نوافذ :من «حالة» إلى «رمز»!
تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT
«لقد حاولتم تذويبي.. من إنسان إلى حالة..إذن أنا حالة..إن تذويب مليون إنسان معا ثم جعلهم شيئا واحدا متوحدا ليس عملا سهلا.. لقد أفقدتم أولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة. ولستم بحاجة الآن إلى تمييز وتصنيف، أنتم الآن أمام حالة!». هذا ما قاله الشاب الذي قفز من النافذة للرجل الهام الذي قام باستجوابه في قصّة بعنوان: «أبعد من الحدود»1962 والصادرة ضمن مجموعة غسان كنفاني القصصية «أرض البرتقال الحزين»، ولا يبدو أنّ ثمّة ما تغير طوال الستين عاما، لا سيما عندما يقول: «نحن أكبر جماعة مُلائمة من أجل أن تكون مادة درس للبقية».
لم نتوقع في حياتنا القصيرة أن نشهد حدثا مُماثلا كالذي حدث في ٧ أكتوبر، فحتى وإن كان التاريخ ممتدا ومتكررا على نحو ما، تبقى حياتنا قصيرة إزاء صيروراته، لكنها بالتأكيد ليست أقصر من حياة أطفال ماتوا قبل أن يُطلق الآباء والأمهات الأسماء عليهم! فهل ثمّة تراجيديا أكثر من انتقالهم من ظلمات أرحام أمهاتهم إلى ظلمات قبورهم؟
عندما تملكني العجز وقلّة الحيلة كغيري، أردتُ أن أجد في قصص كنفاني مواساة صغيرة لخيباتنا، فتأكدتُ أنّ الكلمات تصحو بصورة أكثر ديناميكية في كل مرّة. فالكلمة والصورة تُرهبُ العدو، وإلا لما تمزق جسد كنفاني إلى أشلاء في سيارة مفخخة، وما استهدفت عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح بطريقة قذرة، فهم يخافون الكلمات التي تُعري آلاتهم الإعلامية التي تبصقُ الأكاذيب.
تحتفظُ قصص كنفاني بطزاجتها كأنّها كتبت لهذا الراهن المُخجل: «ما من أحد سينبري لمحاسبتك، ولماذا ينبري؟ أنت تستطيع أن تشنق واحدا منا، فتربي بجسده الميت ألفا من الناس، دون أن تحمل هما أو خوفا أو تأنيب ضمير»!
كان البطل مجهول الاسم يمشي في الشارع عندما سقطت الفكرة في رأسه كما يسقط لوح زجاج كبير: «ثم ماذا؟»، كان هذا هو السؤال الذي يُعذبُه، وهو السؤال ذاته الذي يُعذبنا الآن، في وقت ينزع فيه البشري جلده ليكشف عن حيوانيته المفترسة، فالموت لم يعد يفرق بين رجل وامرأة، طفل أو شيخ.. إنّهم مجرد «حالة»!
يكتب إحسان عباس: «من يقرأ كتابات كنفاني يُبصر التدرج الواعي نحو واقعية صلبة مُحددة ومشمولة بالبساطة.. الحلم المُبهم الموشح بالإيماء.. فرغم التزامه الواقعية لم يكن وثائقيا في فنه.. كان يُعيد ترتيب العناصر ويمنحها التكثيف فتجيء خلقا جديدا للواقع».
لكن السؤال: هل تنتفي الحاجة إلى «الرمز» الفني عندما نواجه غمرة الحقيقة؟ هنالك من يرى أنّ كنفاني لم يكن بحاجة إلى «رمز» لأن واقعه يفوق ذلك بكثير. ويرى جبرا إبراهيم جبرا أنّ «التجربة العاتية التي تعصفُ بمخيلته هي التي تُقرر اتجاه هاجسه حتى في أشكاله التجريدية». الأمر الذي يجعلنا إزاء سؤال جحيمي حول تحول الناس في «غزة» على وجه التحديد من «حالة» إلى «رمز». لقد ماتوا بصحبة قصصهم وذكرياتهم، ماتوا بكثافة مُخزية، بعضهم لم يحصل على قبر أو كفن! ألا يمكن «للرمز» أن يندحر مفجوعا من الواقعية التي تفوقت عليه!
نحنُ نسأل: هل ثمّة ما يبرر هذه التضحيات العظيمة التي تفوق تصوراتنا! فتبرقُ الإجابة على لسان بطل كنفاني: «ألستم أنتم الذين أعددتموني ساعة إثر ساعة ويوما إثر يوم وعاما إثر عام لهذه النتيجة؟». إنّ أحدا منا لن يعي أحاسيسهم ومعاناتهم، فنحنُ بالكاد نتلقفها من وراء الشاشات، لنذرف الدموع، ثمّ نعود إلى حياتنا الطبيعية! لكنهم ومنذ 1948 لم تكن لهم حياة طبيعية!
هنالك مُعضلة صغيرة تؤرق البطل، وهي أنّ الناس يُصابون بشيء من الجنون، فيقول أحدهم: «أية حياة هذه؟! الموت أفضل منها»، ثم يبدأ بالصراخ، والصراخ عدوى، يصرخ الجميع: «أية حياة هذه، الموت أفضل منها»!
تكمن المشقة في أن تصطدم العذابات البشرية المتفجعة بأفق مجهول. كما تكمن في تناسل مآسي الأبطال الذين يدفعون أثمانا باهظة لقاء إرادتهم الواعية بالقضية، ولذا يتمردُ البطلُ على حبسه في فكرة ضئيلة باعتباره «حالة»، لينشط السؤال الصلب والنهائي، فينفتح خندقٌ طويل ومظلم نأمل أن نرى ضوء نهايته قريبا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما الذي يدور في عقل ترامب؟
قال المجاهد العربي العظيم عمر المختار مرة: إن الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك. وبالتأكيد أن الضربات المتتالية التي يتلقاها العرب لم تقصم ظهورهم ولا نالت منهم، ورغم كل مؤامرات الكون لا زلنا واقفين وصامدين إلى أن تقوم الساعة.. هذا ما أراده الله لهذه الأمة. مهما حصل فما يؤلمك اليوم قد يكون السبب في كونك قوياً غدا، كما قال نجيب محفوظ. صخرة ألقاها دونالد ترمب في بحيرة العرب الراكدة لتعكر صفوها وتخلطها رأساً على عقب، معلنًا عن رغبته في تهجير أهل غزة من القطاع إلى الخارج وتحديدا إلى مصر والأردن ودول أخرى بادياً رغبته في تملكها بأي طريق سواء كان بالشراء أو الاستيلاء أو الاستعمار وطرد أهلها منها. والوعد بتحويلها إلى جنات تجري من تحتها الأنهار ومزارع من عنب ورمان (ريفييرا الشرق الأوسط) ينعم الساكنون فيها بفلل وملاعب جولف ومسابح، كل ذلك ولا يحق للفلسطينيين العودة إليها أو السكن فيها.
ما يمتاز به ترامب هو الصراحة والشفافية ولا يجيد المراوغة أو الدبلوماسية، وفي نفس الوقت الغرور والصلف والمكابرة والتباهي بالنفس، هذه الصفات تزعج الكثيرين بالطبع وتحرج آخرين من الزعماء أمام شعوبهم. يريد ترامب اللعب على المكشوف، وربما المرحلة تتطلب ذلك لتدفع العرب إلى التفكير أيضاً بشكل مختلف وبصوت مسموع بما يتوافق مع ذلك، لتدخل القضية الفلسطينية مرحلة جديدة من الصراع العربي الصهيوني.
الأفكار التي أطلقها ترامب كانت كفيلة بإشعال الأوساط وما زالت ارتداداتها تتفاعل ولم تنتهِ بعد، وما أن يشعر ساكن البيت الأبيض بخفوتها يشعلها بإطلاقه مزيدا من التهديد والوعيد وفتح أبواب جهنم. يحلو لساكن البيت الأبيض ترديد سرياليته المقيتة وأحلامه الغريبة. ذلك الساكن لا يراعي ذمة ولا أخلاقا ولا قانونا أو عرفا ولا حتى إنسانية، فهو ليس إلا تاجر سمسار ومرابٍ لا يهمه في الأمر شيئا غير جمع المال، العالم في فكره ليس إلا مصرف كبير يجمع منه الأموال، والعالم العربي ليس في فكره إلا أكوام من المال والثروة التي تقع تحت أيادي من لا يحسنون التصرف بها ولا يستحقونها وله الحق وحده في الاستيلاء على تلك الثروة دون شفقة أو مبرر.
تلك الأفكار الجهنمية التي طرحها في لحظة عنفوان تلقفها رئيس وزراء إسرائيل وزبانيته المتطرفون وصفقوا وهللوا لما يسمعون مما تجاوز حتى أحلامهم، بل وصل تماديه إلى إعلانه بشكل مستفز عن مقترح نقل أهل غزة إلى المملكة العربية السعودية و«إقامة دولة فلسطينية على أراضيها الواسعة» وهي بلا شك نظرة لا أخلاقية واستعلاء وخرق فظ لكل الأعراف وللقانون الدولي.
وفي الحقيقة ترامب رغم مغامراته النزقة إلا أنه لو افترضنا أنه يريد حل القضية الفلسطينية وغزة إلا أنه لم يقدم خطة مدروسة، كل ما قدمه تصريحات عنترية وتهديدات ووعيد. وعندما شعر بعدم قبولها طالب العرب بالبديل قائلا لهم «إذا رفضتم الخطة، فعليكم طرح أفكاركم». وأن يقدموا خطة متكاملة لترامب كما صرح بذلك وزير خارجيته روميو. العرب بدورهم تفاعلوا مع تلك الأفكار وسارعوا إلى الإعلان عن إقامة سلسلة من القمم العربية والإسلامية للرد على تلك الخطة الزئبقية. ما يتم تداوله الآن من خطة عربية أو خطة مصرية أو الورقة المصرية لحل قضية غزة رغم أن تفاصيلها لم تعلن بعد إلا أنه هناك بعد الوشوشات عن اقتراح تم تنسيقه مع الأردن وقطر والإمارات والسعودية، يقوم على رفض فكرة تهجير أهل غزة وإعادة توطينهم في الخارج. والخطة تشمل أيضاً إعادة إعمار القطاع على مراحل تستمر 5 - 10 سنوات بتمويل عربي (دول الخليج) وبتنفيذ شركات مصرية وأمريكية. على أن يتم تشكيل إدارة فلسطينية في القطاع تتحمل المسؤولية عن إدارة وتنسيق نشاطات الأجهزة المدنية الحيوية، والخدماتية، وتكون مسؤولة عن معبر رفح.
تلك الخطة الظاهرة التي يتم تسريبها واضحة تماماً، لكن الخشية من المخفي منها أو العبارات القابلة للتأويل والتفسيرات المختلفة ومراوغتها وهنا الخطورة. والسؤال الذي بات يطرح على نطاق واسع وبشكل متسارع هو، هل يلدغ العرب من نفس الجحر مرتين؟ وهل يبتلع العرب الطعم الذي رمي لهم؟
لا نريد الخوض فيما يعتقده المرتجفون ويعتقدون أن تدمير غزة جاء بسبب حماس والمقاومة. في المقابل يعتقد الكثيرون أن ما عجز عنه الصهاينة وداعموهم طوال الخمسة عشر شهراً من تدمير ومذابح لا يجب على العرب تقديمه على طبق من ذهب وما لم يستطعه نتنياهو من أهداف أعلنها في بداية عدوانه سيتحقق بشكل آخر.
على أمل أن يدرك العالم أجمع بما فيهم العرب بأنهم من حاصروا غزة ومنعوا عن أهلها الدواء والغذاء ووضعوهم في سجن كبير فقط بدون سقف ومنطقياً طال الزمن أو قصر سيأتي يوم وينفجر الوضع، والعالم كله يدرك أنه ليس طوفانا بل طوفانات كثيرة سوف تأتي إن ظلت غزة محاصرة للأبد.
يدرك المرتجفون أنهم سبب كل البلاوي والتراجع وأنهم قدموا خدمات جليلة للصهيونية والغرب. وإن ما يقدمونه كخطة للترامب (إن كان ذلك ضروريا) عن غزة تتضمن التخلص من حماس والمقاومة وذلك بالضبط ما يريده نتنياهو والغرب أجمع. الشيء الآخر، أغلب العرب الفاعلون على الساحة الآن الذين يتصدرون المشهد ويطلب منهم تقديم خطة لغزة هم بالأساس يضعون حماس والمقاومة في صف الأعداء وصنفوها في خانة الإرهاب ووسموها بالحركة الإرهابية، أي منطق هذا؟ هل ستكون الضمائر والنخوة العربية ومعاناة الفلسطينيين والأمهات الثكلى ودماء الشهداء حاضرة في أذهانهم وهم يفكرون في تقديم خطتهم. شيء آخر، أيضا، إن ارتفعت الأصوات منذ بداية الحرب على غزة أن العرب لديهم الثروة لإعادة بناء غزة، لا يهم ذلك فليفعل نتنياهو تدميراً وقتلاً ويرتكب المذابح طالما هناك من يعيد البناء. لماذا لا يتصدى العرب ويطالبون العالم بأجمعه وخصوصاً تلك الدول التي ساهمت في تدمير غزة وأرسلت الأسلحة، لماذا لا يتحملون ما اقترفته أيديهم من إجرام؟
ها هو ترامب يطلب من أوكرانيا تقاسم معادنها وثرواتها كتعويض عن الأسلحة والدعم المالي الذي دفعوه لهم. لماذا العرب لا ينطلقون من هذا طالما هذا هو منطق الغرب.
إسرائيل ليست بتلك القوة المتصورة التي كانت تروج لها، المقاومة الفلسطينية الشجاعة كسرت هذه الغطرسة ومرغت أنوفهم في وحل ورمال غزة ولم تعد سردية القوة وما يروجونه قائمة ولن تصمد، فإسرائيل والغرب لم يستطيعوا تدمير «حماس»، وبات العالم كله يدرك أن قوتها تلك مصنوعة وبمساعدة وحماية الغرب.
الابتزاز الأمريكي للعرب لا يتوقف عند حد معين، فمن المطالبة بدفع مبالغ على شكل استثمارات أو شراء أسلحة أو إعادة تعمير ما تدمره إسرائيل إلى التهديد بقطع المساعدات عن مصر والأردن والكل يعرف أن الرابح الوحيد ليس هذه الدول فقط إذ أن الأمريكيين لم يمنوا بتلك المساعدات لسواد عيون هذه الدول أو بنوايا صافية في الرغبة بالمساعدة، الأهداف من تلك المساعدات هو الحفاظ على الاستقرار في المنطقة وتخدم أمريكا أكثر، وأن الأموال الأمريكية التي تدفع للأردنيين ليست مساعدات بقدر ما هي «بدل خدمات لا يفيد» كما علق أحد الأردنيين. وفي مجمل الحال لا تشكل المساعدات الأمريكية الموسمية ما تزيد قيمتها التأثير على الميزانية عن 5-7% فقط، ما يعني أنه يمكن بقليل من الترشيد والتفكير خارج الصندوق الاستغناء عنها. على حد رأي خبير أردني.
المطلوب من القمم العربية هو ترسيم استراتيجية عربية للتعامل مع هذه الدول العربية، بالتأكيد تملك الكثير من الأوراق وتستطيع استخدامها عند الضرورة وليس أفضل من هذا الوقت فإذا حيدنا سلاح النفط عن العملية فأننا بالتأكيد أمام أوراق أخرى وفاعلة جداً وأهمها هي وحدة العرب ورص صفوفهم وتكتلهم في كلمة واحدة. ناهيك عن ورقة التطبيع التي تلهث خلفها إسرائيل وترامب ويريدونها دون ثمن بالإضافة إلى وقف الاتفاقيات الموقعة مع هذا الكيان الذي لم تلتزم هي بها، ماذا لو لوحت الدول المطبعة بوقف التطبيع وقطع تلك العلاقة؟
الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وهي الدولة الرائدة والقائدة في عالمنا العربي هي لوحدها تملك الكثير من الأوراق التي لا يملكها غيرها من الدول وما يتميز به الأمير محمد بن سلمان من قدرة على القيادة بلا شك سيكون له الأثر الفعال في وقوف هذا التخبط العربي، بالإضافة إلى أن نوايا السعودية قد تكون أكثر صدقاً من غيرها من الدول وذلك لما لها من قداسة ورمزية لدى المسلمين والعرب. بمجرد ما تعلن المملكة عن موقفها القاطع غير القابل للمفاوضات والنقاش وغير المساومة في تحقيق سلام عادل ودائم لن يكون ممكناً دون تحقيق الشعب الفلسطيني حقوقه الشرعية، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، ولن توافق على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بدون تحقيق هذه الحقوق المشروعة. مجرد هذا الإعلان وبنوايا صادقة سوف تتداعى معه دول عربية أخرى وإسلامية ويخلق زخما وديناميكية مختلفة.