أواصل في هذا المقال ما بدأته من قراءة أو بالأصح من حوار مع كتاب خليج الأغاني للكاتب بولس أنطون مطر. وأضع هذه المرة أيضا عنوانا من عندي لهذا المقال في سياق هذا الحوار الذي أسلط فيه كل مرة الضوء على واحد من الموضوعات التي كانت محل اهتمام الكاتب أو أشار إليها إشارة عابرة أحيانا، وقد أخصص لها من واقع اهتمامي مقالا أو جزءا من مقال.

يسلط الكاتب الضوء على مسألة الجذور الثقافية، مؤكدا على التنوع الاجتماعي والثقافي في الدول الثلاث التي شملها البحث (الكويت والبحرين وقطر)، ولكن ذلك التنوع الثقافي والاجتماعي الذي يتحدث عنه الكاتب كان مندمجا في لغة واحدة جامعة، مع ثقافة موسيقية مشتركة متعددة الجذور قبل أن يزداد من وجهة نظري على الأقل في مرحلة النفط تنوعا هائلا من جهة، وانعزالا ثقافيا وفنيا بين مكوناته ووصلاته بالثقافة المحلية من جهة أخرى. فسكان هذه المنطقة الذين يشملهم التعداد السكاني ينحدرون من بلدان وثقافات مختلفة، ومنعزلون ثقافيا عن بعضهم البعض والكثير منهم لا يجيد لغة البلد المحكية التي يعمل ويعيش فيها. وهذا لم يكن واقع الحال قبل مرحلة النفط، حيث كان السكان المحليون الأغلبية الساحقة عكس الواقع اليوم في بعض بلدان المنطقة الخليجية. من هنا أرى أن الموسيقى التي كان ينتجها ذلك المجتمع الذي كان يشكل أغلبية سكان البلد تحول هو وموسيقاه وتراثها إلى أقلية، وتراجعت عروضها إلى الأماكن الأقل أهمية وتأثيرا، أمام عروض «الموسيقى العالمية» المستدامة التي وجدت فيها الفئات السياسية والثرية والمثقفة في هذا المجتمع المعاصر البديل الثقافي والفني الذي يقربها من بعضها كنوع من الهُوية الثقافية لها. في المقابل لا تجد طريقتنا الموسيقية العُمانية الحديثة فرص عروض متساوية أو غير متساوية حتى أمام هذا الجمهور، كما هو الحال مع عروض الموسيقى العالمية والعربية والخليجية. من هنا نحن العُمانيين اليوم لا نصنع موسيقى حديثة، أو على الأقل موسيقانا الحديثة غير مؤثرة في صياغة هُوية هذا المجتمع «القديم» والمعاصر فنيا وجماليا. وكيف نفعل ذلك في غياب الجمهور؟. إن لكل منتج مستهلكا، ولا إنتاج اقتصاديا أو ثقافيا إلا لمستهلك.

استوقفني في كتاب خليج الأغاني باب «أغاني البحر»، حيث شرح الكاتب بالتفصيل وظيفتها الاجتماعية متتبعا العلاقة بين العمل والغناء عند البحارة والمجتمع البحري في البر والبحر، وفي هذا السياق يوجد الكثير من المشتركات والمتشابهات بين أغاني البحر العُمانية والخليجية، وأعتقد أننا نستطيع توسيع هذه الدائرة المشتركة إلى أوسع نطاق من الجزيرة العربية. ولكن تفصيل هذا يستوجب دراسة مقارنة في هذا المجال، هي في الوقت الحاضر غائبة.

وفي الواقع الجزيرة العربية وحدة وتنوع ثقافي وفني شديدان، وتتأثر اتجاهاتها الجغرافية الأربعة ببعضها البعض وتتناوب هذه الاتجاهات فيما بينها دور المركز الفني والثقافي حسب مقتضيات التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية.. وتاريخيا يمكن ملاحظة استجابة الفنون عامة والموسيقى خاصة للتحولات الدينية والسياسية الكبرى في هذه المنطقة، من ذلك مثلا نشأة الغناء والموسيقى الإسلامية (إن صح الوصف) في مكة والمدينة المنورة منذ الخلافة وصولا للدول الأموية ثم العباسية، وما زلنا حتى اليوم متأثرين بهذا السياق التاريخي للفن الموسيقي والإنجازات العظيمة للرواد الممارسين والمنظرين.

وهذه المنطقة الخليجية التي تحولت إلى مركز إشعاع وورشة عمل ضخمة للتحديث والتطوير أصابت منها الموسيقى حظا كبيرا، ولأول مرة بدأ التوثيق لها مع شيء من التنظير الموسيقي يواكب الممارسة. ولكن على الصعيد الثقافي كان موضوع الجذور الثقافية من بين أبرز الموضوعات التي كانت محل نقاش واسع على مدى سنوات عديدة كل يريد أن يأخذ النصيب الأوفر من كيكة التاريخ والإبداع المشترك.

يناقش الكاتب فنون الغناء في إطار تصنيف وظيفي اجتماعي وقد خصص لذلك فصلا تحت عنوان: «الموسيقى والانتماء الاجتماعي» أي بمعنى التنوع الاجتماعي. وبناء على ذلك في القسم الثاني من الكتاب يصنف الكاتب الأغاني تصنيفا اجتماعيا وجغرافيا: «أغاني البحر، وأغاني البر» وفي هذا الأخير يقع الحضر ومنهم البحارة والتجار. وتحت عنوان: «أماكن أخرى» يأتي على ذكر آلة الهبّان (آلة القربة) التي يلمح الكاتب إلى جذورها الإيرانية وبعض الأنماط الموسيقية ذات الجذور الإفريقية ويسمي نوعا منها «بالسورية» والمقصود هنا مدينة صور العُمانية.

وأعتقد معظم الخليجيين لم يهتموا كثيرا بالبحث في مسألة أصول وجذور فنون الغناء التقليدي، وربما لم يتساءلوا عن أي منها أصلية وغير أصلية. في المقابل أتذكر في التسعينيات من القرن العشرين كان عندنا في سلطنة عُمان شيء من هذا الطرح، حيث يرى البعض أنه ينبغي التفريق بين الأصلي منها وغير الأصلي وبالتالي ليس ضروريا توثيق هذه الأخيرة ونشرها لأنها غير عُمانية أصلية، أما البعض الآخر فكان عكس ذلك تماما يرى أن كل الممارسات الموسيقية التقليدية للعُمانيين عُمانية وتعكس التنوع الثقافي للبلد. ولا يزال بعض الأشخاص عندنا يستنكرون بعض الممارسات الموسيقية التقليدية ولا يقبلها بسبب ذلك التنصيف العجيب وقصور في المعرفة بالمجتمع العُماني وموسيقاه التقليدية المتنوعة جدا. ومؤخرا أثيرت في بعض وسائل التواصل الاجتماعي تساؤلات من هذا النوع تجاه احتفالية النيروز في ولاية قريات على سبيل المثال لا الحصر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی هذا

إقرأ أيضاً:

مهرجان نمشي ينطلق بمراكش بمشاركة فنانين من إفريقيا وأوروبا

انطلقت، مساء الاثنين بمدينة مراكش، فعاليات الدورة الثامنة عشرة للمهرجان الدولي للرقص المعاصر “نمشي”، المنظم تحت شعار “الشباب، الجمهور، إفريقيا، والأمل”، وذلك بمشاركة فنانين من المغرب وعدد من الدول الإفريقية والأوروبية.

ويستمر هذا الحدث الثقافي والفني إلى غاية 12 أبريل الجاري، حيث يشكل منصة للقاء عشاق فنون الرقص المعاصر، وفضاء للتبادل الفني والتكويني، من خلال برمجة غنية ومتنوعة تضم عروضاً كوريغرافية وورشات تكوينية ومسابقات، إضافة إلى أنشطة موجهة للأطفال.

ويشارك في هذه الدورة فنانون من بلجيكا، فرنسا، تونس، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، إسبانيا، ولبنان، إلى جانب حضور وازن لمبدعين من المشهد الكوريغرافي المغربي، في تأكيد على البعد الإفريقي والدولي للمهرجان.

وقال توفيق إزيديو، مؤسس والمدير الفني للمهرجان، إن “نمشي” بات يشكل موعداً قاريًا وعالميًا بارزًا في مجال الرقص المعاصر، وذلك بفضل الإنجازات التي حققها طيلة ثمانية عشر عامًا، سواء على مستوى التكوين أو العروض أو تنوع البرمجة.

وأوضح إزيديو أن المهرجان يعد المبادرة الوحيدة من نوعها على المستوى الوطني المتخصصة في فن الرقص المعاصر، مبرزًا أهمية الرقص كرافد من روافد الثقافة الإفريقية، ووسيلة للتعبير الجسدي من زوايا علمية وفنية.

من جانبه، أعرب الفنان الكوريغرافي التونسي، حفيز الضو، عن سعادته بالمشاركة مجددًا في هذه التظاهرة التي رافقها منذ دوراتها الأولى، معتبراً أن “نمشي” مشروع فني كبير مبني على “حديث الجسد ومنطقه”، ويسعى إلى مواكبة التحولات الثقافية الكبرى التي يشهدها المغرب.

ويتضمن برنامج هذه الدورة إطلاق برنامج تكوين يمتد على مدى ثلاث سنوات، بشراكة مع مؤسسة دار بلارج، ويستهدف ثلاثين شابًا وشابة سبق لهم أن استفادوا من ورشة تأطيرية أطرها الفنان الكوريغرافي العالمي بيرناردو مونتي. كما تشمل البرمجة مسابقة “تكليف” في نسختها الثالثة، وإطلاق أول دورة من “أوبرا الأطفال”، بشراكة مع دار بلارج.

ويأتي تنظيم هذه الفعاليات في إطار الانفتاح على القارة الإفريقية، وتعزيز التنوع الفني والثقافي بمدينة مراكش، التي تعتبر بدورها ملتقى للفنون المختلفة من مسرح وسينما وتشكيل وفولكلور.

مقالات مشابهة

  • «نيويورك أبوظبي» تستضيف مؤتمر الجمعية الدولية لمنسقي الفن المعاصر
  • وثائق سرية تفضح الكاتب الخاص للملك المغربي .. فمن هو ؟
  • اللجنة المكلفة درس اقتراح قانون الاعلام استعرضت مواد تحتاج إلى إعادة صياغة
  • أحيزون يغيب عن تقديم ماراطون الرباط.. الكاتب العام لجامعة ألعاب القوى: يقوم بمجهودات عبر التيليفون
  • هل تعمل تركيا وإسرائيل على صياغة “اتفاقية خفض التصعيد” في سوريا؟
  • توظيف الذكاء الاصطناعي لتحويل الإشارات الدماغية إلى "كلام طبيعي"
  • تخليدًا لكوكب الشرق.. 13 أبريل حفلاً غنائيًا يحمل اسم "كلثوميات"بمعهد الموسيقى العربية
  • مهرجان نمشي ينطلق بمراكش بمشاركة فنانين من إفريقيا وأوروبا
  • شاهد/ كلام تقشعر له الابدان لشقيق الشيخ السهيلي الذي استهدفت الغارات منزله بصنعاء
  • هل يستطيع العلم المعاصر قياس الفقر؟