”أنقذوا ما تَبَقّى من سنوات العُمر”.. كتاب جديد للمؤلف كامل مراد
تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT
صدر حديثا كتاب "أنقذوا ما تبقى من سنوات العمر" للكاتب الأردني كامل مراد، وهو أول مؤلف عربي يقدم نصائح حول كيفية التعامل مع قضايا الحياة اليومية.
يتناول الكتاب مجموعةً من التَّجارب والخبرات التي اكتسبها المؤلف على مدار خمسون عاما، كما يسلّط الضوء على موضوعاتٍ لطالما عاني منها البشر كثيرًا، ويحاول اقتراح حلولًا لهذه المشكلات.
ويقول كامل مراد: إنَّ هذا الكتاب كتبتهُ بلغةٍ سهلةٍ ومبسَّطةٍ ليفهمها الكبير والصَّغير، وموضوعاته مناسبةٌ لجميع الأعمار، لأنَّه يذكر فروقات بين الماضي والحاضر، ويكسب قارئه خبرةً في حياته ويوسّع آفاقه لأمورٍ لم يتعرَّض لها بعد.
ومن المقرر أن تقوم دار ليدرز للنشر والتوزيع بطرح الكتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته المقبلة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: كامل مراد
إقرأ أيضاً:
في الكتاب الأحمر.. جرائم نظام الإنقاذ في جبال النُّوبة
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
تاريخ الحروب الأهليَّة في السُّودان لم يجد تغطيَّة شاملة، وبخاصة من قبل المؤرِّخين السُّودانيين. إذ يعود هذا التجاهل لعدة أسباب: فهناك أسباب إقصائيَّة تتمثَّل في تجاهل مآسي أقوام وطنيَّة سودانيَّة من منطلقات العرق والدين والقبيلة والجهة، وكذلك نسبة لغياب الإحصاءات الدقيقة لضحايا النزاعات الأهليَّة التي تنشأ بين الفينة والأخرى، ثمَّ إعمال مبدأ عفا الله عمَّا سلف الذي يهدر حقوق الضحايا، ويغيِّب فرص العدالة والاستحقاقات. لا غرو في أن نقول إنَّ هناك ثمة برهاناً في أنَّ الشخص بمقدوره أن يعرف والديه، فعلى الأمَّة أيضاً أن تعرف تاريخها، مهما بلغ هذا التاريخ من الأمر سوءاً وبشاعة. في سبيل ضمان مستقبل عادل، وفرصٍ متساوٍية، واستيعاب جميع قطاعات المجتمع وتعدُّدياته، علينا أن نعترف بالتاريخ ونتدارسه ونفهمه. بيد أنَّه قد ينظر بعض النَّاس إلى هذا التوثيق بأنَّه تاريخ قديم مضى عليه زمان أكثر من ثلاث حقب، لكن أي تاريخ! إنَّه لتاريخٌ مأسوي، ولا ينبغي غض الطَّرف عنه، فالذين لا يجتهدون لمعرفة التاريخ يعيشون أبد الدهر في الحاضر غير المستقر، لأنَّ مثل هذه الحياة تمحو عندهم خاصيَّة إدراك الأشياء، والنتيجة الحتميَّة في نهاية الأمر هي "متلازمة الطفولة" (Childhood syndrome)؛ والأطفال يتم اقتيادهم بسهولة ويسر. غير أن القوميَّة التعسفيَّة – والحال كانت في نظام الإنقاذ – تعتمد على القبول حرجاً بالتاريخ المزوَّر، حيث تمَّ استبدال التاريخ بخيالات حزب المؤتمر الوطني.
على أيٍّ، في هذا "الكتاب الأحمر" الصادر حاليَّاً في إنجلترا حاولنا أن نوثِّق ونعلِّق على الأحداث الجسام التي مرَّ بها إقليم جبال النُّوبة منذ نشأة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في أيار (مايو) 1983م. وما أن وصلت العدائيَّات إلى المنطقة، حتى تعرَّض إنسان جبال النُّوبة إلى تجاوزات إنسانيَّة مروِّعة في نفسه وعرضه وأرضه وماله. كل ذلك تحت وطأة القصف الجوي بالقنابل التقليديَّة تارة، والعنقوديَّة تارة أخرى، والبراميل المتفجِّرة تارة ثالثة، ورشقات المدافع تارة رابعة، ومع ذلك كان قادة الحكم في الخرطوم أقوياءً على الشعوب العزلاء، وتمَّ اعتماد سياسة القصف العشوائي من قبل أهل الإنقاذ على السكان المدنيين الأبرياء، والأهداف المدنيَّة على حدٍّ سواء خلال ما تنعته الفرنجة ب"التدمير الملازم أو المباشر" (Collateral damage). كان العسكر يغيرون ليلاً، فتسمع أصوات طلقات الرصاص التي تفزع سكون الأجواء، وظلام الليل في ليلة غاب عنها الأمن في لحظة من تلك اللحظات. طلقاتٌ تعقبها دوماً صرخات النساء المذعورات، والأطفال المذعورين، وكلاب الحي التي بالكاد لا تتوقف عن النباح في الليل البهيم. وإذا عسكر الحكومة وميليشياتها يفعلون بالنساء والأطفال أنكر الممارسات؛ وإذا بهم يرتكبون الأفاعيل الشنعاء بالمواطنين النُّوبة؛ ثمَّ إذا ما حُكي عنهم من أوصاف التجبُّر والطغيان ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، فالاكتفاء بالإشارة تغني العبارة، والإشارة واللفظ شريكان، وما أكثر ما تنوب الإشارة عن اللفظ؛ وإنَّ قصصهم لمرعب تتعذَّر روايته بالكامل، ثمَّ إنَّ قصصهم لمؤثِّر يستدر الدموع من المآقي، ويغلي الدماء في العروق.
ومع ذلك، لم تنهار روح النُّوبة المعنويَّة، ولم تنكسر شوكتهم، ولنا في ذاك قصَّة إبَّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م) في أوروبا. ماذا جرى إبَّانئذٍ؟ في ذلك الرَّدح من الزمان بعث المستشار المحبَّب لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (1874-1965م) للشؤون العلميَّة فريديريك ليندمان بثلةٍ من علماء النَّفس لدراسة آثار القصف الكثيف بواسطة الطيران الألماني في مناطق بيرمنغهام وهول لإثبات أنَّ قصفاً مماثلاً سوف يكسر الرُّوح المعنويَّة للألمان. إذ خلص العلماء إلى نتيجة مفادها أنَّ ليس هناك ثمة دليلاً يثبت انهيار الرُّوح المعنويَّة للمواطنين الإنجليز في تلك المناطق التي تعرَّضت لهذا القصف الألماني الشديد. برغم من ذلك تجاهل تشرشل نتائج العلماء، وشجَّع على القصف الكثيف للمدن الألمانيَّة، على أيَّة حال.
مهما يكن من شأن، إذ من يقرأ هذا الكتاب سيدرك لِمَ عنوناه بهذا العنوان، أي "الكتاب الأحمر"؛ وفي القول المأثور: الكتاب يكفيك عنوانه. في خضم معارك الحريَّة والدفاع عن النَّفس والعرض والأرض سقط كثرٌ من الشهداء، وما يزال الخط الدفاعي في المعارك قائماً مشيَّداً، وما يزال الموت في الجبال يئن تنهيدة، ويرثي ثلة، عسى أن يصفق لهم النهار بأيادي الرحمة القويَّة، ويحضنهم الليل بأجنحة المحبَّة الناعمة. تكمن الخطورة في أمر تلك التجاوزات في استخدام الدين لاصطباغ صورة إلهيَّة لا تقبل المنازعة حول القتل والاغتصاب والسَّبي والنَّهب، ولا سيما أنَّ الأديان المنظَّمة ما هي إلا عبارة عن مؤسَّسات اجتماعيَّة تحاول إعادة تشكيل الغرائز الميتافيزيقيَّة للأفراد وتحويلهم إلى متزمِّتين سواءً أكان في الحروب الصليبيَّة عند المسيحيين حيناً، أو الحروب الجهاديَّة عند المسلمين حيناً آخر، أو كما حدث فيما تعارف المؤرِّخون على تسميته بالفتنة الكبرى بين أنصار معاوية بن أبي سفيان وبين أشياع علي بن أبي طالب حيناً ثالثاً؛ تلكم الفتنة التي تقاتل فيها المسلمون فيما بينهم قتالاً دمويَّاً عنيفاً. ببساطة، إنَّ البشر لم يُخلقوا لخوض المعارك بناءً على النظريَّة الفلسفيَّة الخادعة، وهي الفكرة التي تقول إنَّ هناك ثمة غلافاً رقيقاً من الحضارة هو الذي يحفظنا من الخضوع إلى الميل الطبيعي المزعوم إلى العنف والفوضى؛ إذ يمكن إقناع البشر بالنمط الصحيح من المنطق لوضع السِّلاح، ومن ثمَّ تضع الحرب أوزارها.
مهما يكن من أمر، فقد استطاع بعض أبناء منطقة جبال النُّوبة الساعون إلى العدالة، والحادبون على المساواة والقائمون على أمر القيم الأخلاقيَّة الاحتفاظ بسجلات الضحايا، وظروف استباحة دمائهم، وانتهاك أعراضهم، ونهب ممتلكاتهم، وكان هذا ما يحمله هذا الكتاب في ثناياه. لكي نفي الضحايا حقوقهم المسلوبة عنوة وقهراً حاولنا جمع هذه الوثائق، والغوص في هذه السجلِّات والمستندات تقصِّياً وتفنيداً، استعراضاً وتعليقاً. ومع ذلك، يعد هذا السفر الذي بين أيديكم إضافة نوعيَّة لما قامت به منظمة أفريكان رايتس في تقريرها الموسوم "نوبة السُّودان ومواجهة الإبادة"، الصادر في لندن في أيلول (سبتمبر) 1996م، والكتاب الذي نشره منير شيخ الدين الموسوم "الغائصون في دماء أمَّة.. خبرة ومشاهدات في سجون الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بالسُّودان"، الصادر من دار الحكمة في لندن العام 2003م، وقوائم الضحايا التي نشرها الحزب القومي السُّوداني في القاهرة في مستهل التسعينيَّات من القرن العشرين، والتقارير التي كانت تنشرها منظمة العفو الدوليَّة بين الحين والآخر في لندن في الحقبة الزمانيَّة قيد البحث، ومنظمات حقوق الإنسان الإقليميَّة والدوليَّة الأخرى، وكذلك تقارير الحكومات الأجنبيَّة حول ما كان يجري في السُّودان.
دعنا نعد إلى مسألة الحرب؛ إنَّ الهدف الرئيس من الحرب هو إخضاع الأعداء، ومن هذا المنطلق يحق للمحارب قتل المهاجم المسلَّح في سبيل الدفاع عن النِّفس، ولكن بمجرَّد أنَّ يضع العدو السِّلاح ويستسلم، لا يصبح عدواً معتدياً، لأنَّه فقد أداة من أدوات الاعتداء؛ إذ فقط يصبح مواطناً مدنيَّاً، ولا يحق لأي شخص قتله أو إيذاءه أيَّاً كان السَّبب. كان هذا هو المنهج الذي قام عليه الجيش الشعبي لتحرير السُّودان. ألم يكن لديهم الآلاف من أسرى الحكومة الذين كانت الحركة الشعبيَّة تطلق سراحهم بواسطة الصليب الأحمر بين الحين والآخر، عكس ما كانت تقوم به القوَّات الحكوميَّة في تصفية أسرى الجيش الشعبي لتحرير السُّودان! البشر بطبيعة الحال ليسوا بأعداء، ولا الشجار بينهم فقط هو الذي يولد الحروب، بل النزاعات حول استحواذ الممتلكات الماديَّة، والأنانيَّة المفرطة هي التي تفجِّر الحروب، وذلك لأنَّ حال الحرب لا يمكن أن تنشأ بمجرَّد تباعد العلاقات الشخصيَّة، فقط من الصراع حول الموارد والحقوق المسلوبة.
تأسيساً على ذلك، فإنَّ أي نظام سياسي ينبغي أن يتعرَّض للمعارضة. لذلك وصلت الحكمة بالمشرَّعين الدستوريين عند الأمم إلى جعل الدورات البرلمانيَّة لسنوات معدودات قد تبلغ ثلاث أو أربع أو خمس، بعدها يُعطى الشعب حق اختيار جديد لمن يأنس فيه الكفاءة لتمثيله، لأنَّهم – أي المشرَّعين – عرفوا النَّفس البشريَّة وطبيعتها، وإنَّ الشعوب بطبعها لملولة وميَّالة إلى التغيير والتبديل. فالحاكم مهما كان عادلاً فهو مكروه من قبل كيانات أو طوائف أو أحزاب أخرى، وسوف يكون له أعداء، وقد قيل كما جاء في لاميَّة ابن الوردي (1292-1349م) في الأخلاق والحكم:
إنَّ نِصفَ النَّاس أعداءٌ لِمَن ولَّى الأحكام هذا إن عدل
ثم نعود إلى الكتاب الذي نحن في صدد الحديث عنه. هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ يعتبر من الحجم المتوسط، حيث يبلغ تعداد صفحاته 360 صفحة، وهو مقسَّم إلى أربعة فصول، وكل فصل يناقش بالتحليل فترة زمانيَّة محدَّدة من عمر الجرائم ضد الإنسانيَّة وجرائم الحرب والإبادة، التي اقترفت في حق المواطنين النُّوبة الأبرياء العزَّل في ديارهم في جبال النُّوبة. إذ أنَّ النَّص المكتوب يقع في 216 صفحة، أما الصفحات الباقيات فهي عبارة عن ملاحق تحتوي على الوثائق والجداول للجرائم التي ارتكبت في حق النُّوبة على أساس عنصري وديني.
كذلك نجد في هذا الكتاب لمحات عن نضال شخصيَّتين خالدتين في تاريخ النُّوبة خصوصاً، والسُّودان عموماً: الأسقف فيليب عبَّاس غبوش، والقائد يوسف كوَّة مكِّي. إذ أنفق كل واحد منهما حياته مناضلاً في سبيل تحسين حيوات الأغيار، وكانا مكافحين من أجل الحريَّة، ومنافحين عن العدالة الاجتماعيَّة، والمشاركة في السلطة، وتقاسم الثروة القوميَّة، ثمَّ كانا يؤمنان بأنَّ الحريَّة تخلق الاستقرار، والضغط يولد الانفجار. هما ومن معهما قد قدَّموا كل مرتخصٍ وغالٍ في سبيل الحريَّة؛ إذ لم يكونوا مثل الذين يرصدون واقع الحال، ولا يجيبون على أي سؤال، ولا يلتفتون إلى ما يعتمل في دواخل النَّاس من مشكلات سياسيَّة-اجتماعيَّة ممضَّة. إزاء ذلك وجدنا أنفسنا مدفوعين إلى سبر أغوار تينك الشخصيتين بفضل أعمالهما، وجلائل نضالاتهما. في كتابه "فلسفة الثورة" الصادر العام 1954م كتب الزعيم المصري الراحل العقيد جمال عبد الناصر قائلاً: "إنَّ التاريخ لمليء بأدوارٍ عظيمة"، وقد وجد تاريخ النُّوبة خصوصاً والسُّودان عموماً رجالاً أبطالاً لعبوا أدوارهم في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وقد غرسوا في أجيال النُّوبة خاصيَّة الاعتداد بأنفسهم، والاعتزاز بهُويَّتهم.
في حياتنا أشخاص من مختلف المجالات، أبدعوا وأبهروا فأصبحوا حديث النَّاس، صعدوا سلم النضال وتصدَّرت صورهم الصحف والمجلَّات، وسارت بأسمائهم ركبان الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، لكن سرعان ما ينسحبون في صمت، أو تأخذهم نوائب الدهر في سكون. في كل المجالات الإبداعيَّة وجوه شدَّت إليها انتباهنا، رافقتنا في طفولتنا وشبابنا قبل أن تغادرنا دون سابق إشعار، نبحث عنها في عتمة الليل، وفي زحمة الحياة اليوميَّة، فلا نعثر لها على أثر، ومع مرور الأيَّام تغطي ذاكرتنا طبقات الغبار، وتتواطأ مع النسيان، وننخرط في لعبة الجحود. المناضلون حين يعتزلون أو يرحلون لا يحملون معاول الهدم، بل يلتمسون الأعذار لمن رمى بهم في قاعة النكران. لهذا نسلِّط الأضواء على الذين اختاروا المشي في درب النضال، احتراماً لتاريخهم نستحضر من خلال هذا الكتاب جوانب عامة عن حيواتهم، فنفض الغبار العالق في أذهان تؤمن بأنَّ البقاء للحاضر لا للأصلح.
حين كتب يوسف كوَّة مكِّي قصيدته "إفريقيَّتي" يا تُرى هل كان ممتثلاً لقول القائل: "لا يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقل شعراً، أو يؤلِّف كتاباً، ذلك لأنَّ الخطر ماثل والعدو بالمرصاد." ثمَّ في الحين الذي فيه بات سقيماً بداءٍ لا دواء له، أثبت أنَّه رجلٌ على الأهوال جلدٌ، وسرعان ما نالته المنيَّة في قمَّة مجده، وكان لسان حاله يردِّد ما قاله هيكتور أمير طروادة، وقائد جيشها، وأهم أبطالها في حروب طروادة في الميثولوجي اليوناني في ملحة الإلياذة تأليف الشاعر اليوناني هوميروس، حين قال: "الآن وللمرَّة الثانية، دعني لا أموت دون نضال أو اشتهار، لكن في سبيل إنجاز عملٍ عظيم للرجال الذين سوف يولدون ويسمعوا به." أو كما دوَّنت الفرنجة:
(Now again fate overtakes me. Let me not perish without a struggle, but doing some great deed for men that are yet to be to hear of it.).
أفلا يحق لنا أن نمتثل بأبيات الشاعر الجنوب الإفريقي مازيسي كوني، وهو الذي أنشد يقول:
إنَّهم نائمون تحت الأرض
التي نعانقها بأقدامنا
عندما نرقص في المهرجان
إنَّنا نقف في نفس المكان
حيث كانوا يقفون بأحلامهم
لقد حلموا حتى أصابهم التعب
ثمَّ تركوا لنا الحكاية التي نرقص عليها
سنواصل طريقهم
ونقف فوق نفس التراب
فإلى الخلود يوسف بطلاً وثائراً، وقائداً رعيل الشهداء، ورمز إيمان السُّودان الجديد.
في مختتم الكلام نستطيع أن نقول إنَّا لمدركون تمام الإدراك أنَّ هناك من يجد في هذا السفر اسماً لصديق عزيز افتقده، أو لرفيق درب تمَّ قتله ثمَّ التمثيل بجثَّته، أو أحداً من ذوي القربى في قائمة الضحايا، حيث لم يكن يعلم من أمر مصيره شيئاً؛ ثمَّ إنَّا لمدركون أيما إدراك أنَّ ذلك سوف يحدث في نفسه أمراً مرعباً، ويصطبغ يومه بالحسرة والندامة، لأنَّه لم يكن بمقدوره إنقاذ حياته. وما يحكيه هذا السفر قطعاً قد يجد هناك من يبدو على شفا حفرة العواطف الحزينة، وقد لا يستطيع أن يتقبَّل السنوات الكوالح تقبُّلاً يسيراً كما يمكن أن يتقبَّلها الآخر، فلعلَّ هناك من يعاني مما أسمَّوه علماء النَّفس "الشخصيَّة الحديَّة" (Borderline personality disorder). غير أنَّ هذه هي الحياة في أبشع تجلِّياتها، وأشنع صروفها. وستظل العدالة هي مبتغى أهالي الضحايا، ومبلغ أمانيهم مهما طال الزمان.
أما بعد، فقد يتساءل سائل ما الغرض من تأليف كتاب آخر عن جبال النُّوبة؟ بما أنَّنا قد نشرنا كثراً من الكتب، وملأنا صفحات الصحف الورقيَّة والإلكترونيَّة بعددٍ غير قليل من المقالات، وقدَّمنا أوراقاً علميَّة في الجامعات والورش والندوات والسمينارات (الحلقات الدراسيَّة) الحقوقيَّة والسياسيَّة عن إنسان جبال النُّوبة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة من قبل، ولكن يبدو أنَّنا ما زلنا نشعر بأنَّ لدينا المزيد لنقوله ونكتبه، ونود تكرار شيء ما قد قلناه بطريقة مختلفة، ثمَّ إنَّنا نأمل في أعظم ما يكون الأمل في التعبير عن القضايا التراجيديَّة بشكل أكثر إقناعاً، وأمضَّ تحليلاً، حتى يعلم النَّاس لِمَ نشرنا هذا السفر الجديد، وما الجديد الذي أتى به من قول سديد. فقد قال الكاتب الفرنسي دانيال بِناك: "يبني الإنسان بيوتاً لأنَّه يعرف أنَّه حيٌ، لكنه يكتب كتباً لأنَّه يعلم أنَّه فانٍ".
بريطانيا، الاثنين، 16 كانون الأول (ديسمبر) 2024م