أنني لا أريد هنا تديين توجهات القضية، وإلا أن فكرة المخلص، وربطه بالدم والصراع، وإثارة الحروب والفساد لتعجيل ظهوره، كما ربط ظهوره بالمسيح وأرض فلسطين، أو بالمقدسات؛ هي فكرة حاضرة في العقل الأخباري عند العديد من الأديان، وخصوصا الإبراهيمية، ومع أهمية نقد هذا التوجه، لما يحمله من رسائل سلبية لها تأثيرها في المجتمعات الإنسانية، ويعوق الرغبة في تحقق السلم في العالم، وحماية الإنسان وحقوقه الذاتية، وعلى رأسها حق الحياة، إلا أن استغلال بعض الأدبيات الدينية السلبية من جهة، وقراءة الأدبيات الدينية الظرفية قراءة مطلقة، سيقود العالم إلى مزيد من العنف والدماء والصراع.

ولكن في الوقت نفسه لا أرى قيمة من التفكه من الأديان، كما في بعض المنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحميل بعض آرائها العقدية أو التأريخية في غير موضعها الصحيح، وتأويلها تأويلا سلبيا، مع الإسقاطات غير الصحيحة، فهذه الطريقة ترفع من درجة الاحتقان، وتوسع من الصراع، لتحوله من صراع سياسي يلبس لباس الدين، إلى صراع طائفي نحن في غنى عنه.

هنا علينا أن نمايز بين السياسات وبين الأديان، فهناك سياسات يمينية متعصبة، تستخدم بعض النصوص والتأويلات الدينية في تبرير مصالحها ومواقفها السياسية، كما يرى إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي أن المفردات الدينية التلمودية «قد استخدمت وما زالت تستخدم في السياسة الإسرائيلية، ويستشهد بها غالبا في الصحافة الإسرائيلية الناطقة بالعبرية» من قبل الحزب اليميني المتطرف، بيد هناك من الاتجاهات الدينية واليسارية الرافضة لهذه الإسقاطات، والتي يستخدمها السياسيون المتطرفون في العالم أجمع.

وهذا ما نراه الآن في قضية غزة، فمع بعض السياسات الغربية المنحازة لهذا الاحتلال، إما لأسباب سياسية ذات بعد ديني، أو لهيمنة البعد السامي فيها؛ إلا أن هناك من شعوبها من رفض هذا الانحياز، ووقف مع المبدأ الإنساني الحافظ للدم، والرافض لأي إرهاب من أي توجه أو بلد أو دين، ورأينا عشرات النماذج في القضية الحالية، من سياسيين ومفكرين وحقوقيين وعسكريين وغيرهم، فضلا عن الشعوب المتظاهرة والرافضة لهذا الإرهاب من جهة، والكيل بميزانين من جهة أخرى.

فليس من صالح القضية الفلسطينية خصوصا، وليس من صالحنا عموما هذا الاستعداء المطلق للغرب، وربط هذا الانحياز السلبي بالحضارة الغربية، وإلغاؤها بالكلية، وكأن الحضارة الغربية محصورة في هذه الزاوية السياسية السلبية فحسب، مع خطابات شعبوية غايتها التعميم والتهييج السلبي، وهي ذاتها تستخدم وسائل وأدوات النتاج الغربي ذاته، لتعبر عن رأيها، وكما أسلفت ما نراه اليوم من إدراك العديد من الشعوب الغربية لأحقية القضية الفلسطينية؛ هذا الذي ينبغي أن نشتغل عليه، فهذه الشعوب لها ثقلها في السياسات الغربية سياسيا وحقوقيا ومدنيا.

كذلك ليس من صالحنا ولا صالح القضية استعداء الأديان أو المختلف في المذاهب داخل الدين الإسلامي نفسه، فهناك من المشترك الذي ينبغي أن نقف معه وأن نفعله، وقديما اتفق علماء المقاصد أن ثاني المقاصد التي جاءت لأجلها الأديان والشرائع هي حفظ النفس البشرية، وهذه كامنة في الأدبيات الدينية، والأصل في المصائب والبلايا توحد المختلفين، وتظهر الصورة الواحدة التي ينبغي الالتفاتة إليها، واليوم نجد العديد من رموز الأديان مدركا لما يحدث من ظلم وقتل اتجاه الشعب الفلسطيني، فينبغي تعميق هذه الدائرة المشتركة بين الأديان جميعا، لما للدين من أثر في الاجتماع البشري، والذي به ينتج تدين الشعوب والمجتمعات.

كذلك لا معنى لما يثيره بعضهم من استعداء حكوماتهم، محاولا إثارة لغة العداء والكراهية المطلقة، وبعضهم يرمز إلى ثورات الخروج وتغيير الأنظمة، وكأن المسألة تحدث بضغطة زر لكي تغير الوضع في غزة، ونحن نعيش اليوم في عالم معقد، لو كان هؤلاء مكانهم لعملوا مثلهم؛ لأن العالم اليوم يحمل في طياته من الأسلحة القاتلة للبشر، فليس من العقل اقتباس حوادث تأريخية، لا تتجاوز أسلحتها السيوف والنبال، فمثل هذه الخطابات المطلقة في الاستعداء هو في صالح الكيان المحتل، فمن صالحها أن يتحول الصراع إلى هذه البلدان، فيتهيأ لها الجو في الإبادة والدمار.

بيد أنه ينبغي أيضا أن يكون من هذه الحكومات وقفة جادة، بعيدا عن البيانات والتنديدات الخجولة، إلى وقفة واحدة، تدفع بهذا الشعب في تمكين حقوقه وإنسانيته، وحفظ دمه ونفسه وماله وعرضه، كما ينبغي مراعاة هذه الحالة الإنسانية الطارئة، بعيدا عن استعداء الآخر، وإظهار البهرجة والاحتفالات المبالغ فيها، فنحن أمة واحدة، لنا مشاعر وأحاسيس كباقي البشر، وقوتنا تنطلق من ذاتنا الموَحدة لا المتفرقة.

ما أرجوه اليوم وغدا، وحول سؤال ماذا بعد، هو استغلال هذه الالتفاتة الإنسانية العالمية حول القضية الفلسطينية من قبل الشعوب والمؤسسات، والعديد من الحكومات والرموز السياسية والدينية والمعرفية والثقافية، فهي حالة متقدمة جدا لصالح هذه القضية، وغيرها من القضايا الإنسانية، حيث اجتمعت الشعوب اليوم على ضرورة الالتفاتة إلى هذا الشعب، وقضيته الإنسانية العادلة والمشروعة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العالم أجمع فی العالم العدید من إلا أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

نفقات الشؤون الدينية تتجاوز ميزانية نهاية العام

أنقرة (زمان التركية) – سجلت مصروفات الشؤون الدينية التركية لعام 2023، زيادة تجاوزت بها ميزانية العام الماضي البالغة 36.1 مليار ليرة، حيث سجلت نفقاتها 47.9 مليار ليرة.

ووفقًا لتقرير النشاط العام لرئاسة الاستراتيجية والميزانية، ارتفع عدد اجتماعات الشورى والمؤتمرات وحلقات النقاش والندوات والندوات والتشاور لهيئة الشؤون الدينية التي كانت 30 ألفًا و833 اجتماعًا في عام 2022، مقارنة بعام 2021 وبلغ 41 ألفًا و892 اجتماعًا.

وكان هذا العدد أعلى بكثير من العدد المستهدف البالغ 30 ألفًا، بالإضافة إلى ذلك، ارتفع عدد المواطنين الذين حضروا دورات القرآن الكريم من 3.8 مليون مواطن في عام 2021 إلى 4.9 مليون في عام 2022.

من ناحية أخرى، بينما ارتفعت مخصصات الخدمات الثقافية والدينية من 64.8 مليار ليرة إلى 99.6 مليار ليرة، كما لفت الانتباه حجم النفقات التي تم إنفاقها في هذا المجال. ومع ذلك، يذكر التقرير أن معدلات الرضا في خدمات العدالة وحقوق الإنسان قد انخفضت.

وبينما كان معدل الرضا في خدمات العدالة 59.50% في عام 2022، انخفض إلى 58.60% في عام 2023. وبلغ معدل الطلبات التي تم الانتهاء منها في الوقت المناسب في مجال حقوق الإنسان 86%.

بالإضافة إلى ذلك، في مجال مكافحة الاقتصاد غير الرسمي، ارتفع معدل الزيادة في التفتيش من 5.70 في المائة في عام 2021 إلى 206.30 في المائة في عام 2022، لكنه سجل -57.71 في المائة في عام 2023.

Tags: الشئون الدينية التركيةتركياميزانية الشئون الدينية

مقالات مشابهة

  • شيخ الأزهر: الإسلام له تجارِبُ تاريخيَّةٌ معلومة في تجاورِ الحضارات وتعدُّد الأديان
  • جلسة حوارية تناقش القيم الفكرية والأدبية لفلسطين
  • تجديد حبس سيدة بورسعيد المتهمة بتخدير ابنها 15 يومًا على ذمة القضية
  • مخرج فلسطيني: لم يعد ممكنا الحديث عن فلسطين في هوليوود بعد 7 أكتوبر
  • لدواع أمنية.. سلطات الإفتاء في داغستان تحظر النقاب مؤقتا
  • نادي الأسير: الاحتلال الإسرائيلي اعتقل 20 فلسطينيًا بالضفة الغربية
  • الاحتلال يعتقل 7 مواطنين جنوب الضفة الغربية اليوم
  • الشلف: رعية كندي يشهر إسلامه بمقر مديرية الشؤون الدينية
  • إصابة فلسطينيين اثنين واعتقال آخر بالضفة الغربية
  • نفقات الشؤون الدينية تتجاوز ميزانية نهاية العام