كانت قصيدة (حمزة) للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917-2003) من القصائد الأولى التي مرّت على ذاكرتي في الصغر، كنتُ أتغنّى بها وبنغمها الموسيقي، وبقصّتها المؤثرة التي رسمت لوحتها شاعرة كبيرة. ورغم أنني لم أكن متبصّرا بدقة في ذلك الوقت للمعاني العميقة التي كانت ترمي إليها فدوى طوقان، فإني كنت أستمتع بقراءتها لسهولة جرسها الموسيقي وللوقوف على قصتها كونها تحيل على حادثة إنسانية مؤلمة.

ومع الأحداث التي تعيشها الأمة حاليا في غزة، عُدت إلى نصوص عدة من الشعر الفلسطيني واقفا على المفردات التي تُعبّر عن القضية الفلسطينية ومقاومة المحتل. وعندما قرأت قصيدة (حمزة) في كتاب (مختارات من الشعر الفلسطيني) استرجعتُ القصيدة، ربما كانت نائمة في الذاكرة وحان الوقت لإيقاظها. عُدتُ أيضا إلى (الأعمال الشعرية الكاملة) لفدوى طوقان باحثا عن قصيدة (حمزة) لعلني أجد فيها لفظا مختلفا أو زيادة على الأقل تُرضي فضولي المتمثل في الجمع بين النصوص من مصادر مختلفة.

قصيدة (حمزة) كانت صادرة ضمن ديوان (الليل والفرسان) عام 1969م، وقد جاء محمّلا بلغة الغضب والرفض للاحتلال الذي كانت سياسته تنهش في جسد الوطن المحتل، كما جاء دالّا لما نادى به الأديب غسان كنفاني أو ما أطلق عليه بأدب المقاومة الفلسطينية، الأدب الصارخ بكل قوة في وجه الاحتلال. هنا نجد قصائد فدوى في هذا الديوان محمّلة بروح الرفض للكيان الغاشم المغتصب للأرض.

لعلّنا إذا قرأنا قصيدة (حمزة) سندرك من مضمراتها ما كانت ترمي إليه الشاعرة في تعبيرها الشعري. سيدرك القارئ للقصيدة أنه أمام نص شعري يشتغل على أدوات السرد في إيصال فكرته إليه. تبدأ القصيدة بسرد قصّة الشخصية/ حمزة ابن القرية، الطيب، البسيط، كما هو حال جميع أبناء القرية:

كان حمزةْ

واحدًا من بلدتي كالآخرين

طيّبًا يأكل خبزهْ

بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين.

تُقدّم فدوى طوقان قصيدتها بالاتكاء على العنصر القصصي الذي ترى فيه أسلوبا مهما في وصف الشخصيات، وإظهار ما في باطنها، والتعبير بلسانها عن المضمرات الداخلية؛ ومن خلال الوصف الظاهر تقدّم القصيدةُ حمزةَ بأنه شخصية: طيبة، وبسيطة، وكادحة، لكنّ الحوار يتداخل مانحا الشخصية قوة أكثر في الرأي، وصلابة في مواجهة الآخر/المحتل؛ فحمزة هنا له رأي يقدّمه للآخر/ ابن الأرض.

هنا تتحرك القصيدة في إطارها الشعري من زاوية الثورة ضد المحتل، ورفض الاحتلال، ومحاولة إظهار الأحقية بالمكان، لتتغير مفردات التعبير الشعري، وتتصاعد لغة الخطاب الثائر والمحتجّ، فتتشكّل المقاطع الشعرية التالية للمقطع أعلاه من الأفعال الدالة على إيقاظ الهمم. يدّلنا الحوار الآتي على حجم الألم الذي يتخفى في النفس البشرية، وعلى الصمود وعدم الرضوخ:

قال لي حين التقينا ذات يومٍ

وأنا أخبط في تيه الهزيمهْ:

اصمدي، لا تضعفي يا ابنة عمي

هذه الأرض التي تحصدها

نار الجريمةْ

والتي تنكمش اليوم بحزنٍ وسكوتْ

هذه الأرض سيبقى

قلبها المغدور حيًّا لا يموتْ

***

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام

سر الخصب واحد

قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلًا

وسنابل

تُنبتُ الشعب المقاتلْ

يقوم المقطع السابق على استخلاص فعل المواجهة والثبات من الدلالات الثنائية، إنها دلالات قادرة على إحداث قيمة محورية وحدثٍ رئيسٍ يتشكّل منه البناء السردي للقصيدة. إنّ ثنائيات: الهزيمة والجريمة، الصمود والضعف، الحزن والسكوت، الحياة والموت، الأرض والمرأة، الأخاديد والأرحام، الخصب والإنبات، النخل والسنابل والشعب المقاتل كلها ثنائيات أظهرت الرغبة الداخلية للثائر الرافض للذل، كما أظهرت الرغبة في التحرر من الخوف، وكسر القيود، لتظل هذه الأرض تُنبتُ المقاتلين المتطلّعين إلى الحرية، والعودة إلى الأرض والدار.

تستكمل القصيدة بناءها السردي، مُحاوِلَةً بشيء من الانتقال الزمني إلى الأمام طيَّ صفحاتٍ طويلةٍ من الذاكرة (دارت الأيام لم ألتقِ فيها بابن عمي...)، وتتحرك القصيدة زمنيا وفق خط سردي بسيط لكنه معبّر شعريًّا عن الحدث الذي تتضمنه القصة الشعرية مُشكّلةً حدثًا جديدًا أو أحداثًا متتالية في عملية البناء، وتحاول القصيدة من خلال انتقالات الزمن ووصف الشخصية أن تُظهر دلالتين للشخصية:

الدلالة الأولى: تتمثّل في تقدُّم الشخصية في العمر، وعليه فإنها شخصية مسكونة بانهزامات الماضي، وجراح الحاضر، هذا ما تُظهره الدلالات للقارئ منذ الوهلة الأولى لعبارة: (كانت الخمسة والستُّون عامْ، صخرةً صمّاءَ تستوطن ظهرهْ)، إنها جملة مفتاحية، وتعبير زمني يُضمر في داخله سمات الضعف المترسبة في جسد الإنسان نتيجة السنوات والصعاب التي مرّت عليه:

دارت الأيام لم ألتق فيها

بابن عمّي

غير أنّي كنتُ أدري

أَنَّ بطن الأرض تعلو وتميدْ

بمخاضٍ وبميلادٍ جديدْ

***

كانت الخمسة والستُّون عامْ

صخرةً صمّاءَ تستوطن ظهرهْ

حين ألقى حاكمُ البلدة أمرهْ:

(انسفوا الدار وشدّوا

ابنه في غرفة التعذيب!) ألقى

حاكم البلدة أمرهْ

ثم قام

يتغنّى بمعاني الحبّ والأمنِ

وإحلال السلام!

***

طوَّق الجندُ حواشي الدار

والأفعى تلوَّتْ

وأتمّت ببراعهْ

اكتمال الدائرهْ

وتعالت طرقاتٌ آمرهْ:

(اتركوا الدار)! وجادوا بعطاء

ساعة أو بعض ساعهْ.

الدلالة الثانية: وهي تبديد الإيهام المتشكّل في ذهن القارئ من العبارة أعلاه، إن الخمسة والستين عاما لم تكن دالة على الضعف والسقوط والذل، إنها عبارة موهمة بذلك، فصاحب الأرض لا يسقط وإنْ طال عليه الزمن. إنّ شخصية حمزة تكتسب من الزمن قوة وصلابة، وهنا تُعيد القصيدة بناء الشخصية من جديد، إنها شخصية متطورة، تتفاعل مع كل حدث، وتنمو بنمو الأحداث:

فتّح الشرفات حمزةْ

تحت عين الجند للشمس وكبّر

ثم نادى:

(يا فلسطين اطمئني

أنا والدار وأولادي قرابين خلاصكْ

نحن من أجلك نحيا ونموت)

وسرت في عصب البلدة هزَّةْ

حينما ردَّ الصدى صرخة حمزةْ

وطوى الدارَ خشوعٌ وسكوت

***

ساعةٌ، وارتفعت ثم هوت

غرفُ الدار الشهيدةْ

وانحنى فيها ركام الحجرات

يحضنُ الأحلام والدفء الذي كان

ويطوي

في ثناياه حصاد العمر، ذكرى

سنوات

عمرت بالكدح، بالإصرار بالدمعِ

بضحكات سعيدةْ.

إنّ للأرض قيمة محورية في قصيدة فدوى طوقان، فلقد استطاعت أن توسّع من مساحة التأمل الشعري، وإقامة علاقة ارتباط هوياتي بالمكان، فغرف الدار، والحجرات، والأرض ليست أمكنة من حجر أو تراب، إنها هُوية وانتماء، إنها عقيدة وثبات، هذا ما أرادت القصيدة ترسيخه في الذات القارئة، وما أرادت إيصاله للمتلقي.

إنّ حمزة هو صورة للثائر، والمقاوم، والرافض لكل أشكال الذل، إنه صورة متشكّلة من رفض الآخر/ المحتل، المغتصب للأرض، لذا كان الخطاب الشعري انعكاسا للواقع السياسي، وتعبيرا عن أشكال المقاومة والثورة.

تعود شخصية حمزة للنمو من جديد في آخر القصيدة. إنّ حمزة هي الصورة التي تحاول فدوى طوقان أن تشق من خلالها طريق العودة، هي الكلمة والمقاومة. لقد استطاعت أن تُشكّل سمات لهذه الشخصية: السكون والبساطة، والإيهام بالسقوط، ثم الوقوف والثبات، ثم العزة والتمكين:

أمس أبصرتُ ابنَ عمي في الطريقْ

يدفَعُ الخطو على الدرب بعزمٍ ويقينْ!

لم يزل حمزَةُ مرفوعَ الجبينْ

لعل القارئ لقصيدة حمزة يدرك أن الأسلوب القصصي الذي لجأت إليه فدوى طوقان قادر على التعبير عن القضية الفلسطينية، وعلى إعادة تشكيل رؤية فنية للمقاومة الأدبية، إنها تؤثر في المتلقي نتيجة الانفعالات المتشكلة من جراحات الذات، كما أنها تبني قيما ثقافية نابعة من السلوك الإنساني والهوية والانتماء إلى المكان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

القصيدة الشعبية الإماراتية.. شواهد من بديع الصورة

محمد عبدالسميع

أخبار ذات صلة سرور بن محمد يزور الأرشيف والمكتبة الوطنية 24 ألف درهم لمشترٍ تعويضاً عن الأضرار المادية

من الرائع والجميل أن يتوفر لدينا أرشيفٌ مهمٌّ وغنيٌّ للأغنية الشعبية الإماراتية، ليكون هذا الأرشيف أرضاً خصبة لأكثر من قراءة، في المواضيع والأفكار، وفي جماليات الكتابة والصُّور الفنية والبحور الشعرية المستخدمة في هذه الأغنية. فلقد ألقى البحر بظلاله، كما نعلم، على المشتغلين بهذا البحر، والعارفين به وبأسراره، الذين كانوا يرمون همومهم على أطرافه، ويرون في أمواجه صخباً نفسياً وهموماً عاطفيةً لا يطفئها إلا الحوار الشعري مع هذا البحر، والأمثلة على ذلك كثيرة، وربما من وجهة نظر شخصية، فإنّ سكان الساحل أو القريبين منه تأثروا برونقِهِ وصخبهِ وهدوئه وأعماله وما يقال من أشعار مغناةٍ فيه، ويمكن أن نتخيّر منها ما يروق لقارئ هذه السطور، فينتبه إلى جمال الصياغة وخفة البحر المغنَّى وسرعته في التعبير النفسي العاطفي، وروعة الصورة الشعرية كذلك، إضافةً إلى الموضوع بطبيعة الحال الذي تؤديه أو تحمله الأغنية، وتعمل على إشهاره والنهوض به.
وكان الحنين والشوق والتصبّر أمام الفراق غرضاً يكاد يكون طاغياً في الأغنية الشعبية، أغنية البحر، إذ تشتمل الأبيات السريعة المرتجلة على أكثر من فكرةٍ مساندةٍ في الحكمة والموعظة وحُلم ما سيأتي من مستقبلٍ للقاء الأحبّة والاجتماع بهم. ولأنّ الأغنية بُنيت على الشعر أساساً، فإنّ ما في أيدينا من أشعار وكلمات تؤكّد هذا المعنى، معنى التخصص أو البراعة في إجادة وصياغة هذه الكلمات، حين تكون «الحواجب سهماً مسلولاً»، وحين يكون «الدرُّ»، و«اللؤلؤ» من متعلقات الغزل بالمحبوب، كما في أبيات الشاعر الإماراتي أحمد الهاملي: «بوخد براق اترسّل/ فيه الحواجب سهم مسلول/ بومضحك ياضي ويشعل/ به در به لولو به اعسول»، كما تظهر المعاناة لدى الشاعر خلفان بن يدعوه في بعده عن الحبيب، وذلك أصعب لديه من الغوص و«غرز الغبيب»، كنوع من المقارنة بين الحالتين.

اقرأ أيضاً:
الأغنية الشعبية الإماراتية.. وتشكيل السرد
أدباء وفنانون: الأغنية الشعبية إبداع عابر للفنون

غناء النّهامين
وتقول الأشعار التي جمعها المؤرخون والمهتمون ما هو رائعٌ من البوح، وتنطق بكلّ هذه العاطفة الغنية والصادقة التي توارثها الناس ورددوها وانتبه إليها المغنّون، بل لقد حضرت «النّهمة» ورجالها النّهامون الذين أبدعوا في الغناء المرتبط برحلة الغوص، ومعنى «النهمة» إثارة الحماس بين العاملين، ومن هذه المقطوعات المبهرة أنهم يصفون المشهد ويتأوهون لـ«صافي الخد» في يومٍ أطبق بسواده النفسي عليهم وهم في عملهم هذا بعيدون عن الديار: «يوم رقّ الليل واسودّي/ يا همومٍ بتّ اجاسيها/ بتّ اجاسي صافي الخدّ/ دمعتي م الموق ياريها»،.. وهكذا، فهم يعاينون «الشرتا» (الريح)، واجدين فيها كلّ ذكرى أو خبر أو حنين إلى من يحبّون ومن تركوا قلوبهم رهينة في أيديهم حتى يعودوا من هذه الرحلة الطويلة والشاقة وغير مضمونة المخاطر: «شرتا لفح من برّه/ ياني مبرد هواه/ هيا اعيلوا باليرّه/ حتى نوصل جداه/ بو قصةٍ مسمرّه/ لي بالطيب محشاه». 

السفينة والشراع
ولقد كان الشراع حاضراً أيضاً، كعنصر مما يرون من عناصر في رحلة البحر، بل إنّ السفينة الضّامة لكلّ هذه العناصر والأجزاء كانت حاضرةً جزءاً أو كلاًّ، كما في قولهم: «يا ذا الشراع الداير/ عد لا يزيت بخير/ ذكّرت قلبٍ صابر/ وانوي على المسير»، حيث «يزيت: جزيت»، فمن ناحية جمالية يأسرنا التعبير بنداء الشارع الدائر وأنسنة هذا الشراع، واستذكار الأحبة، وطلب العودة، والمكاشفة بهموم العشاق.
وكأيّ رحلة صعبة، لابد أن يرافق البحارة دعاؤهم وتوكّلهم على من يسيّر أمورهم، ويرعاهم حتى يعودوا للديار، وفي هذا، فإنّ المقطوعات كثيرة في التوكّل على الله العليم بحال الشعراء والعاملين في البحر.
بل إنّ البحّارة لا يأمنون البحر كثيراً، ويخافون من غدره وينادونه، ويستحلفونه بالله ألا يغدر، فقد أمات كثيراً من الناس، وهذا دليلٌ على فجيعة الناس وذاكرتهم الطويلة مع هذا البحر، ويكفي أن تكون هذه المقطوعة المغنّاة دالة على هذا الخوف والرجاء، حيث النداء: «توب توب يا بحر/ ما تخاف من الله يا بحر/ موتت الناس يا بحر»، فالبحر على هذا ليس شفيفاً دائماً أو رومانسيّاً، بل هو على خوفٍ وعدم اطمئنان، فهم ينادونه بالتوبة والرجوع عن خطف الأحبّة والسفر بهم إلى المجهول.

الونّة والتغرودة 
وإذا كان البحر جمع حناجر وكلمات رائعة في أغراض ألِفَها الناس والمشتغلون بالبحر، فإنّ القصائد البدوية أيضاً لم تكن لتخلو من الغناء، فلها هي الأخرى أغراضها وطبيعتها وموسيقاها، حيث نجد الونّة والتغرودة والردح، كما أنّ الغناء أيضاً ارتبط بحياة الناس وأعراسهم ومناسباتهم، بل لقد ارتبط الغناء في المناطق الزراعية بالمواسم والحصاد وحياة الناس، وهو ما يدلّ على تنوّع البيئة الإماراتية وتنوّع طرق التعبير الغنائية عن هذه البيئة. ومن أغاني الإمارات القديمة التي يشير لها الباحثون قصيدة الشاعر راشد الخضر التي يقال إنّ عمرها 80 عاماً، وجاءت بعنوان «دنق»، حيث برزت فيها، كقصيدة مغناة، روعة الرومانسية الشعرية في الشمس التي تشرق من محيّا المحبوب، وونة الشاعر تجاه هذا الحبّ، حيث يقول الشاعر: «دنق ودنق قلبي وياه/ فزّ وقعد قلبي محله/ الشمس تشرق من محياه/ وبدور وبروق وأهله/ أخضع واحازي به محازاه/ واقوم بالمايوب كله/ غالي واداري له مداراه/ تعبان قلبي في حوىً له/ أصاصره لو ما احد حذاه/ واغض صوتي خاضعٍ له/ جسمي نحيل وونتي آه/ والدمع كم عيني تهلّه..».

رسائل المحبين
كما ترد في الأغنية الشعبية الإماراتية رسائل المحبين، وعتابهم لمن قطعوهم في الوصل، فما من «كلمة» وما من «مرسال» أو «هاتف»، أمّا الوشاة والعذال، فقد كانوا حاضرين في هذه القصائد ويعملون دون التقاء المحبين وصفاء أحوالهم، كما تقول كلمات هذه القصيدة المغناة تحت عنوان «نسيتونا حبايبنا»: «نسيتونا حبايبنا/ تركتونا وشغلتوا البال/ قطعتوا وصالكم عنا/ ولا كلمه ولا مرسال/ ولا هاتف يطمّنا/ ولا نظرة تريح البال».
وعودةً إلى روعة كلمات النهّامين وهم يصفون لواعج النار في قلوبهم، كنار لا تنطفئ أبداً، حيث يقول النهّام: «نار في قلبي مواريه/ البحر ما اظنّ يطفيها/ تشتعل في لبّة حشايا/ كوس والغربي يزاغيها»، وقوله: «هب وابرد يا هوى الكوسي/ هات لي من الصاحب بشاره/ لي خويٍّ ساير الغوصي/ على هيرٍ زين محّاره».

أغاني الطفولة
لأنّ الأمثلة كثيرةٌ والروعة تتجدد دائماً في كلّ أغنية بحر أو شكوى من هجر، فإنّ للطفولة أيضاً حضوراً في الأغنية الشعبية الإماراتية، إذ نرى فيها هدفاً قصصياً وأدبياً في الحكاية المبنية على سرعة الإيقاع في الموسيقى وتنوّع القوافي في بعضها، كقولهم من التراث: «يمي وعيني غبشه/ بلقط نخل خلفان/ بسوي لي ضميده/ بطرشها عيمان/ عيمان ما تستاهل/ تستاهل غرفة بيضة/ مليوصة بزعفران/ الزعفران المري/ على الخدود ارضوف/ يا الغرفة الشرجية/ بناج ابو علي/ حق عيشة البدوية/ بنت محمد علي/ أبا عندها شفية/ في نيره ولا جني/ والحنا بتحنابه/ والعود الصندلي»،.. وهكذا، فإنّ الحكاية تُعدُّ عنصراً أساسياً في أغنية الطفل الشعبية في الإمارات، كما أنّ العلاقة الحميمة بين الطفل الناطق في هذه الكلمات والمخاطب تبدو علاقةً رائعةً وجميلةً وصادقةً، كما في قولهم: «عمتي مرت ابويا/ يوم يابولي هديه/ دستها في الزويه/ تحسبني طلابه/ اطلب على البيبان/ ما كان ابويا تاجر/ يصوغ لي الدلالي/ دلالي باربع إميه/ ومعلقه في الخيده/ جنّي من بنات هلال».

التشويق والانتقال
في أغنية «حمامه نودي نودي»، وصف لجمال الرحلة إلى مكة: «حمامه نودي نودي: سلمي على سعودي/ سعودي سار مكه/ إيّب ثياب عكه/ احطه بصنيديقي/ صنيديقي ماله مفتاح/ والمفتاح عند الحداد/ والحداد يبغي فلوس/ والفلوس عند العروس/ والعروس تبغي عيال/ والعيال يبغون حليب/ والحليب عند البقر/ والبقر يبغون حشيش/ والحشيش يبغي مطر/ والمطر عند الله/ لا إله إلا الله/ محمد رسول الله».
فهذه المقطوعة المسبوكة بعناية التشويق والانتقال بالسببية من مجال إلى مجال آخر، تفتح ذهن الطفل ووجدانه على الأشياء والسَّفر ومتعلقات هذا الانتقال، ثم الختام بأجمل هدف تربوي هو الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الله، وبالطبع فإنّ أغنية الطفل لها مجالات عديدة في الأعياد والمناسبات المختلفة وروعة عالم الطفولة والحكايات وطلب الهدايا، وفي مواضيع رائعة وعديدة تستحقّ الدراسة، من أكثر من منظور.

مقالات مشابهة

  • أستاذ عمارة ينصح بالعودة للتصميمات القديمة للبيوت وتغيير طرق البناء لمواجهة الحر
  • القصيدة الشعبية الإماراتية.. شواهد من بديع الصورة
  • تجليات الأغنية الشعبية الإماراتية
  • سرايا القدس: عدد من الأسرى الإسرائيليين أقدموا على محاولة الانتحار
  • أصوات فلسطينية: البيت الفلسطيني يحتاج قيادة جديدة تحمي الأرض والشعب
  • حتى لا ننسى غزة
  • هجوم يمني على هدف حيوي في حيفا بدولة الاحتلال
  • خاطفة طفل السوبر ماركت في مرمى انتقادات الجمهور رغم براءتها
  • حماس فكرة أم حقيقة صلبة على الأرض؟
  • ومضات سردية : 30 يونيو ترياق مجزرة الإعتصام