-1-

الثقافة  -كأصل عام- مفهوم تراكمى يستوعب التعدد. تنطوى أى ثقافة على عدد من الثنائيات الداخلية الظاهرة أو المضمرة، التى تعكس صورًا من التباين الاقتصادى أو العرقى أو اللغوى أو الدينى. وبوجه عام تتكفل غريزة الاجتماع باستيعاب هذه التباينات فى إطار فكرة «الدولة»، التى تتوفر، إلى جانب «القانون» على آليات لازمة لضبط التوتر الاجتماعى.

لا تؤدى التباينات الاجتماعية بحد ذاتها إلى خلق التوتر، لكنه ينشأ حين تظهر ثقافة أحادية نافية، تعى نفسها كممثل وحيد للحقيقة ومالك حصرى للمجتمع.

تاريخيًا، لم تتسب التباينات «الدينية» فى خلق توتر اجتماعى أو سياسى واسع النطاق قبل ظهور نسق التدين الإبراهيمى، الذى دشنته اليهودية والذى استحدث مفهوم التوحيد الحصرى، وأسبغ على الدين طابعه السياسى التشريعى. صار الدين يقدم كأطروحة شمولية مكتفية بذاتها ومهيمنة على المجالين العام والخاص، أى كثقافة نافية لأى « آخر» اجتماعى وعصية على الاندماج أو التفاعل مع مفردات الثقافة العامة الحاضرة بقوة الواقع. تم تكريس هذا الطرح وتثبيته، على مستوى الديانات الثلاث، من خلال «مدونة مكتوبة» تمثل « النسخة الرسمية» من الديانة، ويجرى الترويج لها بواسطة طبقة محترفة من الكهنة والفقهاء.

مع ذلك وبحكم واقعة التنوع، فرضت التعددية نفسها داخل الدين، ولم تستطع النسخة الرسمية منع تشكل نسخ تدين متعددة تعبر عن صور فهم مختلفة، أى لم تستطع استغراق الثقافة داخل إطار الديانة ذاتها. ولم تستطع بالأحرى استغراق الثقافة داخل الاجتماع الخام. (هنا تظهر الثقافة كمفهوم عام أوسع من الدين).

فى السياق الإسلامى تشكلت ثقافة دينية أوسع من النسخة الرسمية التى صنعها «الفقه» بطابعه النقلى التفصيلى، وظهرت صيغ من التدين الصوفى، والكلامى، والفلسفى، إضافة -بالطبع- إلى صيغة التدين الشعبى الدارجة التى تصدر عن النزوعات المباشرة والحاجات اليومية المتجددة، والتى تبدو -لذلك- أكثر مرونة وقدرة على التحول الاجتماعى (هنا يظهر الفقه كمفهوم جامد مثبت فى كتاب). ثمة على الدوام مسافة تفصل بين النسخة الرسمية ونمط التدين الشعبى، وهى تفسر المسافة الواضحة بين هذا النمط الأخير والفكر الأصولى الذى يصر على استناخ الفقه وتثبيت الفكرة الحصرية.

-2-

فى سبعينيات القرن الماضى بدأت تظهر بوضوح نتائج النشاط الأصولى التى ظلت تتراكم فى مصر منذ أوائل القرن؛ نجحت القوى الأصولية فى تحويل التراث الإسلامى إلى أيديولوجيا سياسية مناهضة لقيم الحداثة والدولة المدنية، وبانت ملامح واضحة لنكوص سلفى ظاهرى على المستوى الشعبى، وتراجع نسبى فى وعى الدولة بدورها التجديدى المدنى.

بتحويل التراث إلى أيديولوجيا سياسية، وتطوير ثقافة سلفوية موازية للثقافة المدنية، نجح التيار الأصولى فى خلق حالة من التوتر داخل المعادلة الثقافية القائمة، والتى صارت تتجه من التوفيق إلى المواجهة. فما حدود هذا التوتر فى اللحظة الراهنة؟ هل نحن حيال صدام كلى يعيد طرح سؤال الهوية؟ أم حيال تراشق عنيف نسبيًا، يجرى فى إطار العملية التحديثية ولا يقطع مسارها؟

طرح سؤال الهوية هنا سيعنى أن المجتمع وصل إلى لحظة اضطراب ثقافى تفرض عليه الاختيار بين التجديد المدنى والتراثية الدينية. فهل وصل المجتمع فعلًا إلى هذه اللحظة؟ وهل بإمكانه حسم الخيار لصالح أحد الطرفين فى ظل الظروف الواقعية الحاضرة؟

الوصول إلى هذه النقطة يفتح النقاش على أسئلة ثلاثة:

إلى أى مدى تمكنت الأصولية من اختراق نمط التدين الشعبى وتشويش خصائصه التوفيقية المعتدلة؟

إلى أى مدى نجحت فى الضغط على الدولة وتخفيف توجهاتها التجديدية المفترضة؟

وفى السياق ذاته، إلى أى مدى أسفر هذا الضغط عن إعادة شحن القوى التراثية التقليدية، واستفزاز نوازعها السلفية الكامنة؟ أشير هنا إلى الأزهر كمؤسسة دينية معروفة بتوجهها الأشعرى الوسطى، وتبعيتها الرسمية للدولة.

-3-

يمكن الحديث عن انقطاع جزئى، لكنه واضح، فى عملية التحديث الواسعة التى بدأت «كمشروع للدولة» فى مطلع القرن التاسع عشر، قبل أن يتحول إلى «مشروع وطني» على يد تيار النهضة، الذى حمل عبء التنظير والترويج للحداثة. بفعل الأصولية تم طرح «التراث» كثقافة اجتماعية «واعية» تقابل ثقافة التجديد الجارية وتسعى إلى نفيها، وبالنتيجة صارت «الازدواجية الثقافية» تكشف عن جانبها الإشكالى.

بعد حوالى قرنين من إطلاقها، لم تعد العملية التحديثية فى مصر تشير إلى تحول هامشى أو توجه نخبوى كما تروج الأدبيات الأصولية، بل إلى «حالة مدنية» واسعة تمثل شقًا من ملامح الشخصية المصرية يتداخل مع الشق التراثى بخصائصه التاريخية المعتدلة. منذ البداية وبفعل هذه الخصائص، جرى استقبال التحول المدنى واحتواؤه داخل الثقافة العامة بسلاسة نسبية: فرضت «الفكرة الوطنية» حضورها من خلال الدولة والدستور المدنى، وتم تمرير القوانين «الوضعية» الجديدة دون صدام جدى مع القوى التراثية التقليدية بما فى ذلك الأزهر. وامتد التحديث إلى النظام الإدارى والنظام القضائى والنظام التعليمى، بالتوازى مع الإصلاحات الاقتصادية الواسعة فى المجال الزراعى والصناعى والتجارى، التى ساعدت على خلق نواة لطبقة وسطى ذات ملامح مدنية، ونشر مظاهر اجتماعية جديدة فى الأزياء والعلاقات وطرق التخاطب، فضلًا عن وضعية المرأة التى خلعت الحجاب وصارت تخرج إلى العمل. وبوجه عام، تشير الحالة المدنية -الآن- إلى طيف واسع من المكاسب الحداثية (السياسية والدستورية والقانونية والتعليمية والفكرية والفنية) التى صارت تحظى بحضور ثابت فى الوعى المصرى. لكن المظهر الأول لهذه الحالة والشاهد الأهم على قوتها هو الحضور المتواصل للدولة (المدنية التى تقوم على فكرتى القانون والمواطنة).

أظهرت الثقافة المدنية قدرة على التوافق مع الفهم الشعبى للتراث، أعنى مع نسق التدين الشعبى البعيد بطبيعته عن التطرف. لم تطرح هذه الثقافة نفسها كنقيض موضوعى للدين كما حدث فى السياق الأوربى المبكر، بل كبديل منقح للنظام الاجتماعى القديم الموروث من « مدونة» تدين تاريخية جامدة. فهى لم تدخل فى صدام مع الفكرة الكلية للدين كجوهر إيمانى أخلاقى، بل لفتت الانتباه إجمالًا إلى ما ينطوى عليه النظام التراثى من مشاكل تعوق عملية التطور والإصلاح الاجتماعى. وفى هذا السياق بدا من الممكن إيجاد صيغة للتوافق بين مطالب التحول الحداثى والطبيعة المعتدلة للتدين المصرى المكتسبة من تراكم ثقافى تعددى طويل.

يعتمد التدين المصرى -مثل أنساق التدين الشعبى عمومًا- على نزوعاته العملية المرنة التى تمكنه من استيعاب التطور بإيقاع أسرع من إيقاع المدونة التراثية المكتوبة، التى تصدر عنها الأصولية المتطرفة أو بالأحرى عن المناطق الأكثر عتامة وتشددًا فيها. وبوجه خاص، يتوفر الوعى المصرى الدارج على مخزون لاشعورى تعددى، ونوع من ثقافة «التوفيق» الموروثة من تعاقب الروافد الحضارية وتداخلها على مدى زمنى طويل (مصرية قديمة / يونانية/ مسيحية قطبية/ رومانية/ إسلامية/ أوربية حديثة). وهى الثقافة التى صبغت التدين الإسلامى فى مصر بسماته الوسطية «الأشعرية» المنفتحة نسبيًا على التصوف، والأقل تشددًا حيال التشيع. وهى أيضًا الثقافة التى استوعبت الثنائية المسيحية/ الإسلامية عبر مراحل سياسية واجتماعية متعاقبة، وعبرت عن ذلك بشكل أوضح فى مرحلة المد المدنى، أى قبل ظهر التيار الأصولى.

-5-

أحرزت الأصولية تمددًا واضحًا لأربعة عقود تالية على العهد الناصرى. من زاوية مباشرة، يمكن رصد العديد من الظواهر التراثية «المعاكسة» على مستوى السلوك، والمظهر الشخصى، وطرق الخطاب، والتعاطى مع مسألة المرأة ومسألة الفن، ومسألة العنف والتفكير فى الدولة والآخر الدينى. وفى إطار من الشحن السياسى والتنظير الفقهى صارت هذه الظواهر تشير إلى ثقافة واعية بذاتها كنقيض للنموذج «الحداثى» الذى تمثله المكاسب المدنية، وفى الوقت ذاته كنقيض للنموذج «التقليدي» الذى يمثله التدين الشعبى.

هذا التناقض الأخير يكشف عن طبيعة العلاقة بين التيار الأصولى والثقافة الشعبية؛ (التيار الأصولى لا يحترم الثقافة الشعبية التى تتوجس من الأصولية).

بالطبع، جرى التمدد الأصولى خصمًا من مساحة التدين الشعبى (القابل للاستثارة والاستقطاب الوقتي)، لكن الأصولية لم تستول على هذه المساحة كليًا. يمكن الحديث عن اختراق «جزئي» لكن واضح على المستويين الكمى والموضوعى، لكن الخصائص الطبيعية المرنة للتدين الشعبى ظلت تحافظ على تماسكها داخل بنيته المركزية الواسعة. وفى هذا السياق يلزم ملاحظة أن موجات التمدد الحداثى المعاكسة لم تنقطع طوال الوقت، والأهم ملاحظة التراجع التدريجى فى وتيرة الاندفاع الأصولى خلال السنوات العشر الأخيرة.

واقعيًا، يمكن الرهان دائمًا على الخصائص التوفيقية للتدين الشعبى لاحتواء التطرف، ومن ثم إعادة التوازن إلى معادلة الثنائية الثقافية.

يتبع....

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الثقافة لمجتمع

إقرأ أيضاً:

مدير عام المعرفة والتنمية الثقافية لـ"الرؤية": الثقافة العمانية لديها حضور قوي بالمحافل الدولية

القاهرة- الرؤية

أكد الشيخ عبدالله بن محمد بن سعيد الحارثي، مدير عام المعرفة والتنمية الثقافية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، أن سلطنة عُمان تشهد حراكا ثقافيا واضحا وملموسا، تقوم به الجهات الرسمية المعنية، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني.

وأضاف- في تصريحات لـ"الرؤية"- أن هذا الحراك يتمثل في طيف واسع من الفعاليات التي تقام طيلة العام، مثل المهرجانات والمؤتمرات والندوات والمعارض الفنية والمحاضرات العلمية المتنوعة، بالإضافة إلى معرض مسقط الدولي للكتاب، ومعارض الكتاب الداخلية.

وأوضح الحارثي أنه يوجد حركة نشر ملموسة في سلطنة عُمان، إذ تصدر خلال عام العديد من الكتب العمانية، سواء عبر المؤسسات الحكومية، أو عبر مؤسسات النشر الأهلية، أو تحقيق المخطوطات القديمة وطباعتها، مضيفا أنه على المستوى الخارجي هناك حضور عماني واضح في مختلف دول العالم، حيث باتت الثقافة والفنون العمانية حاضرة في المحافل الدولية.

وحول مشاركة سلطنة عُمان كضيف شرف في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 56، أكد الشيخ عبد الله بن محمد الحارثي أن هذه الاستضافة تنطلق من دلالات حضارية وموضوعية عديدة، فهي تأتي تقديرا للعمق الحضاري والتاريخي لسلطنة عمان واعترافا بمنجزها المعرفي وإسهامها الثقافي الكبير الذي قدمته للبشرية في كل مناحي الحياة عبر القرون، كما أنها تجسد عمق الروابط الوطيدة بين سلطنة عمان وجمهورية مصر العربية كحضارتين عريقتين بينها الكثير من القواسم المشتركة، والمصالح المتبادلة التي تمتد إلى آلاف السنين.

وأضاف أنه لهذا السبب فإن سلطنة عمان تنظر إلى هذا المشاركة، باعتبارها تجسيدا عمليا لكل لتك الوشائج النبيلة التي تجمع بين بلدينا الشقيقين.

وتحدث عن استعدادات وزارة الثقافة والرياضة والشباب لمثل هذه المشاركات قائلا: "الوزارة باشرت تحضيراتها واستعداداتها لهذه المشاركة على نحو مبكر، حرصا من المعنيين على أن تكون المشاركة بالشكل المأمول الذي يليق بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ويرقى إلى طموحاتنا لتمثيل بلدنا في مثل هذه المحافل بالمستوى الذي نتطلع إليه جميعا".

وتابع قائلا: "جرى في هذا الشأن إعداد برنامج ثقافي شامل، يتضمن مختلف المفردات الثقافية والفنية والإبداعية، بهدف تعريف الجمهور المصري بسلطنة عمان ماضيا وحاضرا، والتأكيد على الأبعاد الحضارية والتاريخية التي تربط بين الجانبين منذ أقدم العصور".

وأشار إلى أن الزائر للجناح العماني الموحد سيجد العديد من المحتويات والمعروضات المختلفة، مثل المخطوطات النادرة والمواد الفيلمية التعريفية بعمان والصور الفوتوغرافية، والأعمال الفنية التشكيلية والضيافة، ومعرض الشخصيات العمانية المؤثرة عالميا، وبعض الإصدارات من الكتب والمجلات وغيرها، إلى جانب ذلك هناك العديد من المكتبات ومؤسسات النشر العمانية، التي تقدم إصداراتها لزوار معرض القاهرة الدولي للكتاب بأسعار منافسة.

وأكد أن سلطنة عمان لديها إرث فني كبير يمثل مختلف مناطق البلاد، مبينا: "نسعى من خلال مشاركاتنا الخارجية للتعريف بهذا الإرث لدى مختلف الدول. ونرى أن هذه المشاركة الفنية تحقق أكثر من هدف، فهي من ناحية تقدم ترفيها جميلا لزوار المعرض وتثري الفعاليات بشكل مختلف، ومن ناحية أخرى تسهم في التعريف بفنوننا العمانية الأصيلة وتسعى لنشرها خارجيا".

مقالات مشابهة

  • معرض الكتاب يسلط الضوء على العلاقات الثقافية بين مصر وتونس والسعودية.. صور
  • وزير التعليم يبحث تعزيز التعاون مع مدير العلاقات الثقافية بالخارجية الألمانية
  • وزير التربية والتعليم يلتقى مدير العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية الألمانية
  • وزير الثقافة يفتتح فعاليات الأيام الثقافية المصرية في قطر
  • أحمد فؤاد هنو يفتتح فعاليات "الأيام الثقافية المصرية في قطر"| صور
  • مدير عام المعرفة والتنمية الثقافية لـ"الرؤية": الثقافة العمانية لديها حضور قوي بالمحافل الدولية
  • اليوم.. انطلاق فعاليات «الأيام الثقافية المصرية في قطر»
  • وزير الثقافة يتفقد استعدادات انطلاق فعاليات الأيام الثقافية المصرية فى قطر
  • وزير الثقافة يتفقد استعدادات انطلاق فعاليات الأيام الثقافية المصرية في قطر
  • هنو يتفقد الاستعدادات النهائية لانطلاق فعاليات الأيام الثقافية المصرية في قطر