جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-12@07:24:00 GMT

حررينا يا غزة

تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT

حررينا يا غزة

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

كيف تلهث الكتابة حين تصوم الحروف وتفقد شهية الكلام؟ كيف تقنع الأصابع بأن حراكها تباركه الدماء، وترشه السماء الصامتة عن أية ردة فعل تتجاوب مع الصاعدين إليها كل حين، بدون كفن بدون ماء، عطاشى يأملون أن تغيثهم قطرات رحمة تدخر شيئًا لهم.

وهنا أمة تكاد تتبخرُ، أحلامها خواء، وفعلها هباء، ونبضها رياء.

كانت غزة تتابع نومة الغفلة طويلًا، وتسمع شخير التناسي الذي علا صوته فصم أذنيها، كانت ترى أمة بلا ملامح، أمة لها عيون ولا تنظر بها، لها آذان ولا تسمع بها، لها عقول مختومة لا تستعمل، فهناك من يفكر لها ويعبث بها، أمة أصبح عدوها حبيبًا، وقريبها غريبًا، أمة متصحرة القول والفعل والأحاسيس، كانت غزة تنام ولا تنام حسرة ووجعًا على ما آل إليه مصير إخوتها اليتامى بلا راعٍ يهش عليها بعصاه؛ فراقبت وراقبت ودرست وخططت ماذا أفعل كي أنجو بإخوتي وبنفسي مما حلَّ بهم وبي، لا أستطيع أن أسكت أكثر مما سكتُ، كاد الطوفان أن يغرقني، وبقربي وجع لا يهش ولا يكش، وجع يريد منَّا أن نصرخ صرخة سلمية، وحلٌ ومستنقع قد يدفنني ويدفن قضيتي للأبد، ماذا أفعل؟ سنوات تكرر هذا السؤال.

وفي غفلة من الأنس والرقص مدتْ غزة يدها الشريفة المضمخة بقبضة من تراب هاشم بن عبد مناف الذي توسد  تراب الرحلتين، رحلتي الشتاء والصيف، قالت غزة يا أبتِ ماذا أفعل؟ قال أيقظيهم فهم رقود، قالت بل أموات لا يسمعون، لا يرون، لا ينطقون، قال: أنت صحوتهم من الممات فهيا مديهم بالنبض والدماء.

مدت غزة الضعيفة المحاصرة الصغيرة يدها فتدفق من شرايينها دماء المعافاة نهض الصغير قبل الكبير، المسلم قبل العربي، ونهضت الإنسانية في كل مكان، غزة حررينا نحن الأسرى وأنت الحرة الوحيدة.

قالت مصر حرريني فقد تصهين الفضاء والتراب والماء، ونام حراسي فعاثت في جناتي الثعالب التي لم تبشم من سرقات العنب، كررتها مصر حرريني فلم أعد قادرة على البقاء، صاحتْ بغداد حرريني يا غزة، ذهبت أمجاد الرشيد والمأمون والمعتصم، وحلتْ علينا لعنة السماء، قواعد الشر عيونها تحيط بأهلي ولا يستطيعون الدفاع، والخلاص من عين الأسد الماكرة، وعصاباتهم الفاجرة، لايريد سوى النوايا الصادقة، يريد الأوفياء.

صاحت الضفة يدك يا أختاه أكاد اختنق من المتخاذلين الجبناء من لا أعرفهم ولا أعرف من أين جاءوا وجاء، عبس وتولى ثم عبس وعبس وترك الأرض حلالا لكل بغاث الأرض والسماء، قائلا تظاهروا سلميا بحنان.

التفتتْ غزة إذا بدمشق العروبة تبكي حال المسجد الأموي من الرايات السوداء التي تخنقه فلا وجه عبدالملك بن مروان ولا عمر بن عبدالعزيز يُعيد الخلافة السمحاء.

وسمعتْ قلعة حلب الشهباء تتساءل أين سيف دولتي ومتنبيه؟ ولماذا لم تأتِ على قدر أهل العزم العزائمُ.

التفتت غزة إلى بقعة قصية كان بها جنتان، بلدة طيبة ورب غفور، هي مصدر العرب والنقاء فأصبحت فارغة إلا من التناحر والبغضاء وذهب عرش بلقيس وتبدد البهاء.  وما هذه أليست جزيرة محاطة بالماء، إنها شبه جزيرة غناء كساها الله بالخيرات ونامت على حرير الرخاء، عاليها الكويت مكللة بالنور في كل بيت، ويلبس شموخها الأحرار بقربها شامخة قطر تحمل اللواء، وبقربها مكة تنتحبُ وهناك مدينة تنورت بقبر صاحب الحرم الذي رآكم كثرة ولكن كغثاء السيل والهباء.

وتلتمع جوهرتان في الجنوب شرقها لواء متوشح بالإيمان شبابها كنوز يدخرها الزمان تمخر أمجادهم بحرا تطارد قراصنة البرتغال، مشيدة إمبرطورية ممتدة الأركان، جوهرة كل يوم يتسابق شبابها لنصرة حبيبتهم فلسطين وعروسها غزة، ونبضهم الصارخ بهمهم العروبي يكتحل بأمجاد عُمان.

ومن أقصى الشمال نادتها الكبيرة عروبتها وكرامتها وكرمها موريتانيا العروبة والنقاء، وليبيا أسد الصحراء، ووجه مختارها تلبسه غزة اليوم "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"؟

وهذه القمم الخضراء أرض ملايين الشهداء أرض الصمود ورمز التحرر والحرية التي هزئت بآسرها، وأسدلت قميصها على وجه غزة فعادت مبصرة مستنيرة تردد: "قسما بالنازلات، الماحقات والدماء الزاكيات/ الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات". ثم تونس المضاءة بعزائم شبيبتها التي يعانقها حقاً شوق الحياة، وأبت "أن تعيش دوما بين الحفر"، لكن هناك نقطة واحدة تصطف بينهم تكدر النور المنبعث، كيف طبعتْ مع الخنزير المتعطش لشرب الدماء ألم تردعه شجرة النسب الشريف إن صدق الادعاء!

وتدحرجت من غزة دمعة إلى الجنوب؛ حيث يلتقي حُب العروبة بعناق أبدي كما يتعانق النيل الأبيض مع الأزرق وجمال الخرطوم وعزتها عبثت فيه المطامع والأهواء.

عادت غزة إلى عرينها ومدتْ يديها في كل اتجاه سأحرركم جميعًا فاتبعوني ولا خوف ولا شجب ولا تخاذل الضعفاء.

 هنا غزة.. هنا الحياة تنبثق من الموت.. هنا الوطن المظفر يصحو وراياته ترفرف أكاد أراها واشتم عبير نصرها..

هنا أنا غزة حررتكم فعاد النظر ولا عماء حررتكم ولا صمم ولا وباء حررتكم فلا بُكم أنتم، ولا لغة مشوهة الهجاء، هيا معي القدس تنتظر طهارة القلب إليها نعرج كما عرجت قوافل الشهداء، قم لنسري في أرض الإسراء، هيا فقد أفسدوا في الأرض وعلوا علوا كبيرا، هيا لنتبرُ ماعلو تتبيرا، ولنحقق الوعد؛ هو وعدنا السماوي المقدس.. هو وعدنا السماوي المقدس.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الخلايا النائمة التي تقوم الليل إيمانا واحتسابا

اتفقت وسائل الإعلام على تسمية أعداء الحكومة المستترين، بالخلايا النائمة، وكانت نشطت في وقت السحور في الساحل السوري، وهي خلايا متربصة ومتحفزة تتقنع وتتلثم لكن لا تنام، وقد انبعثت بعد ثلاثة شهور من سقوط الأسد ونظامه البائد، ولم يبُدْ بعد فلا تزال منه بقايا فلول غير قليلة.

انبعثت الخلايا، والسوريون لم يشمّوا أقفية أيديهم بعد، كما تقول الأمثال السائرة، فخطفوا أنفارا من الأمن، وارتكبوا مجازر بحق آخرين، وحرقوا جثثهم (ليس لإخفاء الجريمة إنما تنكيلا وإرصادا)، فنفرت لهم جماهير الثورة العسكرية والمدنية، فرأينا أرتالا من المتطوعين بلغت في تقدير المقدرين نحو نصف مليون متطوع، خفافا وثقالا، رجالا وركبانا، وقد استعظم المراقبون عدد المستنفرين، وتذكروا انقلاب تركيا سنة 2016. فقد أحسّ جمهور الثورة السورية بالذعر والغضب معا؛ الذعر من سرقة ثورته ومن عودة أعتى نظام سياسي وأظلمه، والغضب من تغافل القيادة الجديدة وحلمها بالفلول ووضع الندى في موضع السيف.

ووقعت تجاوزات وحدثت انتهاكات من قتل مضاد ونهب انتقامي، ويرجح أنَّ سببه الأكبر هو تأخر قصاص القتلى، فأكثر الثورات استقرارا وأطولها عمرا، كان أكثرها دماء، الثورة في فرنسا وثورة إيران وسواهما. والسبب الثاني هو بطء التقاضي في محاكم العدالة السورية الجديدة، التي يمكن وصفها بالانتقائية، فالقيادة الجديدة تحاول جهدها تدوير المربعات والمثلثات، تعفو هنا، وتعاقب هناك، عين على الشرعية الممنوحة من الغرب -مصدر الشرعيات السياسية- وعين على الشرعية الداخلية، والشرعية الغربية الأمريكية مقدّمة على الداخلية؛ الشرعية الداخلية يمكن انتزاعها بالقوة أما الخارجية فلا تؤخذ إلا بالرضى بل بالطاعة.

يقول مكيافيللي: إنَّ الحنين في الثورات والأنظمة الساقطة إلى زمن الدكتاتور الراحل يقع غالبا بعد سنة من سقوطه، وليس الأسد بدكتاتور يُحنّ إليه إلا من أتباعه وأوليائه، فهي عِشرة، والعشرة لا تهون إلا على الرفيق البعثي، إلا إن كان حنينا مرضيا كحنين المازوشيين، وفي فيلم سوق المتعة يحنُّ السجين المحرر إلى سجنه، فيبني سجنا ويستأجر سجانه السابق ليعذبه.

حنّ الموالون إلى زمن التشبيح الجميل والقتل تحت التعذيب، حيث كانت الرموز رموزهم، والعزة عزتهم، والدولة دولتهم، والرواتب وإن كانت قليلة لكنها جارية وتسند الجرة السحرية، اشتاقوا إلى رئيسهم السابق الهارب، صاحب أجمل رقبة سورية، وسبب تأخر الحنين أنّ حرارة السقطة عطلت الإحساس بالألم إلى حين، أو أن الثائرين على القيادة الجديدة والحانين إلى دولة الغنيمة، أنفقوا جلّ مدخراتهم، أو أن أموالا وردت إليهم، وأوامر فلبوها، والفقر يذكي الحنين والانتقام أيضا.

وقد أُضيفت أسباب أخرى إلى انبعاث ثورة خلايا قيام الليل الأسدية، التي أطلقوا عليها اسم درع الساحل، منها: أنهم قتلة، لا أمل في العفو عنهم، وقد خسروا مناصبهم وعزهم ومجدهم، ورواتبهم، سوى أنهم مدعومون من قوى دولية، أولها إيران التي تصفهم بالثوار في وسائل إعلامها الكثيرة، وبالمقاومة أيضا، وتصف القيادة الجديدة بالإرهابية، تليها روسيا، المهددة بخسارة حمامها الدافئ في حميميم. وروسيا تعمل بصمت وتأنّ، وكانت آوت مئات الأسر العلوية لجأت إليها في القاعدة، ونقلت أخبار عن توكيلات مكتوبة تطلب من روسيا تدخلا دوليا. تساعد إيران وروسيا دول عربية وصيفة للدولتين المذكورتين، تخفي بغضا فوقه رضى، للثورات العربية عامة، والإسلامية خاصة.

وإن كون سوريا أهم دولة عربية، لتوسطها، وحيوية شعبها، سببٌ آخر، وهي مجاورة لتركيا الصاعدة، ويجري الحديث في وسائل التواصل عن الانبعاث الأموي ردّا على تصدير التشيع.

بل إن نازحين ومهاجرين شدّوا المئزر وهمّوا بالتشمير إلى سوريا بعد وقوع عمليات "درع الساحل"، خوفا من احتمال عودة النظام، الذي راع الشعب، ولا تكاد تجد أسرة سورية سنية (من غير اعتذار عن ذكر اللفظ) إلا وقد نُكّل بها ونكبت. تأخر القصاص، والقيادة الجديدة تحابي بعض المتهمين، وتغضي عن بعضهم الآخر، وهي تتقدم -الشعب الذي يريد الانتقام- بكثير، إما لأنها تريد الاستقرار وتتلمس طريقها الوعر، أو لأن الدولة المنكوبة تريد الاستفادة من أموالهم، فالخزنة خالية، وسوريا محاصرة، والقيادة محاصرة بين "صديق فأعيا أو عدو مداجي"؛ وهما مرضاة لمجتمع دولي معاد، وعربي علماني، يتوجس من الثورات الإسلامية، يضاف إلى ما ذكر من تردد القيادة السورية الجديدة وثقل الميراث الدموي الطويل.

أما مطالب نخبة السوريين ونشطاء الإعلام التواصلي، فعجيبة، كأن تتوجس نخبة من تجنب الرئيس الشرع ذكر الديمقراطية، وذكر بدلا منها الشورى، ويتخوف معارض له متابعون كثر من محظورات التمثيل التلفزيوني في غرفة النوم، ويستنكر آخر طول اللحى، ورابع يندد بالذكورية، فالذكورية تهمة، وخامس يندد بالجلابية التي يرتديها الرئيس في صور قديمة.. الجميع يحبون الإناث والتأنيث، والوجه الحليق، ويريدون مدينة فاضلة الآن وحالا، علمانية وديمقراطية وتحارب الإرهاب، تكثر في حكومتها الإناث السافرات الجميلات، وفي مسلسلاتها غرف نوم بمشاهد "جريئة". يقول الخائف على خسارة المشاهد الجريئة: "إن السعودية نفسها لم تعد تتقيد بهذه المحظورات".

وصفقت خلايا إعلامية ساهرة لأخبار تشي بصدور قانون قيصر جديد ضد القيادة الجديدة، بل إن معارضا سنيا معروفا قضى ردحا من الزمن في المعتقلات جاهر بحنينه إلى الأسد وفضّله على الرئيس الجديد الذي لم يحكم بعد!

يصعب تمييز غث الأخبار السائلة من سمينها، والصادق منها والكاذب، والتوثق من الصور المختلقة، وهي لمذبوحين وقتلى ما زالوا أحياء، وهنات الأمور مثل الحزن على نصب السيف الدمشقي الذي كسي بالبلاستيك في الشتاء وليس بالحرير! يقولون إنّ النصب هو لسيف دمشقي، صممه فنان مصري، والأمر يحتاج إلى شاهدين، فارسين، عدلين، ورئيس يضع السيف -وليس النصب- في مواضعه، غير خالط بين الندى والعدا.

x.com/OmarImaromar

مقالات مشابهة

  • الرئيس الإيراني يفاجئ ترامب: لا تفاوض تحت التهديد.. أفعل ما تريد
  • شباب ليبيا يناقشون التحديات التي تواجه الاقتصاد
  • عودة السانات والراسطات والناس الواقفة قنا !!
  • التعليم تنشر أسماء المدارس التي تعمل في وسط قطاع غزة
  • ما المعطيات العسكرية التي أدت إلى اتفاق دمشق وقسد؟
  • الإطار التنسيقي يدين المجازر التي يتعرض لها المواطنون في سوريا
  • الخلايا النائمة التي تقوم الليل إيمانا واحتسابا
  • أبي أوصى بالحج عنه ولكن التكاليف مرتفعة فماذا أفعل؟.. الإفتاء تجيب
  • أمريكا تندد بالمجازر التي حدثت في الساحل السوري
  • سموتريتش: نعمل مع أمريكا لتحديد البلدان التي سيهاجر إليها سكان غزة