مقدمة الطبعة الثانية لكتاب الدولة السودانية: النشأة والخصائص
تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT
بقلم: تاج السر عثمان بابو
(1)
صدرت الطبعة الأولي من كتاب الدولة السودانية : النشأة والخصائص ، للمؤلف تاج السر عثمان الحاج عن الشركة العالمية للنشر 2008 ، وكان الهدف الوقوف علي التطور التاريخي للدولة السودانية بذهن مفتوح ، وبدون نظريات مسبقة ، رغم اهميتها، نحشر فيها نشأة وتطور الدولة السودانية حشرا.
تناول الكتاب نشأة الدولة في : السودان القديم ، حضارتي نبتة ومروي ، حضارة النوبة المسيحية ، مملكة الفونج ، سلطنة دارفور ، الحكم التركي المصري ، المهدية ، الحكم الثنائي البريطاني- المصري ، واختتمنا بمآلات الدولة الحديثة بعد الاستقلال التي واجهت التحديات الآتية :ـ
عدم استقرار واستمرارية التجربة الديمقراطية جراء الانقلابات العسكرية ، ودخل السودان في الحلقة المفرغة : ديمقراطية – ديكتاتورية – ديمقراطية ، الخ .
كما رفعت الدولة يدها عن خدمات أساسية مثل التعليم والصحة الذين دخلا دائرة الاستثمار الخاص. وأصبحت الدولة الوطنية السودانية قي مفترق الطرق، و مهددة بالتمزق( بعد انفصال الجنوب) والتدخل الأجنبي ما لم تقف الحرب التي تستنزف قدرات البلاد الاقتصادية والبشرية واحلال السلام الشامل والعادل في ربوع بلادنا.
فإما أن تظل الدولة السودانية مدنية ديمقراطية تستوعب التنوع الديني والثقافي واللغوي أو تتعرض للتشرذم والتجزئة، واستكمالها بالتنمية المتوازنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل أقاليم السودان وتوفير احتياجات المواطنين في مستوى معيشة لائق وتعليم وصحة،.الخ.
هذا اضافة لتزايد خطورة تفكك الدولة السودانية بعد ثورة ديسمبر وحلاب 15 أبريل، واتساع التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، واتساع نهب موارد البلاد ، وتعدد المليشيات والجيوش، وضرورة حل مليشيات الدعم السريع وجيوش الحركات ومليشيات المؤتمر الوطني المرتهنة للخارج ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد ، وضم كل شركات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة لولاية وزارة المالية، لدعم سيادة ووحدة الدولة السودانية.
(2)
الواقع أنه منذ القرن التاسع عشر بدأ يحدث وضوح نظري حول التطور التاريخي للدولة ، وذلك نتيجة لجهود علماء الاجتماع مثل : الأمريكي مورغان الذي عاش لسنوات طويلة مع القبائل والعشائر البدائية للهنود الحمر ، وقدم اكتشافات مهمة في علم الاجتماع مثل التطور التاريخي للعائلة من نظام الأمومة الي نظام الأبوة ، هذا اضافة للعلائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تحكم نشاط تلك المجتمعات البدائية ، كما وضحها مورغان في مؤلفه ” المجتمع القديم ، 1877م”.
استند فردريك أنجلز الي تلك النتائج ، واضاف اليها الجديد في مؤلفه ” اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” ، والذي اشار فيه إلي أن الدولة هي نتاج تطور المجتمع في مرحلة معينة : مرحلة ظهور الفائض الاقتصادي ، وما نتج عنه من أول انقسام طبقي في التاريخ ، وأن الدولة نشأت في قلب تضارب مصالح تلك الطبقات، لذا فإنها كقاعدة دولة الطبقة الأقوي سيطرة من الناحية الاقتصادية ، وهي تصبح الطبقة المسيطرة سياسيا عن طريق الدولة، بالتالي تحصل علي وسائل جديدة لقمع واستغلال الطبقة المضطهدة.
كان مفهوم الدولة قبل دراسات مورغان – الذي أوضح أن العشائر البدائية أو المجتمعات البدائية لم تعرف الدولة – محاطا بالغموض ، ويُنظر للدولة وكأنها التعبير عن الروح الشاملة ، ولا يمكن النظر اليها بمعزل عن الدين ، أي لا يمكن فصل الدين عن الدولة ، كما يقول هيغل ( انظر : هيغل : المختارات ، الجزء الثاني ، ترجمة الياس مرقص ، دار الطليعة بيروت ، يونيو 1978م ، ص 159).
(3)
جاءت المعطيات التجريبية المعاصرة في القرن العشرين لتؤكد نظرية التطور التاريخي للدولة ، يقول مالينوفسكي عن أكثر الشعوب بدائية ” هذه الشعوب لا تملك لا سلطة مركزية ولا سياسة ، وبالتالي لا تملك لا قوة عسكرية ولا مليشيا و لا شرطة” (أنظر مالينوفسكي في ارنست ماندل : النظرية الاقتصادية الماركسية ، الجزء الأول ، دار الحقيقة بيروت ، 1972 ، ص 45).
ويصف ث. داريل بالصورة تفسها العشيرة البدائية التي لا وجود فيها للرؤساء الوراثيين لدي قبيلة تونغو في سيبريا الشمالية الشرقية (ماندل المرجع السابق ، ص 45).
ويلاحظ هابشلهايم بالمقابل ظهور بدايات الدولة في المدن الأولي بقوله ” يتألف سكان المدن الجديدة ( المدينية) في غالبيتهم من شريحة عليا تعيش علي الريوع ( أي تتملك فائض العمل الزراعي)، وتتكون من سادة نبلاء ، كما يلاحظ هابشلهايم بالمقابل ظهور بدايات الدولة في المدن الأولي بقوله ” يتألف سكان المدن الجديدة ( المدينية) في غالبيتهم من شريحة عليا تعيش علي الريوع ( أي تتملك فائض العمل الزراعي)، وتتكون من سادة ونبلاء وكهنة ، وينبغي أن نضيف اليهم الموظفين والمستخدمين والخدم الذين تطعمهم بصورة غير مباشرة هذه الشريحة العليا ( أي جهاز الدولة) ” ( هابشلهام : التاريخ الاقتصادي للعصر القديم ، المجلد الأول ، ص 171).
أي أن المعطيات التجريبية والنظريات المعاصرة لعلم الاجتماع أكدت وطورت وعمقت مفهوم التطور التاريخي للدولة ، علي اختلاف مدارسها ومشاربها النظرية والفكرية ، التي نشأت مع ظهور الفائض الاقتصادي ، وما نتج عنه من انقسام طبقي ، وظهرت الطبقات المالكة التي طورت الفنون والمعارف التقنية لتطوير القوي المنتجة الزراعية ( خزانات ، سدود ، هندسة وغيرها من الأشكال المائية اللازمة للري).
(4)
علي أن الدولة ظاهرة معقدة لا يجوز اختزالها في تصور آحادي الجانب ، يعتبرها مجرد متغير تابع بشكل آلي للبنية التحتية للمجتمع ( مجموع علاقات وقوي الإنتاج)، فالعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية ( مجموع آراء الناس الدينية والحقوقية والفلسفية والسياسية) للمجتمع متشابكة وديالكتيكية، أي ذات تأثير متبادل ، وليست علاقة آلية ، فالبنية الفوقية لها استقلالها النسبي وتؤثر في البنية التحتية وتعمل علي تغييرها.
فالدولة كما يقول نيكوس بولانتزاس مجال متميز ، ومن الخطأ ارجاعها للعامل الاقتصادي ، وهي شأنها شأن عناصر البني الفوقية الأخري ذات استقلال ذاتي ثابت تجاه القاعدة الاقتصادية ( أنظر نيكوس بولانتزاس : نظرية الدولة ، دار التنوير بيروت 1987 ، ص 11).
كما يشير الي خطأ تفسير الدولة ( فقط) بمقولات القمع ، المنع والايديولوجيا ، فنشاط الدولة يتجاوز كثيرا القمع أو الايديولوجيا.
وفي بعض الأحيان كما يري ماركس تصبح ” الدولة مؤسسة مستقلة عن المجتمع المدني ، وتصبح سيدة له وقوي مهيمنة عليه” ( ماركس : الثامن عشر من برومير لويس بونابرت).
بالتالي يقوم علي مفهوم جديد يؤكد تاريخية الدولة السودانية ، أي يؤكد خصوصية كل دولة في التطور بفعل اختلاف الثقافات والجماعات الدينية والعوامل التاريخية المختلفة، مما يتطلب دراسة التطور التاريخي للدولة في أي مجتمع بذهن مفتوح، لمعرفة سمات وخصائص كل دولة ، والظروف التاريخية التي نشأت وتطورت فيها ، والعوامل التي تركت بصماتها عليها، وهذا ما سعينا له بقدر ما استطعنا سبيلا في هذا الكتاب..
الوسومتاج السر عثمان بابوالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الدولة السودانیة
إقرأ أيضاً:
الجسر القاري.. كيف غيّر اتصال آسيا وإفريقيا مسار التطور البشري؟!
الولايات المتحدة – يعتقد العلماء أنه لولا الجسر البري بين قارتي آسيا وإفريقيا الذي ظهر نتيجة عمليات تكتونية داخل الأرض لكان مصير الكوكب مختلفا تماما.
قد تبدو العمليات الجارية في أعماق الأرض بعيدة عنا جدا، إلا أن تأثيرها على تطور كوكبنا كبير جدا. حيث يؤدي تشكّل المساحات اليابسة إلى التأثير في تيارات المحيطات والظروف المناخية، بل وحتى على هجرة الكائنات الحية وتطورها. ويُرجح العلماء أن صعود الصخور المنصهرة من دثار الأرض قبل ملايين السنين قد يكون قد حدد المصير التطوري للجنس البشري.
وقد أصبح تشكل جسر بري واسع ربط بين آسيا وإفريقيا قبل حوالي 20 مليون سنة عبر مناطق شبه الجزيرة العربية والأناضول الحديثة موضوعا لبحث جديد.
وقد جمعت دراسة نشرتها مجلة Nature Reviews Earth & Environment بين بيانات منشورة سابقا ونماذج جديدة تم تطويرها في مدرسة “جاكسون” للعلوم الجيولوجية بجامعة “تكساس” في أوستن ومركز “هيلمهولتز” للعلوم الجيولوجية.
سمح الارتفاع التدريجي لليابسة لأسلاف حيوانات مثل الزرافات والفيلة ووحيد القرن والفهود وحتى البشر بالهجرة بين إفريقيا وآسيا. وقد وضع ظهور هذا الممر البري نهاية لعزل إفريقيا عن القارات الأخرى الذي استمر 75 مليون سنة.
ويوضح البروفيسور تورستن بيكر من قسم علوم الأرض والكواكب في كلية “جاكسون”: “يساهم هذا البحث في الكشف عن آليات تغير كوكبنا وطبيعة العلاقة بين الحياة وتكتونية الصفائح الأرضية”.
تعود بداية هذه القصة إلى ما قبل 50-60 مليون سنة، عندما تسبّب انزلاق صفيحة تكتونية في طبقة الوشاح الأرضي في صعود صخور منصهرة إلى السطح بعد نحو 30 مليون سنة.
وساهمت هذه الحركات في الوشاح، إلى جانب تصادم الصفائح التكتونية، في ارتفاع اليابسة. مما أدى إلى:
اختفاء المحيط القديم (تيثيس) انقسامه إلى البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب في شكلهما الحديث تشكيل جسر بري بين آسيا وإفريقيا إغلاق المضيق الضحل قبل الموعد المتوقعوأضاف البروفيسور إيفيند ستراومي من مركز الأبحاث النرويجي (NORCE): “أُغلق المضيق الضحل قبل بضعة ملايين السنين من الموعد المتوقع. ولو لم يحدث هذا العمود الحممي (البلوم)، لسار تصادم القارات بطريقة مختلفة تماما.”
كما أشار إلى أنه لو تأخر اتصال إفريقيا بآسيا لمليون سنة إضافية، لاتخذت الحيوانات المهاجرة – بما فيها أسلاف البشر – مسارا تطوريا مختلفا جذريا.
وقبل بضعة ملايين السنين من الإغلاق الكامل للمضيق، نجحت أسلاف الرئيسيات – بما فيها السلف المشترك للإنسان – في العبور من آسيا إلى إفريقيا. وعلى الرغم من انقراض هذه المجموعة في موطنها الأصلي بآسيا، فإن سلالتها ازدهرت في القارة الإفريقية. وعندما اكتمل تشكل الجسر البري، عادت هذه الكائنات لتعيد استيطان آسيا مرة أخرى.
وعلّق البروفيسور ستراومي قائلا: “يمثل هذا النموذج دليلا واضحا على كيف يمكن للعمليات التكتونية طويلة الأمد أن تُحدث تحولا جذريا في مسار التطور البيولوجي للحياة على الكوكب.”
المصدر: Naukatv.ru