صدى البلد:
2025-02-03@13:09:27 GMT

خالد الشناوي يكتب: شيخ العرب والظاهر بيبرس

تاريخ النشر: 30th, October 2023 GMT

منذ أيام قليلة دعيت لزيارة القطب الكبير سيدي أحمد البدوي في طنطا حيث مسجده العريق وضريحه الأنور جميل الاشراق_من أحب البقاع إلى قلبي_


و إنني حين أذهب الى هذه الديار زائرا فإنما أذهب اليها من زاويتين فكريتين متناغمتين، الأولى زاوية روحانية تجد فيها روحي مشربها الذي يعينها في رحلة سيرها ويحقق لها التوازن مع عالم المادة الذي جميعنا يعيشه ويحياه .


فأحاول جاهداً أن أطل بنافذتي على عالم الاشراق النوراني والسلام القلبي والروحاني فتهدأ ثورتي وتطيب نفسي واعود إلى حالتي الوجدانية المرتفعة شيئا فشيئا مواصلا رحلتي مع الحياة جهاداً وعملاً وسلوكاً  .


بينما الزاوية الأخرى أطل منها على قديم الزمان متذكرا الديار وساكنيها واقفا على اطلالها مستلهما العبر والعظات والعلوم والمعارف فلم أزر مسجدا أو معلما إلا ووقفت على تاريخه الفياض الذي هو امتداد لثقافتنا الفكرية والوجدانية .


حين تدخل من الطريق المعبد نحو المسجد الأحمدي سيرا على الاقدام ترى الجمال المعماري وتصميمه العريق فترى المأذنتين من أعلا يمين المسجد ويساره وكأنهما يدين مرتفعتين بالدعاء لمصر بالحفظ والنصر والتمكين بل وكأنهما يدين من الاحتواء والحماية والعناية الروحانية .


هذه المآذن الساكنة تارة والثائرة تارة أخرى تحت السحب المتحركة في عنان السماء لتحكي جمال الطبيعة المصرية الخلابة و مدى صلابة الدولة المصرية مهما توالت عليها النوائب والمحن  .


دلفت إلى المسجد العريق في وسط هذا الزحام البشري المتدافع لزيارة القطب البدوي_علم التصوف في الشرق الاوسط_ و رأيتني اتساءل في ضميري:لماذا مصر تحديدا بهذا الجمال؟ ولماذا هي حاوية لكل الأفكار والمذاهب؟ف لا عصبية قبلية فيها؟ ولا تناحر فكري أو مذهبي؟


ولم البث قليلا حتى كدت أن اسمع صوتا كبيراً بداخلي يقرر لي إنها مصر عنوان للوسطية وتقبل الآخر فهي الجامعة المانعة بحضارتها العريقة واعلام امتها الكبار وهي مختلفة تماما عن سائر بلدان الدنيا ففيها السياحة الدينية والسياحة المعرفية والسياحة الفكرية والسياحة الروحانية فهي قبلة للناس جميعهم من أقصى الأرض إلى أقصاها، أليس الله هو القائل{ادخلوها بسلام آمنين}؟


فليست دولة لقيطة وليست وليدة الصدفة ولم تنشأ بوعد أو ميثاق فهي درة الشرق الأوسط وعروس العالم كانت ولا تزال عبر تاريخها الطويل الضارب في الأرض لأكثر من ٧٠٠٠ آلاف سنة قبل الميلاد مطمعا للعدا وفي ذات الوقت كانت مقبرة لهم .


وفد إلى مصر أعلام الأمة ومصلحيها عبر العصور فعاشوا على ترابها رافعين رايتها ودفنوا في ثراها الطاهر ليدور الزمان مخلدا ذكراهم .


وممن جاءوا إلى مصر القطب الكبير سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه والذي ينتمي اليه الجامع الأحمدي بطنطا صنو الجامع الأزهر الشريف ...


في مسجد شيخ العرب اهداني أحد الزائرين كتابا يتحدث عن صاحب الذكري وبتصفح صفحاته رأيت كيف استرعت دعوة القطب الكبير السيد أحمد البدوي وأتباعه انتباه «الظاهر بيبرس» حاكم «مصر» «فكلف ابن دقيق العيد قاضي القضاة بالديار المصرية » ليتحقق من دعوة «البدوي»، التي كثر حولها الأتباع، ويتأكد من ميوله السياسية والتي خاف منها "الظاهر" لشعبية الرجل في طندتا بعد أن خشي منها على ملكه ..


وبالفعل نزح قاضي القضاة  إلى طندتا_طنطا حالياً_ليقف بنفسه على حقيقة الرجل ، فلما التقاه أفزعه احمرار عينى الرجل كأنهما بركانا من الدماء وحدثته نفسه : " أنه ربما بهذا الرجل  مس من الجنون"!
وقبل أن يفيق من حديثه الداخلي في طيات سره فوجئ بالسيد البدوى يقول :
مَجَانِيـنُ إِلا أنَّ سِـرَّ جُنُونِهـمْ  
عَجِيبٌ عَلى أعْتَابِهم يَسْجُدُ العَقْلُ
وأمام هذه الحال من الكشف النوراني اهتز مضطربا ابن دقيق العيد ثم حاول التماسك قائلا : يا أحمد هذا الحال الذي أنت فيه مخالف للشريعة !
البدوي: وهل أنت على علم بكل الشريعة؟
ـ ابن دقيق العيد : نعم
ـ البدوى :هل قرأت قول الله تعالى :{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً  ° إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ° وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً  ° إِلَّا الْمُصَلِّينَ ° الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ° وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ° لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
..فهل أنت من المصلين ؟! 
ـ ابن دقيق العيد : احسبنى منهم .
ـ البدوى : لست منهم!
فقد طلب إليك أحد تلاميذك ثوباً يستر بدنه وفى خزانة ثيابك أربعون جبة، فلم تعطه سوى خرقة تآكلت أطرافها، فهل أنت من المصلين ؟! ..
"اسكت وإلا أطير دقيقك"
وعلى كل فاذهب يارجل وانشغل بحالك عن أحوال الخلق ، وداوى عيب نفسك ، ولا تنسى أن تصلح خطئين فى نسخة مصحفك!


وجد بن دقيق العيد نفسه فى حضرة رجل يكشف له ما خفى عنه من أحواله ولولا أدب الولاية وسرها الكبير وعهدها المصون لفضحه!


عاد قاضي القضاة إلى القاهرة في رحلة ما أطولها واشقها على نفسه وطول الطريق لم يغب هذا المشهد عن مخيلته وتبقى له أن يتأكد من الخطئين في مصحفه ويقرر في صراعه النفسي لو تأكد لديه صحة ذلك لعاد إلى الرجل يقبل قدميه قبل يديه ...


وصل الرجل إلى داره فزعا ملهوفا عازفا عن الطعام والشراب غير ملتفت لما يدور حوله ثم جعل يتفحص مصحفه ليكتشف خطئين وقع فيهما الناسخ كما أخبر بذلك الشيخ المرابط في عرينه.... !


رجع على وجه السرعة إلى طندتا مرة أخرى وصعد إلى القطب الكبير سيدي احمد البدوي فوق سطح منزله (الجامعة السطوحية) حيث كان القطب الكبير قد اتخذ من سطح منزله الكبير والمرتفع منبراً كبيرا للعلم والفقه والمعرفة والتربية الصوفية تفد إليه أفواج الناس في حلقات من العلم والذكر وتعلية روح الجهاد ترتيبا لصد الهجمات الصليبية البربرية عن الأمة بأسرها 
بعد لقاء الرجل بقطب الولاية المحمدية مرة أخرى تتلمذ على يديه سالكا طريق القوم في تجربته الصوفية الفريدة .


وكأن الأقدار نسجت خيوطها وتناغمت حروفها لتبقى كلماتها الرصينة في سجل الخالدين خير دليل هنا وهناك. 
إنه بالفعل  اذعان الفحول حين تدفعهم الحيادية التامة والحقيقة المجردة بحثاً عن الحقيقة في دنيا الناس.


بدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على طندتا والإسكندرية مهبط أبي الفتح الواسطي، وخليفته أبو الحسن الشاذلي، وصديقه العز بن عبدالسلام، وبدأ بيبرس بزيارة الإسكندرية فقابل الصوفي أبا القاسم القباري، ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي  .


والغالب أن بيبرس في لقائه الغامض بهما حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفي في الإسكندرية وما حولها وسمع الشيء الكثير عن البدوي وعزم على التوجه إليه بنفسه سراً .


وفي سنة (662هـ)، سار بيبرس إلى الغربية وكان يسير منفرداً في خفية، ويسأل عن والي الغربية «الأمير ابن الهمام» وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه، فذكرت عنه سيرة سيئة، فقبض عليه وأدبه وأقام غيره...


أي أن بيبرس خص منطقة «الغربية» حيث البدوي بزيارته متخفياً، وتصرف بحزم مع واليها وعزله، وأقام والياً جديداً ينفذ السياسة الجديدة التي ارتآها في رحلته السرية!


ثم توجه إلى القطب البدوي وجلس بين يديه مستمعا لعلمه وفقهه وقد رأى بنفسه أحوال الشيخ الكبير فخرج من مجلسه مثنيا عليه بعد أن تيقن من كذب أقوال الوشاة حول الرجل كما تيقن أيضاً أن الرجل بحر في الولاية الربانيه لا يدرك له قرار  وأنه ليس من طلاب الدنيا أو الباحثين عن مناصبها الزائلة.


فصارت بينهما صلة روحانية كبيرة ووثيقة لم تمزق عراها الأيام بأي حال من الأحوال.
إن حياة السيد احمد البدوي مليئة بالجهاد والمشاركة الميدانية لنصرة الأمة فلم يكن الشيخ منزويا في زاوية أو متقوقعا في ناحية بل شارك في مقاومة حملة الفرنسيين التي قادها لويس التاسع على مصر، وكان تلامذته يأخذون الأسرى من الفرنسيين، ويقاتلونهم أشد القتال، وشارك في معركة المنصورة، التي أُسر فيها لويس فكان الرجل عالما متبحرا ووليا مربيا ومرشدا وبطلا مقاتلا كيف لا وهو أحد فروع الشجرة الهاشمية الرصينة فقد ورثوا العلم والحلم والفروسية كابرا عن كابر فهم أهل بيت نبوة أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا  .


رأيت كيف اهتم القطب البدوي بتربية الرجال علما وسلوكاً وكيف زرع بداخلهم حب الاوطان وحب الله بلا علة وبلا عباده معلولة بتلك العلة ،بل رأيت كيف مع ضعف الإمكانيات اتخذ الرجل من سطح منزله جامعة سطوحية انطلقت منها حلقات العلم والذكر والفهم السليم لصحيح الدين .


بل كيف اهتم بالأطفال فاحتواهم فكرا وتربية وقصته مع خليفته الاول سيدي عبد المتعال الأنصاري وكيف تكفل بتربيته في مدرسته الصوفية المستنيرة منذ كان طفلا وكيف تولاه بالرعاية إلى جانب غيره حتى صاروا اعلاما يشار إليهم بالبنان .


بل رأيت فلسفة الرجل ونظرته البعيدة حينما لم يكتف بجلوس تلاميذه حوله بل كان حينما يمنح أحدهم عهدا ويتيقن من اكتماله علما يبعث بهم إلى الآفاق والبلدان ولو كان الرجل يبحث عن مظهر أو جمع للناس حوله لاكتفى بوجودهم بجواره كنوع من العصبية والتفاخر!


بل رأيت وصيته الجامعة بإطعام الجوعى والتصدق على المساكين والشفقة على جميع خلق الله لا سيما عاصيهم.


رأيت بالفعل خلاصة مدرسته الفكرية «من انتصر على نفسه انتصر على أعدائه وبالمجاهدة تكون المشاهدة» .


جلست في صحن المسجد العريق أطالع الكتاب مستندا إلى أحد الأعمدة منتشيا بروحانية المكان مختبئا عن كل من يعرفني وأعرفه في وقت هو أشبه بالخلوة سافرت فيه عبر سفينة الزمان المبحرة واقفاً على الأطلال وكأني أراها وألامس أحداثها التي سطرها التاريخ بأحرف من النور عبر صفحاته المجيدة والمتجدده بتقلبات الأحداث جيلا بعد جيل .


رحلة روحانية رأيت أن أضع بعضاً من جوانبها بين يديك_سيدي القارئ_لترى كيف أن مصر بالفعل دولة كبيرة وإن اوليائها لم يكونوا وهما و أساطير كما يزعم البعض زورا وبهتانا بل هم حقيقة كبيرة وتاريخ كبير حافل بالعلم والمعرفة والبطولات وجزء لا يتجزأ من كيان هذه الوطن العظيم  .

المصدر: صدى البلد

إقرأ أيضاً:

د. رامي المنشاوي يكتب :الأميرة المليكة فاطمة بنت بري ...فخ الأولياء وفتنتهم

بين المريد والشيخ :

لاحظ المريد صمت الشيخ ،متأملا لفراغ أمام خلوته ومادا ببصره كأنما يتابع أمرا لم يره سواه ،وقد أخذ صدر المريد يعلو ويهبط جراء حراك الشهيق والزفير لمرات ومرات ،وكان الشيخ بين الفينة والفينة يبتسم مرة ثم يعدل من حركة رقبته مرة أخرى بينما تتدلى المسبحة من يده اليمنى.

لا يدري المريد كم من الوقت قد مر ،فقد احترم صمت شيخه إلى أن قطع الشيخ صمته طارحا على المريد تساؤلا : أتعرف معنى العجب ياولدي ؟ "بضم العين"

فأجاب المريد : العجب من الاعجاب والفخر والافتخار .

فقال الشيخ: أو تدري أن العجب في عمل المعروف والخير ينقص من أجر صاحبه ؟

قال المريد الفتى :لكن الشخص يفرح بفعله كي يداوم فعل الخير مرات ومرات وهذا الفرح يكون بينه وبين نفسه لا بينه وبين الناس .

فقال الشيخ :هذا فخ العابد ياولدي ..أن يعجب صانع المعروف بفعله ،فتغتر نفسه وتزهو فيحدث الاستدراج .

قال المريد :وكيف يحدث هذا ؟

قال الشيخ: هل كان قارون عابدا ناسكا في بدايته أم كان عاصيا ؟

رد الفتى:كان عابدا 

فقال الشيخ:ثم وقع في العجب ثم الزهو ثم الاستدراج :" ( قال إنما أوتيته على علم عندي )" ،وهكذا فعل السامري أحد عباد بني اسرائيل وصاحب الكرامة والعطية التي تحولت فيما بعد إلى نقمة عليه.

فسأل المريد متعجبا :ولكن كيف تتحول الكرامة والعطية إلى نقمة بعد العبادة والاخلاص فيها ؟

فرد الشيخ : إنما كرامة الصالحين يا ولدي مثل الرزق ،والرزق منه المال ، والمال قد يفسد البعض ،انظر لقول الله "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) وهذا ما حدث للسامري .

وكيف حدث للسامري ياشيخي ؟ كان هذا سؤال المريد الفتى 

فأجاب الشيخ :كان السامري صاحب كرامة ،ولتسأل نفسك لماذا كان هو الأوحد من بني اسرائيل الذي رأي جبريل عليه السلام ودابته التي تمشي بعد شق البحر ثم أخذ أثرا من أثر ملاك الله ؟

وضع المريد يده على رأسه ثم قال :" لابد أنه تفرد على قوم موسى بصلاحه فمنحه وأعطاه الله كرامة كشف الحجب فرأي عالم الملائكة؟ والدليل أنه الأوحد الذي رأي الملاك جبريل وقبض التراب الذي مر عليه .

فرد الشيخ :هذا صحيح يا ولدي وكانت الكرامة استدراجا له فوقع في العجب ومنه صنع تمثال العجل الذي له خوار ،فانتهى به الحال للهلاك والكفر .واعلم يا ولدي أن عالم الأولياء عالم مليء بالاستدراج والامتحان فادع الله دوما ياولدي أن يجعلك من عبيد الإحسان لا عبيد الاختبار...إلى هنا توقف الحديث بين الشيخ ومريده 

فائدة عن أحد الصالحين

 "قال أحد الصالحين ويدعى" محمد الوصيف" وكان رجلا زاهدا لا زوجة له ولا ولد ،ابتلي بمرض عضال في جسده ،نشهد له بالصلاح فكان لا يفارق المساجد ويؤدي فرائض الله في أوقاتها وخاصة الفجر وقيل عنه أنه كان يسير في الليل يضع مظروفا به بعض المال بين أبواب دور مناطق "دحديرة صبري بمدينة طنطا " ،وروى عنه بعد وفاته أنه كان يجبر خواطر العباد محبا لأولياء الله مريدا وتلميذا للسيد أحمد البدوي فكانت له خلوة بمنطقة درب الابشيهي يبتعد فيها عن اخوته ويقوم الليل فيها ،هكذا بعد أن قمت بتتتبع أثره وخبره بعد وفاته ،قال هذا الرجل "ان ابناء ابليس لعنهم الله وكذلك بعض الجن والمردة يجوبون سماء الله وأرضه فهم مدربون على رؤية هالة الانسان وطاقته ،وهذه الهالة يابني لا تزيد ولا تتوهج إلا بنقاء القلب والعمل الصالح والتقرب لله باخلاص ويشترط فيها صفاء الظاهر والباطن،فيجتمع المردة والجن المؤذي لا المؤمن برسائل الله السماوية مع اتباع ابليس وسبطه لعنهم الله ،يخبرون بعضهم البعض ما رأوه من عباد في الأرض علت طاقة نورهم وصلاحهم ،فتكون المهمة لهذا السبط هي استدراج هذا العبد وجره للدرك الأسفل مخافة أن يرتقى في مراتب الولاية ،فيباهي الله مخلوقاته بهذا العبد النوراني...."

 

العابدة الأميرة فاطمة بنت بري .

لقت الأم رهقا في أمر وليدها ،قطعت أميالا من شمال العراق إلى بغداد ،أخبرها الناس في السوق أن حكيما قبطيا من انطاكيا ورد إلى بغداد يفحص العلل ويداوي بأدوية افرنجية لم يروها الناس من قبل ،فارتحلت إلى بغداد ،كان الطبيب القبطي روميا ،بدت بشرته تحت شمس بغداد ككبد الطفل الذي يفحصه ،قلبه بيده يمينا ويسارا وفحص قلبه بأن وضع أذنه على صدره ،أخبر المترجم أن يقول للأم أن مصدر العلة والمرض مجهول ،الطفل ذو الأربع سنوات يرقد كالعصا متيبسا لا يحرك أطرافه ..عادت الأم مرة أخرى ،وتدوالت النسوة في شمال العراق خبر الطفل الذي لم يفلح الأطباء في علاجه وإيجاد سببا لعلة عدم حراك أطراف جسده ،فتنامى الخبر إلى مسامع فتيات وعاملات السيدة الأميرة فاطمة بنت بري ،أرادت واحدة منهن أن تتقرب من خلوة الأميرة العابدة ،كانت الأوامر من الأميرة صاحبة المال ورؤوس الأبل والتجارة الرائجة أن خلوتها لا يقربها أحد فهي تود ان تتخلص من الدنيا عبر هذه الخلوة متفرغة للعبادة ،وقد تشجعت الفتاة وطرقت الباب على السيدة الأميرة صاحبة الحسب الموصول بآل نعيم .وقد اندهشت الخادمة لسماح الأميرة السيدة لها باقتحام خلوتها ،ويقال إن الخادمة فزعت لرؤية هالة من نور قد أحاطت بالاميرة ،فانخلع قلب الفتاة ثم حكت للأميرة قصة الطفل المريض ،فطلبت الأميرة من الخادمة أن تحضر الطفل وأمه في الغد .

وصل الخبر إلى مسامع نسوة المدينة ،اخبر من يعلم من لا يعلم ،الجميع اجتمع أمام قصر الأميرة العابدة فاطمة بنت بري ،ثم دخلت الأم بصحبة الوليد حملته بين يديها ،شقت جموع الرجال والنسوة اقتربت من الباب ثم ولجت ،كانت الأميرة كما يحكي عنها أهل شمال العراق ،يستحيل أن يكون هذا الجمال بشريا "إن هذا إلا ملك كريم" ،انسدال الشعر بلون الليل ،حمرة في الخدين كأنما ثمرة كروم قد وضعت يزينها خال الحسن ،هذا التناسق في تفاصيل الجسد ،العين وسحرها ،الوصية الأولى لشيخ فاطمة ومؤدبها "أن تقتضب في الحديث مخافة أن يقع محدثها في أسرها ".

أخرجت الأميرة العابدة الأم من دهشتها بقولها :"ضعي الولد هنا "مشيرة إلى سجادة صغيرة وضعت في وسط رواق القصر ،نزلت الأميرة على ركبتيها واقتربت من الصبي ،دمعت عيناها ،نظرت للأم قائلة :"يكرم لأبيه الشهيد " صرخت الأم الله اكبر ،لا يعلم بهذا الأمر إلا الأم فقط ،هي لا تزال وافدة جديدة في المدينة ،لا أحد يعلم عن زوجها الشهيد شيئا ،أخبرت من تعرفهم أن زوجها تاجر يسافر بلاد الله مخافة أن تكون مطمعا لرجال شمال العراق ،وضعت السيدة فاطمة بنت بري يدها على قلب الصبي قرأت ايات من القرآن ،ثم كانت تبكي لحال الصغير ،انتابت الصبي شهقة ثم تقيأ ناهضا فسندته الأميرة بصحبة بعض خادمات قصرها ،وأحضرت عودا من سعف النخيل ومررته على قدم الصبي ثم ضربته سبع ضربات خفيفة ،دبت الحركة في ساق الصغير وقدمه ،لم تصدق الأم ما رأته ،اطلقت صيحة الفرح في كل الأرجاء ،خرجت أمام الجميع بصحبة وليدها وهو يسير على قدميه ،مستندا بعض الأمر على أمه ،جرت السيدة فاطمة بصحبة الخادمة ،تناولت الابريق ساعدت الخادمة الأميرة على الوضوء ،أغلقت باب خلوتها ،خرت ساجدة باكية تشكر الله ،انتحبت ثم بكت ثم علا صوتها مناجية لله ....

مرت سويعات هي لا تدري ،انتصبت جالسة ،ربما بقى على الفجر بعض الوقت ،ازاحت غطاء رأسها ،فبانت خيوط الليل منسوجة ومنسدلة على ظهرها تستريح بجوارها في الغرفة ،تنفست ثم احست بحاجتها للنظر من النافذة ،توقفت لكنها احست بحركة خفيفة في الحجرة ،سمعت الصوت وقد انكرته لكنها استدارت لترى صاحب الصوت 

ـ السلام على مولاتي واميرتي ؟

ردت فاطمة بنت بري في ثبات :"من أنت وكيف دخلت إلى هنا وباب الغرفة مغلق ؟

فقال الغاسق في الليل :"نحن لا تحجبنا جدران أو بنايات أيتها السيدة المليكة والأميرة أميرتي .

قالت بنت بري :"أميرتك ...أخبرني من أنت ؟

قال الغاسق في الليل :" إنما أنا أمير من رهط الجن يسكن شمال العراق وقد جئتك تبايعك قبيلتي ومملكتي كافة أن نكون خدما لك وتباعا لأمرك يا ولية الله ؟  وسنهديك هدية .

تساءلت بنت بري :أي هدية ؟

قال الغاسق في الليل :سر علم الحرف الذي برع فيه كبار الأولياء وبعض اسرار هاروت وماروت .

قالت بنت بري :وما هي قوتكم ؟

قال الغاسق :قوتنا لا يمكن وصفها أو حدها بمقدار ايتها السيدة العابدة ،واننا نرجو أن تنزلي إلى السوق لهداية الناس ومتابعة أحوال تجارتك فإن رعاة االابل خاصتك  يهملونها في الصحراء .انت لا تدرين قدر نفسك ولا ذاتك ،جميع شمال العراق يتحدث عن كرامتك لشفاء الصبي .

دخل العجب قلب فاطمة بنت بري ،لم تنجح في معرفة هوية ذلك الوافد الذي شق جدار الغرفة ولم تمنعه الحجب .منحها الكتاب المطلسم ،تناست نصيحة مؤدبها وشيخها الأول ألا تلتفت ،وأن الملتفت لا يصل .انشق الجدار فتبدد الوافد من المكان ،سمعت فاطمة في نفسها صوتا يدعوها أن تزيد تمكينها في الأرض ،سولت لها نفسها أمرا ،أن تتناول الكتاب وتقرأ صفحاته ،علم الحرف ،ذلك العلم الذي علمه الله لآدم ،سر التمكين في الأرض ،بسطة التمكين على بعض المخلوقات ،جرت فاطمة بنت بري على مصاغها ،ارتدت ما كانت زهدته ،سمعت في نفسها صوتا غريبا هذه المرة :"أنت ستتحقين تمكينا أكثر أنت صالحة ...أن لك أن تظهرين بين العوام "

غفت فاطمة وقد تكاسلت أن تؤدي فريضة الفجر ،رأت في نومها رجالا يفوق عددهم عشرات الألوف يكسون صحراء العراق بخيولهم ،وجدتهم ينحنون لها ،يسجدون للمليكة الجديدة بنت بري ،كانت الجموع تهتف باسمها ،وتملكها الزهو في وقفتها بينما قامات بني الجن منحنية أمامها .جاء الغاسق الذي التقاها في غرفتها ،أخبرها ان تتبعه ليريها مملكتهم التي جعلوها لها وأمروها على رهطهم وملكهم ،أدخلها إلى سرداب أسفل نهر دجلة ،ثم همس -الذي لا تعرفه -في أذنها :"إن معركتك الحقيقية مع من ينافسونك في الولاية ويعتقدون أنهم اولياء للملك الأكبر وأصحاب سر معه ،اخبري فتياتك أن يجوبوا في المدن والبلدان ويجمعوا لك أخبار الصالحين ممن ذاع صيتهم ....إن المليكة لا يجب أن ينافسها أحد أو يعلو على سرها نفر ". استفاقت من نومها ..تردد عبارة واحدة ..انا بنت بري فمن يعلوني ..وقد صرخت لتجمع كل الفتيات والخادمات والرجال ،أمرتهم أن يجوبوا البلدان ليعرفوا أين الرجال الصالحون الذين ذاع صيتهم ،فنادت على الجارية أن تناولها بعض المصاغ ،فسمعت صوتا في أذنها ،”لا حاجة لك بعالم البشر مدي يديك في الهواء تنالين ما تودين ،وإن هديتنا لك أيتها الأميرة فرسا تمتطيه بلا سرج أو رباط فقط تمتطيه وتقولي في أذنه وجهتك فسيسر إلى وجهتك وليشهد معجزتك وكرامتك كل شمال العراق ..إن الفرس ينتظرك بالخارج إنه من بني رهطنا أمرناه أن يتمثل في صورة الجواد ……..

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله

مقالات مشابهة

  • د. رامي المنشاوي يكتب :الأميرة المليكة فاطمة بنت بري ...فخ الأولياء وفتنتهم
  • إعلامي: جلوس الشناوي احتياطيا لن يؤثر على تواجده بالمنتخب
  • موقف حسام حسن من محمد الشناوي بعد جلوسه احتياطيا
  • كريم خالد عبد العزيز يكتب: مصر والقضية الفلسطينية .. موقف ثابت في مواجهة التحديات
  • ظهور "وجه فضائي" في القطب الجنوبي.. ما القصة؟
  • خالد ميري يكتب: في مواجهة النكبة الأخيرة
  • خالد الاعيسر يكتب: زيارة البرهان إلى ام روابة
  • إبراهيم الصديق يكتب: أيها الأسد: شكراً لك
  • أمين الفتوى: يجب ألا تزيد مُدة غياب الرجل عن زوجته عن 4 أشهر
  • مشيداً بدروه في “طوفان الأقصى”.. حزب الله ينعى القائد الكبير محمد الضيف