وماذا بعد مؤتمر الإفتاء العالمي؟
تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT
القضيةُ الفلسطينيةُ كانت حاضرة بقوة فى أعمال المؤتمرنحيى الرئيس السيسى على دوره المهم فى الوقوف بكل صرامة أمام مخطط تصفية القضية بتهجير الشعب الفلسطينى خارج أراضيهدور مصر محورى من خلال دعمها المستمر لحق الشعب الفلسطينى فى المقاومة من أجل استرداد أرضه ومن أجل الحياة فى أمن وسلام وطمأنينة كما تحيا بقية شعوب العالم
لاقى المؤتمر العالمى الثامن للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم الذى عُقد تحت عنوان «الفتوى وتحديات الألفية الثالثة» نجاحًا ملفتًا للأنظار؛ وتناقل الباحثون والعلماء والمفكرون أخبارَ فاعلياته ومبادراته ونتائجَ ورش عمله وتوصياته، وتحدَّث المؤثِّرونَ عن محاوره التى عالجت التحديات التى تواجه المجتمعات الإنسانية على الجانب الأخلاقى والاقتصادى والبيئي، وانعكاسات التقدم التكنولوجى وتوسُّع استخدام تقنية الذكاء الاصطناعى على المجتمعات البشرية والآثار المترتبة على ذلك، بجانب آليات مواجهة تصاعد خطاب الكراهية وتداعياته.
ولا عَجَبَ أن كان لمؤتمرنا هذا الأثرُ الكبيرُ؛ فإنه مع أهميةِ ما ناقشه فى جلساته قد عُقِد فى ظروفٍ استثنائيةٍ فى ظلِّ العدوانِ الغاشمِ على الشعب الفلسطينى الذى استمرت معاناته على مدار عقود من الممارسات الوحشية ومحاولات التهجير.
ولقد كانت القضيةُ الفلسطينيةُ حاضرةً بقوة فى أعمال المؤتمر؛ حيث أكد المؤتمر على أصالة القضية الفلسطينية وترسُّخها فى وجدان الأمة الإسلامية شعوبًا وحُكامًا، وأن قضية فلسطين كانت ولا زالت حيةً تلتف حولها قلوب الأمة العربية والإسلامية جميعها.
كما ثمَّن المؤتمر الدور المحورى لجمهورية مصر العربية ودعمها المستمر لحق الشعب الفلسطينى فى المقاومة من أجل استرداد أرضه، ومن أجل الحياة فى أمن وسلام وطمأنينة كما تحيا بقية شعوب العالم؛ موجهًا الشكرَ والتقديرَ لفخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى على دوره الهام فى دعم القضية الفلسطينية والوقوف بكل صرامة وشجاعة أمام مخطط تصفية القضية بتهجير الشعب الفلسطينى خارج أراضيه، وعلى بيانه الواضح الجلى فى هذا الشأن.
إن النجاحَ الذى تُحققه الأمانةُ العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم فى تناولِ أهمِّ قضايا الأمة خاصةً والإنسانيةِ عامةً فى مؤتمرها العالمى السنوى لم يعُد أمرًا مستغربًا؛ فللعام الثامن على التوالى تستطيع الأمانةُ أن تؤكد جدارتها فى تنظيم مؤتمرها السنوي، وأن تخرجَ به على النحو اللائق بقلب العالم العربى والإسلامى جمهورية مصر العربية تحت رعاية فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وإن ذلك الجهد المتواصل من الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم على مدار السنوات السابقة لم يكن غايته عقد مؤتمرٍ تلو مؤتمرٍ لطرح قضايا هامة ومناقشتها فقط؛ بل طالما كان كل مؤتمر من تلك المؤتمرات الثمانية نقطةَ انطلاقٍ نحو تعاملٍ حقيقى مع القضايا المطروحة فيه وتحقيق الأهداف التى وضعها والتوصيات التى خرج بها؛ ولذلك كانت نهايةُ جلساتِ المؤتمر الثامن للأمانة هى بداية العملِ الجاد لتحقيق أهدافِ المؤتمر وتنفيذِ توصياته، وهذا بالفعل ما بدأت الأمانة العامة فى فعله؛ فقد سارعت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم إلى اتخاذ خطوات هامة نحو تفعيل نتائج جلسات وورش عمل المؤتمر التى عُقدت على هامشه بخصوصِ مواصلةِ الاهتمام بقضيةِ تأهيل القيادات الدينية للقدرةِ على المساهمةِ المستمرةِ فى عملية مكافحة الإرهاب والتطرف، ومواصلة مواجهة خطاب الكراهية والعنف والإقصاء، بالإضافة إلى التطوير المستمر لعملية تحليل الخطاب المتطرف وتفكيكه استكمالًا لاستراتيجية المواجهة الفكرية الشاملة.
كما بدأت الأمانةُ العامة فى ضوء التوصيات الصادرة عن المؤتمر إلى اتخاذ خطوات حقيقية نحو بناء القدرات للمؤسسات الإفتائية وتطوير بنيتها على كافة الجوانب، بجانب تطويرِ أدواتِ وقنواتِ التواصلِ والتنسيق المستمر بين هيئات ودور الإفتاء فى العالم؛ لكون هذا التكامل والتعاون الدائم أحد الأهداف المستمرة التى تسعى إلى تحقيقها.
وإذا كان الذكاءُ الاصطناعى يُعبر عن قمة التقدمِ التكنولوجى فى الوقت الحاضر، لاسيما مع دخول تلك التقنية جميعَ مجالاتِ الحياةِ ومناحيها لدرجة مزاحمتها العنصر البشرى فى بعض وظائفه، فإن الأمانة العامة قد أولت اهتمامها بقضايا التقنية الحديثة عمومًا، ومستقبل الصناعة الإفتائية فى ظل التطور المتلاحق لتلك التقنيات، ومدى قدرة المؤسسات على الاستفادة منها فى تطوير عملية الإفتاء، وقبل كل ذلك تعامل الفتوى مع النوازل الكثيرة المتعلقة بتقنية الذكاء الاصطناعى واستشراف القضايا الإفتائية التى قد تتزاحم فى الفترات المقبلة.
وفى ظل توصيات المؤتمر وضعت الأمانة خططها للتواصل مع كبرى شركات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعى لتفعيل وتعزيز الاستفادة من تقنية الذكاء الاصطناعى وسائر التقنيات التكنولوجية الحديثة فيما يخص الفتوى والإفتاء، ووضع الآليات لتعميم ذلك على سائر المؤسسات الإفتائية فى العالم.
إن الأمانةَ العامةَ تُدرك ضرورةَ التوافق والتكامل بين عمل المؤسسات الإفتائية وجهود الحكومات الوطنية لتحقيق الفاعلية المرجوة فى علاج القضايا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ولذلك فمع نهاية أعمال المؤتمر لابد من التأكيد على ضرورة الدعم المتواصل لكافة الجهود التى تبذلها الحكومات والدول فى قضايا مكافحة الإرهاب والتحديات البيئية والأخلاقية والاقتصادية، والجهود التنموية بشكل عام.
لقد احتضنت مصرُ أعمال هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات والأحداث التى تناقش قضايا أمتنا العربية والإسلامية، وأظهرت فى خلال ذلك كله إرادةً قويةً فى تبنِّى القضايا المحورية للأمة؛ وذلك من واقع مكانتها كنقطةَ التقاءٍ ولمٍّ للشمل العربى والإسلامي، فإنها طالما كانت فى موقع مسئولية تجاه قضايا الأمة العربية والإسلامية؛ بل تجاه قضايا الإنسانية جمعاء؛ ذلك أن مصر ستظل حاضنة الحضارات وموطن الوسطية والاعتدال.
د.شوقي علام: مفتى الجمهورية
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الفتوى مفتي الجمهورية الشعب الفلسطيني مصر تهجير الشعب الفلسطيني مكافحة الإرهاب غزة المقاومة الذکاء الاصطناعى الشعب الفلسطینى الأمانة العامة من أجل
إقرأ أيضاً:
خلافات أمريكا وأوروبا.. هل هي بداية انقسام حضارة الغرب وماذا سيفعل عندها العرب؟
صحيح أنّه لا يمكننا الجزم بأن الغرب يشهد حاليا انقساما حادا قد ينتهي بقطيعة بين أبرز مكوناته، لكننا نستطيع أن نتأكد من خلال قراءة حضارية للسياق السياسي الدولي وما وصل إليه في حاضرنا، ونشاهد عيانا كيف أنّ أوروبا والولايات المتحدة بينهما خلافات عميقة قد تأخذ أبعادا أخرى وتعرف انزلاقات حادة في أيّ وقت، خاصة حينما تقود دولها التيارات اليمينية المتطرفة والدينية المحافظة، وينتج عن حكمها وسياساتها الدولية نوع من السقوط الأخلاقي في تعاملها مع الشعوب الأخرى. لقد حدث ذلك تاريخيا إبان الحقبة الاستعمارية ورأينا كيف تحولت إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس إلى مجرد دول قومية صغيرة المساحة وقليلة السكان، بعد أن عاثت في مستعمراتها ظلما ونهبا لعقود طويلة.
وبتكبير رؤيتنا لهذا المشهد الحضاري سيبدو لنا أكثر وضوحا، ويمكننا عندها قراءته بشكل عام من خلال اللحظة التاريخية التي التقطنا منها صوره، نحن نشاهد بأمّ أعيننا إسرائيل، صنيعة أوروبا وأمريكا والمشكّلة من عرقيات غربية بشكل أساس، تتدثر بـ"السامية" المفترض أنها ميزة شرقية، حتى تحمي وجودها وفكرتها الصهيونية، ونرى كيف أن الولايات المتحدة دعمت جيش الاحتلال بأحدث تكنولوجيا السلاح والذخيرة وتواطأت سياسيا على إبادة شعب تريد اقتلاعه من أرضه.
وداخل هذا المشهد لا تخطئ العين المقارنة بين غزة وأوكرانيا، حيث لا يمكن للعقل الإنساني أن يتجاوزها مهما حاول الدوس على ضميره، ولعل هذا ما جعل أوروبا -بشكل عام- تأخذ مواقف رافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة، في مقابل تورّط الولايات المتحدة في سفك دماء الفلسطينيين بمشاركتها المادية إلى جانب جيش الاحتلال الصهيوني، إلى أن جاء ترامب الذي أعطى ظهره لأوكرانيا وحاول التعامل مع غزة بنوع من الوقاحة التي لا تخلو من العقلانية، حيث أنّ عينه كانت على إمكانية الضغط على حماس وترهيبها والأخرى كانت على سلاحها الذي رفضت رفضا قاطعا تسليمه أو التخلي عنه.
"لقد كان ترامب محقّا في كل شيء"؛ عبارة وضعها الرئيس الأمريكي المثير للجدل على قبعة بيسبول حمراء لطالما رافقته ولا تزال، إنها عبارة تختصر عناده واعتداده بتصوراته وقراراته التي لم تشاطره فيها شرائح واسعة من الأمريكان اختارت أن تضع ثقتها في جو بايدن وأن تشكّ في ما سيحققه لها من وعود بدت لها غير قابلة للتصديق، وها هو اليوم ترامب يُذكرها بفداحة خطئها وفظاعة خطيئتها، فهو كان على الدوام على حقّ في كلّ ما حذّر الأمريكان منه (حسب قناعته العمياء طبعا).
وإذ يحاول ترامب كسب شرعية من خلال هذه العبارة يقنع بها الداخل الأمريكي بصوابية تواجهاته الحمائية التي يهدف من خلالها الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي عبر فرض المزيد من الرسومات الجمركية على الاقتصاديات الكبرى في العالم، فهو يسعى إلى فرض هيمنة أمريكا في نسختها الترامبية على العالم، بما فيه أوروبا التي تقاسم أمريكا الحضارة والثقافة والعرق والدين والتاريخ، ولا تفرقهما سوى الجغرافيا.
لقد نحت الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى اعتبار مصالحها القومية هي المرجع وهي المصلحة الثابتة، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ربما، تتبنى سياسة خارجية مختلفة تجاه حلفائها في أوروبا وكندا، الأمر الذي يطرح إشكالية بداية تصدع الحضارة الغربية.
على صعيد الاقتصاد، خلقت رغبة ترامب الجامحة في تحصيل المزيد من الأموال من خلال فرض رسوم جمركية على السلع القادمة من الاتحاد الأوروبي ردّ فعل مكافئ ومعاكس في الاتجاه لدى الأوروبيين، الذين أصبحوا أكثر تشككا من استمرار علاقات "أخوية متينة" مع الضفة المقابلة للأطلسي، ومن هنا يبدأ الصدع في الاتساع.
وفي الجانب العسكري نجد أنّ ضغوط أمريكا وتنصلها من الاستمرار في حماية الدول الأوروبية دون مقابل يصر ترامب على أن تدفعه إن أرادت بقاء الغطاء العسكري الأمريكي مستقبلا، وكذلك موقفها تجاه أوكرانيا، كل ذلك سيدفع بدول الاتحاد الأوروبي إلى تفعيل استراتيجية الدفاع المشترك، ما قد يفضي إلى تفكك حلف شمال الأطلسي الذي يشكّل أبرز مظهر عسكري يوحّد الحضارة الغربية، بل حتى على مستوى الدول ربما تلجأ كل دولة على حدة إلى وضع خطط وتصورات بشكل منفرد لأمنها القومي.
لقد تضاعف شكّ أوروبا في روسيا بعد أن غزت أوكرانيا وقطعت كل يقين في بوتين تكون قد عوّلت عليه قبلها، وحسمت دول القارة في مسألة إيجاد مصدر طاقوي بديل يُغنيها عن بوتين نهائيا، وأصبح انعدام الثقة في الشرق هو سيد الموقف، واليوم يبدو أنّ الشيء نفسه سيحدث مع الولايات المتحدة التي يقود ترامب علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي نحو حالة من اليقين ببقاء التهديد الأمريكي أو على الأقل عودته في المستقبل إن لم يستمر، ما يعني أنّ القارة العجوز في بحثها الأكيد عن بدائل اقتصادية وعسكرية لأمريكا ستتقوقع على نفسها أكثر من أيّ وقت مضى بعد أن تتجمد العلاقات غرب الأطلسي أيضا.
"متلازمة بوتين" هذه التي يبدو أنّ أوروبا قد أصيبت بها مجدّدا مع الولايات المتحدة بسبب سياسات ترامب، حيث لا تضمن الأيام حتى وإن ذهب أن تأتي برئيس آخر يشبهه في عناده أو ربما يفوقه في عجرفته، ستلقي بظلالها ليس على الجبهة الأطلسية فحسب، بل على العالم أجمع، وستسعى كل دولة إلى حماية اقتصادها ودعم أمنها واستقرارها لوحدها وبشكل ذاتي بعيدا عن الآخرين.
ولا يمكن لهذا المشهد الحضاري أن يكتمل إلا بطرح سؤال حول منطقتنا ربما يجد جوابا عن مصيرها: أين سيكون العرب في هذه الحالة المستعصية والمتأصلة من الأنانية التي ستسيطر على دول العالم؟ وكيف سينظرون إلى اقتصادياتهم وأمنهم القومي؟ هل سيتشرذمون أكثر مما هم عليه اليوم، أم أنّ رياح التغيير الحضاري قد تهبّ مجدّدا لتفرض ترتيبات جديدة على المنطقة؟