بورتسودان – نبض السودان
كشف العميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة في تصريح صحفي عن وصول الفريق الفني للجوازات والسجل المدني إلى مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان لاستئناف عمل استخراج الرقم الوطني والجواز الالكتروني.
.المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية: السودانيين بـ جوبا خبر سار للمواطنين
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (1 – 20)
"لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحياً"
مارتن لوثر كينج
مقدمة
هذه الحرب الجارية الآن في السودان، وإن حصرتها أجهزة الإعلام والرأي العام السوداني، خطأً، في كونها حربًا بين ما تسمى الحركة الإسلامية وأذرعهاالمختلفة، وعلى رأسها المليشيا المسماة "الجيش"، وبين قوات الدعم السريع، هي في نظري بخلاف ذلك. هذه الحرب، فيما أرى تخفي وراءها، ما لا يعكسه التشخيص الكاذب الذي طغى على حقيقتها. هذه الحرب هي في الأصل بين الشعب السوداني الذي يريد أن يصحح مسار استقلاله المسروق، وبين المؤسسة المصرية الحاكمة التي تريد استمرار هيمنتها على السودان. هذه الحرب الأخيرة لم تبدأ في 15 أبريل 2023، وإنما بدأت في اللحظة التي أُزيح فيها الرئيس المخلوع عمر البشير عن سدة الحكم في 11 أبريل 2019. فالنظام المصري الذي كان أول من رحَّب بانقلاب الترابي/البشير في عام 1989، عاد ليكون أكثر الأنظمة العربية التي شقَّت عليها إزاحة نظام الترابي/البشير الدموي، الفاسد عن السلطة. لقد استطاع النظام المصري في الفترة الممتدة من 1989 إلى 2018، أن يروِّض ما تسمى الحركة الإسلامية في السودان ويضعها تحت قبضته تماما. فقد استغل النظام المصري تورط النظام السوداني في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في عام 1995، فاقتطع من السودان مثلث حلايب. ثم ما لبث أن أسهم في فرض العقوبات الدولية عليه وحراسة تلك العقوبات في المحافل الدولية. ففي أبريل 2017، أي قبل أقل من عامين من سقوط نظام الإسلامويين في السودان، وصف وزير الخارجية إبراهيم غندور الموقف المصري المؤيد للإبقاء على العقوبات المفروضة على السودان منذ عام 2005، بموجب القرار (1591)، بأنه: "موقف شاذ وغريب، طالب به نائب المندوب المصري في الأمم المتحدة، في مجلس الأمن الدولي". (راجع موقع النيلين على الرابط: https://shorturl.at/LgZY9). عمومًا استمر النظام المصري في ترويض الإسلامويين السودانيين، حتى حصل منهم على رضوخٍ كاملٍ له. وقد بلغ هذا الخضوع درجةً غير مسبوقةٍ في فترة حكم الفريق البرهان والحركة الإسلامية الحالية. عبر هذه الفترة من الابتزاز الدبلوماسي، حصل النظام المصري بالإضافة إلى احتلال مثلث حلايب، على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية في السودان. وكذلك، في جر النظام السوداني ليصطف وراءه في ملف مياه النيل. وأهم من كل ذلك، فتح الحدود السودانية لكي تنهب مصر من موارد السودان ما شاءت.
صمت النظام المصري صمت القبور عقب إبعاد الرئيس عمر البشير في السلطة. ففي الفترة التي تقاطرت فيها أجهزة الإعلام العربية والعالمية إلى السودان لتغطي اعتصام القيادة العامة الذي خلب ألباب العالم، غابت أجهزة الإعلام المصرية، ولزم النظام المصري الصمت. وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد الأفريقي والرئيس الأثيوبي أبي محمد منخرطين في التوفيق بين قوى الثورة والعسكر، ليجري توقيع الوثيقة الدستورية وتبدأ الفترة الانتقالية المفضية إلى التحول الديمقراطي، كان النظام المصري منهمكًا في إعداد الخطط للإجهاز على الثورة بالتحالف مع الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي لم يكن في نيته، أبدًا، تسليم السلطة إلى المدنيين، والسماح بقيام نظام ديمقراطي عقب الفترة الانتقالية. وبالفعل بدأت فصول الخطة المصرية لإجهاز على الثورة تتوالى، منذ مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وإلى اليوم. لقد وضعتنا هذه الحرب عبر تداعياتها أمام منعطفٍ تاريخيٍّ حاسم: فإما أن نمضي بثورتنا هذه نحو استعادة استقلالنا المسروق بواسطة المصريين ومعاونيهم من الداخل من السودانيين، وإما أن نبقى تحت الهيمنة المصرية التاريخية، وبصورة أنكأ مما سبق، ولفترةٍ مقبلةٍ طويلةٍ جدًا.
أخطاؤنا التاريخية
هذه الحرب المدمرة وما نحن فيه الآن، هي الخلاصة التي قادتنا إليها أخطاؤنا التي تراكمت منذ الإستقلال. لم تستطع النخب السياسية التي أدارت حراك الاستقلال أن تنجز استقلالاً حقيقيًا يفكك التركة الاستعمارية المصرية. فقد خرجت مصر من السودان مثلما خرجت إنجلترا. لكن مصر تركت وراءها جيشًا من السودانيين المتمصرين هوياتيًا وثقافيا. وهذا أمر استثمرت فيه مصر منذ الغزو الخديوى للسودان في عام 1821. وحين بدأ الحكم الوطني عقب لحظة الاستقلال برزت معه دعوة الإسلام السياسي، مصرية الجذور في السودان. وما لبثت الطائفتان الكبيرتان؛ طائفتا الأنصار والختمية والحزبان الكبيران التابعان لهما؛ أن رضخا للابتزاز السياسي الذي مارسته عليهما جبهة الميثاق الإسلامي بالشعارات الدينية الزائفة، التي رفعها الدكتور حسن الترابي، عقب ثورة أكتوبر 1964.
لقد رأت الطائفتان وحزباهما مجاراة الدكتور الترابي في خطه الداعي لتحكيم الشريعة، خشية أن يسرق الدكتور الترابي منهما سندهما الشعبي المتديِّن. فبدلاً من أن تواجهاه وتكشفا زيف شعاراته، كما فعل الأستاذ محمود محمد طه، حينها، اصطفتا وراءه وسارتا على دربه. وكان أكبر تجسيد للاستجابة لابتزاز الدكتور الترابي للطائفتين بالشعارات الإسلامية، انسياقهما وراءه في مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني في عام 1965. وقد حدث ذلك بعد عام واحدٍ فقط من الثورة. وهو نفس العام الذي شهد الانتخابات العامة التي تمكن فيها الحزب الشيوعي السوداني من نيل 11 مقعدًا في البرلمان (الجمعية التأسيسية)، في حين لم تحصل جبهة الميثاق الإسلامي، بقيادة حسن الترابي، سوى على 3 مقاعد.
أزعجت الجماهيرية التي حُظي بها الحزب الشيوعي في انتخابات 1965 جماعة الكيزان والقوى الطائفية. فجرى، من ثم، التدبير لمؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني، في نفس ذاك العام. ولكي يصبح ذلك ممكنًا، كان لابد من تعديل مادة الحريات الأساسية في الدستور. وبالفعل عُدِّلت المادة وجرى طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، على الرغم من السند الجماهيري الذي أتي بهم إليه، في انتخاباتٍ حرة. أكثر من ذلك، أن أغلبية نواب الحزب الشيوعي السوداني كانوا قد جاءوا من دوائر الخريجين، المخصصة للمتعلمين.
عقب حل الحزب الشيوعي شرع الحزبان ومن خلفهما جبهة الميثاق الإسلامي في كتابة ماسمي بـ "الدستور الإسلامي"، حتى بلغا به مرحلة القراءة الثانية. وكان ذلك الدستور "غير الدستوري"، على وشك الإجازة، لولا أن أجهض إجازته انقلاب مايو 1969. ولأن الأستاذ محمود محمد طه قد عارض ذلك التوجه، آنذاك، وقام بحملةٍ قويةٍ في فضحه وتعريته في المنابر العامة، كان رد فعل الجهات السلفية الواقفة وراء حزب الدكتور الترابي، أن استغلت القضاة الشرعيين لمحاكمته وأدانته بتهمة الردة في 18 نوفمبر 1968. وقد قابل الحزبان الكبيران ذلك الحكم الغريب بالصمت، الذي دل على مباركتهما له. وفي تقديري، كانت تلك هي اللحظة الفارقة، التي علا فيها صوت الهوس الديني والغوغائية على الدستور، وعلى الحقوق الأساسية، وعلى مكتسبات الحداثة، وعلى سلطة المعرفة. من حينها، تنامى الهوس والشعبوية الدينية والغوغائية،ولم تعد للوعي بالدستور وبالديمقراطية والحقوق الأساسية أي فرصةٍ للتقدم.
تنكُّب الجادَّة
لقد كان خطأً استراتيجيًا فادحًا، ذلك الذي وقعت فيها الطائفتان وحزباهما الكبيران عقب ثورة أكتوبر 1964. فتداعيات ذلك الخطأ، المتمثلة في الرضوغ لابتزاز الإسلامويين لهما بالخطاب الديني، الذي استمر لعقود، قاد، في نهاية المطاف، إلى سيطرة الإسلامويين على مجريات السياسة في البلاد. فقد تركت الطائفتان للدكتور حسن الترابي الفرصة لكي يحفر تحت أقدامهما، بمثابرةٍ شديدة، حتى نفَّذ ضدهما وضد الديمقراطية، انقلابه في يونيو 1989. والغريب أن الترابي نفَّذ انقلابه، في وقتٍ كان الوزن الانتخابي لجماعته قد انتقل من 3 مقاعد في البرلمان في انتخابات 1965، إلى 53 مقعدًا في انتخابات 1986. لقد أدى تبني الحزبين الكبيرين أجندة الدكتور حسن الترابي، في عددٍ من المنعطفات، وحرصهما على خطب وده، بل والتحالف معه، وعدم شعورهما بالخطر الداهم الذي كان يمثَّله، إلى أن يدفع هذان الحزبان، ومعهما البلاد، ثمنًا باهظًا للغاية. لقد كانت غفلةً كبيرةً تلك التي جعلت هذين الحزبين الكبيرين ينصرفان عن مجابهته فكريِّا حين بزغ نجمه، وقد كانت السلطة في يدهما. فقد اختارا عوضًا عن ذلك، في التعاطي معه ممارسة الألاعيب التكتيكية قصيرة النظر. وقد اتضح عمليًّا أن الدكتور الترابي كان أبرع منهما في ذلك النهج.
باختصارٍ شديدٍ، ما نحن فيه الآن كان نتيجةً لسلسلةٍ طويلةٍ من الأخطاء التي شكَّلت، في جملة الأمر، بنية الممارسة السياسية في السودان، المتسمة بقصر النظر وبالنفعية وقلة الاكتراث بالمبدئية وبالتخطيط الاستراتيجي السليم. ولا يختلف في ذلك، اختلافًا جوهريًّا، من ظلوا يقفون في صف الثورة الآن، منذ ديسمبر 2018، ومن ظلوا يعملون ليل نهار لوأدها. فانعدام الرؤية الاستراتيجية والانغماس في المناورات وفي التكتيك، والتركيز على الكسب الآني، هو ما ظل يغلب على القوى السياسية السودانية. ولقد دلَّ سلوك قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، في الفترة الانتقالية على هذا النهج. بل، ولا يزال الحال كما هو، حتى بعد أن تحوَّلت قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، إلى صورتها الجديدة المسماة "تنسيقية تقدم"، التي انشطرت في الأيام القليلة الماضية ليتخذ ما تبقى منها اسم " صمود"..
أما جماعة الدكتور الترابي، فقد كان التكتيك القائم على الألاعيب السياسية وممارسة التضليل والابتزاز بالشعار الديني هو ديدنها الثابت الذي لا يتغير. ولا غرابة، فالجماعة مرتكزةٌ أصلاً على فكرةٍ دينيةٍ فاشيةٍ، تبرر فيها الغاية كل وسيلةٍ ممكنةٍ، مهما كانت وحشيتها ودمويتها، ومهما كانت صادمةً للحس الإنساني السليم. بل، ومهما كانت نقيضةً للقيم الدينية نفسها، التي تدعى الجماعة رعايتها والدفاع عنها. ولسنا بحاجة لذكر ما كان يجري من بشاعاتٍ في جنوب السودان، وفي بيوت الأشباح، وما جرى في دارفور منذ 2003، وما جرى في مجزرة فض الاعتصام. وأيضًا، ما حدث من قنص بالبنادق للشبان والشابات في هذه الثورة. وما جرت ممارسته من دهس للثوار بسيارات الأمن والشرطة في شوارع الخرطوم. بل وما طفح في هذه الحرب من إعداماتٍ ميدانيةٍ بشعةٍ لكثيرين، ومن جزٍّ للرؤوس وبَقْرٍ للبطون ونهشٍ للأحشاء بدعوى التعاون مع قوات الدهم السريع. وأيضًا من قصفٍ جويٍّ يوميٍّ انحصر في استهداف البسطاء من المدنيين، ومن تصفياتٍ خسيسيةٍ غادرةٍ سبق أن طالوا بها عضويتهم نفسها، عبر الثلاثين سنة الماضية، التي حكموا فيها البلاد بقبضةٍ حديدية.
حصاد الهشيم
ما نحن فيه الآن هو حصاد الهشيم لسلسلة الأخطاء الاستراتيجية الفادحة التي أشرنا إليها. وأقفز من هنا لأقول: إن كل الذي ظل يجري منذ الاستقلال، وإلى يومنا هذا، وما قاد إليه من علوٍّ لصوت الخطاب الديني المتخلف، والهوس الديني، ومن تراجعٍ مريعٍ في حكم القانون، ومن توحُّشٍ صادمٍ فالتٍ، ومن فوضى، وانهيار للدولة، وانعدامٍ لأبسط مقومات الأمن الشخصي، إنما يمثل، في جملته، حقبةً مظلمةً، رثَّةً، كئيبةً، خلت من أي انجازٍ ذي بال. بل، واحتشدت بكل ما هو فوضويٌّ وهمجيٌّ وقبيح. وقد انتهى بنا كل ذلك إلى كارثة الحرب الماحقة الراهنة التي شردتنا بصورةٍ لا مثيل لها. وأحاطتنا بأشباح الموت المحلقة فوق رؤوس الناس كل لحظة وأخرى، وبالعوزٍ والجوعٍ وانغلاق الأفق، ما وضعنا جميعًا على حافة اليأس. ولا أظنني أغالي إن قلت: ليس في هذه الحقبة، التي امتدت منذ فجر الاستقلال وإلى اليوم، ما يصلح لكي نصحبه معنا إلى مستقبلنا. فلو نظرنا، على سبيل المثال، إلى معسكر السياسيين والمثقفين الواقفين مع الثورة، فإننا نجده عاجًّا، بكثيرٍ ممن طبعتهم الممارسة السياسية النفعية بطابعها. وآية ذلك، إن عددًا مقدَّرًا، من رموز الفكر والثقافة والسياسة قد وضعوا أنفسهم في خدمة الأجندة الاستعمارية المصرية. لقد بدأت حقبة ما بعد الاستقلال، الرَّثة هذه، بالانقسام التاريخي المعروف بين "الأشقاء الاتحاديين"، من جهة، و"الاستقلاليين"، من الجهة الأخرى. وها هي تنتهي اليوم ونحن نرى أن بعضًا ممن كانوا "استقلاليين" قد أصبحوا "أشقاء". بل، هم مرتاحون لهذا التحوُّل، رغم ما يرونه من مجريات هذه الحرب اللعينة، التي يلعب فيها النظام المصري أخبث الأدوار وأقذرها.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com