قصيدة «حمزة» لفدوى طوقان: سردية البناء وشعرية المقاومة
تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT
كانت قصيدة (حمزة) للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917-2003) من القصائد الأولى التي مرّت على ذاكرتي في الصغر، كنتُ أتغنّى بها وبنغمها الموسيقي، وبقصّتها المؤثرة التي رسمت لوحتها شاعرة كبيرة. ورغم أنني لم أكن متبصّرا بدقة في ذلك الوقت للمعاني العميقة التي كانت ترمي إليها فدوى طوقان، فإني كنت أستمتع بقراءتها لسهولة جرسها الموسيقي وللوقوف على قصتها كونها تحيل على حادثة إنسانية مؤلمة.
ومع الأحداث التي تعيشها الأمة حاليا في غزة، عُدت إلى نصوص عدة من الشعر الفلسطيني واقفا على المفردات التي تُعبّر عن القضية الفلسطينية ومقاومة المحتل. وعندما قرأت قصيدة (حمزة) في كتاب (مختارات من الشعر الفلسطيني) استرجعتُ القصيدة، ربما كانت نائمة في الذاكرة وحان الوقت لإيقاظها. عُدتُ أيضا إلى (الأعمال الشعرية الكاملة) لفدوى طوقان باحثا عن قصيدة (حمزة) لعلني أجد فيها لفظا مختلفا أو زيادة على الأقل تُرضي فضولي المتمثل في الجمع بين النصوص من مصادر مختلفة.
قصيدة (حمزة) كانت صادرة ضمن ديوان (الليل والفرسان) عام 1969م، وقد جاء محمّلا بلغة الغضب والرفض للاحتلال الذي كانت سياسته تنهش في جسد الوطن المحتل، كما جاء دالّا لما نادى به الأديب غسان كنفاني أو ما أطلق عليه بأدب المقاومة الفلسطينية، الأدب الصارخ بكل قوة في وجه الاحتلال. هنا نجد قصائد فدوى في هذا الديوان محمّلة بروح الرفض للكيان الغاشم المغتصب للأرض.
لعلّنا إذا قرأنا قصيدة (حمزة) سندرك من مضمراتها ما كانت ترمي إليه الشاعرة في تعبيرها الشعري. سيدرك القارئ للقصيدة أنه أمام نص شعري يشتغل على أدوات السرد في إيصال فكرته إليه. تبدأ القصيدة بسرد قصّة الشخصية/ حمزة ابن القرية، الطيب، البسيط، كما هو حال جميع أبناء القرية:
كان حمزةْ
واحدًا من بلدتي كالآخرين
طيّبًا يأكل خبزهْ
بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين.
تُقدّم فدوى طوقان قصيدتها بالاتكاء على العنصر القصصي الذي ترى فيه أسلوبا مهما في وصف الشخصيات، وإظهار ما في باطنها، والتعبير بلسانها عن المضمرات الداخلية؛ ومن خلال الوصف الظاهر تقدّم القصيدةُ حمزةَ بأنه شخصية: طيبة، وبسيطة، وكادحة، لكنّ الحوار يتداخل مانحا الشخصية قوة أكثر في الرأي، وصلابة في مواجهة الآخر/المحتل؛ فحمزة هنا له رأي يقدّمه للآخر/ ابن الأرض.
هنا تتحرك القصيدة في إطارها الشعري من زاوية الثورة ضد المحتل، ورفض الاحتلال، ومحاولة إظهار الأحقية بالمكان، لتتغير مفردات التعبير الشعري، وتتصاعد لغة الخطاب الثائر والمحتجّ، فتتشكّل المقاطع الشعرية التالية للمقطع أعلاه من الأفعال الدالة على إيقاظ الهمم. يدّلنا الحوار الآتي على حجم الألم الذي يتخفى في النفس البشرية، وعلى الصمود وعدم الرضوخ:
قال لي حين التقينا ذات يومٍ
وأنا أخبط في تيه الهزيمهْ:
اصمدي، لا تضعفي يا ابنة عمي
هذه الأرض التي تحصدها
نار الجريمةْ
والتي تنكمش اليوم بحزنٍ وسكوتْ
هذه الأرض سيبقى
قلبها المغدور حيًّا لا يموتْ
***
هذه الأرض امرأة
في الأخاديد وفي الأرحام
سر الخصب واحد
قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلًا
وسنابل
تُنبتُ الشعب المقاتلْ
يقوم المقطع السابق على استخلاص فعل المواجهة والثبات من الدلالات الثنائية، إنها دلالات قادرة على إحداث قيمة محورية وحدثٍ رئيسٍ يتشكّل منه البناء السردي للقصيدة. إنّ ثنائيات: الهزيمة والجريمة، الصمود والضعف، الحزن والسكوت، الحياة والموت، الأرض والمرأة، الأخاديد والأرحام، الخصب والإنبات، النخل والسنابل والشعب المقاتل كلها ثنائيات أظهرت الرغبة الداخلية للثائر الرافض للذل، كما أظهرت الرغبة في التحرر من الخوف، وكسر القيود، لتظل هذه الأرض تُنبتُ المقاتلين المتطلّعين إلى الحرية، والعودة إلى الأرض والدار.
تستكمل القصيدة بناءها السردي، مُحاوِلَةً بشيء من الانتقال الزمني إلى الأمام طيَّ صفحاتٍ طويلةٍ من الذاكرة (دارت الأيام لم ألتقِ فيها بابن عمي...)، وتتحرك القصيدة زمنيا وفق خط سردي بسيط لكنه معبّر شعريًّا عن الحدث الذي تتضمنه القصة الشعرية مُشكّلةً حدثًا جديدًا أو أحداثًا متتالية في عملية البناء، وتحاول القصيدة من خلال انتقالات الزمن ووصف الشخصية أن تُظهر دلالتين للشخصية:
الدلالة الأولى: تتمثّل في تقدُّم الشخصية في العمر، وعليه فإنها شخصية مسكونة بانهزامات الماضي، وجراح الحاضر، هذا ما تُظهره الدلالات للقارئ منذ الوهلة الأولى لعبارة: (كانت الخمسة والستُّون عامْ، صخرةً صمّاءَ تستوطن ظهرهْ)، إنها جملة مفتاحية، وتعبير زمني يُضمر في داخله سمات الضعف المترسبة في جسد الإنسان نتيجة السنوات والصعاب التي مرّت عليه:
دارت الأيام لم ألتق فيها
بابن عمّي
غير أنّي كنتُ أدري
أَنَّ بطن الأرض تعلو وتميدْ
بمخاضٍ وبميلادٍ جديدْ
***
كانت الخمسة والستُّون عامْ
صخرةً صمّاءَ تستوطن ظهرهْ
حين ألقى حاكمُ البلدة أمرهْ:
(انسفوا الدار وشدّوا
ابنه في غرفة التعذيب!) ألقى
حاكم البلدة أمرهْ
ثم قام
يتغنّى بمعاني الحبّ والأمنِ
وإحلال السلام!
***
طوَّق الجندُ حواشي الدار
والأفعى تلوَّتْ
وأتمّت ببراعهْ
اكتمال الدائرهْ
وتعالت طرقاتٌ آمرهْ:
(اتركوا الدار)! وجادوا بعطاء
ساعة أو بعض ساعهْ.
الدلالة الثانية: وهي تبديد الإيهام المتشكّل في ذهن القارئ من العبارة أعلاه، إن الخمسة والستين عاما لم تكن دالة على الضعف والسقوط والذل، إنها عبارة موهمة بذلك، فصاحب الأرض لا يسقط وإنْ طال عليه الزمن. إنّ شخصية حمزة تكتسب من الزمن قوة وصلابة، وهنا تُعيد القصيدة بناء الشخصية من جديد، إنها شخصية متطورة، تتفاعل مع كل حدث، وتنمو بنمو الأحداث:
فتّح الشرفات حمزةْ
تحت عين الجند للشمس وكبّر
ثم نادى:
(يا فلسطين اطمئني
أنا والدار وأولادي قرابين خلاصكْ
نحن من أجلك نحيا ونموت)
وسرت في عصب البلدة هزَّةْ
حينما ردَّ الصدى صرخة حمزةْ
وطوى الدارَ خشوعٌ وسكوت
***
ساعةٌ، وارتفعت ثم هوت
غرفُ الدار الشهيدةْ
وانحنى فيها ركام الحجرات
يحضنُ الأحلام والدفء الذي كان
ويطوي
في ثناياه حصاد العمر، ذكرى
سنوات
عمرت بالكدح، بالإصرار بالدمعِ
بضحكات سعيدةْ.
إنّ للأرض قيمة محورية في قصيدة فدوى طوقان، فلقد استطاعت أن توسّع من مساحة التأمل الشعري، وإقامة علاقة ارتباط هوياتي بالمكان، فغرف الدار، والحجرات، والأرض ليست أمكنة من حجر أو تراب، إنها هُوية وانتماء، إنها عقيدة وثبات، هذا ما أرادت القصيدة ترسيخه في الذات القارئة، وما أرادت إيصاله للمتلقي.
إنّ حمزة هو صورة للثائر، والمقاوم، والرافض لكل أشكال الذل، إنه صورة متشكّلة من رفض الآخر/ المحتل، المغتصب للأرض، لذا كان الخطاب الشعري انعكاسا للواقع السياسي، وتعبيرا عن أشكال المقاومة والثورة.
تعود شخصية حمزة للنمو من جديد في آخر القصيدة. إنّ حمزة هي الصورة التي تحاول فدوى طوقان أن تشق من خلالها طريق العودة، هي الكلمة والمقاومة. لقد استطاعت أن تُشكّل سمات لهذه الشخصية: السكون والبساطة، والإيهام بالسقوط، ثم الوقوف والثبات، ثم العزة والتمكين:
أمس أبصرتُ ابنَ عمي في الطريقْ
يدفَعُ الخطو على الدرب بعزمٍ ويقينْ!
لم يزل حمزَةُ مرفوعَ الجبينْ
لعل القارئ لقصيدة حمزة يدرك أن الأسلوب القصصي الذي لجأت إليه فدوى طوقان قادر على التعبير عن القضية الفلسطينية، وعلى إعادة تشكيل رؤية فنية للمقاومة الأدبية، إنها تؤثر في المتلقي نتيجة الانفعالات المتشكلة من جراحات الذات، كما أنها تبني قيما ثقافية نابعة من السلوك الإنساني والهوية والانتماء إلى المكان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | ضي رحمي.. أن تترجم لتكون القصيدة قلبك الآخر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في عالمٍ تُستنزف فيه الكلمات كما تُستنزف الأعمار، تبدو الترجمة أحيانًا فعلًا باردًا، مجرّد جسر صامت بين لغتين. لكن حين تمر القصائد من بين يدي ضي رحمي، تصبح الترجمة طقسًا شعريًا قائمًا بذاته، كأن النص الأصلي لم يوجد إلا ليُولد من جديد بلغتها. ليست ضي رحمي مترجمة تقف على الحياد بين الشاعر وقارئه العربي، بل هي عاشقة تختار قصائدها كما تختار روحٌ عاشقٌ مَن يهواه، بعين تمسّ، وقلب يُنصت، وضمير لا يُهادن.
ضي رحمي لا تضع نفسها في مصاف "المترجمين المحترفين". تصرّ، بتواضع متوهج، على أنها "مترجمة هاوية". وهذا في ذاته مفتاح لفهم صوتها الخاص: ليست ضي أسيرة قواعد النشر ولا شروط المؤسسات، بل أسيرة الدهشة وحدها. لا تترجم ما يُطلب منها، بل ما يطلبها. ما يمسّها كما لو أن القصيدة سُرّبت لها من حلم سابق.
في هذا المعنى، فإن ترجماتها ليست نقلًا من لغة إلى أخرى، بل استعادة. كأنّ ضي تعثر على قصيدة في لغتها الأم وقد كُتبت أصلًا بها، فتُعيدها إلى أهلها. ليس غريبًا إذًا أن تجد الكثيرين يظنون أن تلك الكلمات التي قرأوها لها هي شعر عربي خالص، لا ترجمة.
ليس من السهل أن تختار قصيدة لتترجمها. فالنصوص، كما الناس، تحمل أعمارًا وأقنعة وثقافات قد تنفر منها الروح أو لا تجد فيها ما يشبهها. غير أن ضي رحمي تمتلك حسًّا نادرًا في هذا الاختيار. تختار القصائد التي تنتمي إلى عوالم هشّة، إلى تلك الفجوات الدقيقة بين الحب والخسارة، الوحدة والحنين، الغضب والرقة. تنجذب إلى الشعراء الذين يكتبون كمن يربّت على كتف العالم: لانج لييف، نيكيتا جيل، رودي فرانسيسكو، وآخرون ممن يُقال عنهم شعراء المشاعر الدقيقة.
وتنجح ضي في أن تنقل هذه المشاعر لا باعتبارها معاني لغوية، بل باعتبارها أصداءً داخلية. فهي تعرف كيف تحفظ موسيقى النص، كيف تُبقي على رعشة الجملة، وعلى ذلك الفراغ النبيل الذي يتخلل بعض القصائد ويمنحها عمقًا لا يُفسَّر.
في ترجماتها، يظهر صوت أنثوي واضح، لكنه غير شعاري. لا تخوض ضي في قضايا النسوية من بوابة المباشرة، بل تفتح بابًا خلفيًا للقارئ كي يرى هشاشة النساء، غضبهن، صمتهن، توقهن للحب، وانهياراتهن الصغيرة، من دون أن تقول ذلك بصوت عالٍ. تترك اللغة تفعل ذلك.
في ترجمتها لقصيدة عن امرأة وحيدة تُحدّث ظلالها، لا يبدو أن ثمّة شيء يحدث سوى أن القارئ يشعر أنه هو تلك المرأة. هنا تتجلى قوة ضي: لا تسرد الشعر، بل تجعلك تعيش داخله، كأنك كنت دومًا هناك.
ضي لا تكتفي بالترجمة المكتوبة. على ساوند كلاود، نسمع بصوتها أو بصوت متعاونين معها ترجمات مسموعة لقصائدها المختارة. الصوت هنا ليس مجرد أداة قراءة، بل امتداد للقصيدة. نبرة الصوت، طريقة الوقف، وحتى الأنفاس الصغيرة بين السطور، كلها تشكّل طبقة إضافية من الترجمة، تجعل من القصيدة حدثًا سمعيًّا، لا قرائيًّا فقط.
هذه القدرة على المزج بين الكلمة والموسيقى الداخلية للصوت تجعل من ترجماتها لحظة حميمية، كما لو أنك جالس قبالة صديقة تخبرك شيئًا سريًّا عن العالم.
ما يعمق هذا البعد الإنساني في أعمال ضي هو أنها ليست فقط مترجمة، بل فاعلة في العمل الاجتماعي والإنساني. عملها من أجل ضحايا العنف يمنحها حساسية لا يمتلكها كثيرون. الترجمة هنا ليست فعل ترف ثقافي، بل امتداد للرغبة في فهم الألم الإنساني بكل لغاته. لذلك نجد في ترجماتها إصرارًا على منح الألم صوتًا ناعمًا، لا يصرخ، بل يشير بإصبعه إلى قلبك، ويصمت.
لو جاز لنا أن نكتب قصيدة عن ضي رحمي، لربما قلنا إنها تلك اليد التي تُمسك بالقصيدة المترجمة كما لو كانت دمًا طازجًا خرج لتوّه من الوريد. لا تضعه في قارورة محكمة، بل تتركه يسيل في اللغة العربية كأنه لم يكن غريبًا قط.
ربما ليست ضي مترجمة بالمعنى التقليدي، لكنها بالتأكيد شاعرة تتنكر في زي مترجمة. شاعرة لا تكتب القصيدة، بل تبحث عنها في لغات الآخرين، وتعيد كتابتها بلغة تشبه قلبها.