جريدة الوطن:
2025-01-31@00:42:14 GMT

بين الجامعة والمجتمع «2»

تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT

بين الجامعة والمجتمع «2»

على المرء أن يعترفَ أنَّ عددًا ضئيلًا من الجامعات في العالَم العربي حاولت، بشيء من الجديَّة، تجسير البون بَيْنَ المُجتمع والمؤسَّسة الأكاديميَّة عَبْرَ جهد لا بأس به من أجْل قطع نصف المسافة بَيْنَ الجامعة والمُجتمع. واحدة من التجارب الَّتي تستحقُّ الاستذكار برزت في جامعة بغداد، حيث اشترطت القيادات الجامعيَّة وقتذاك أن تصممَ مشاريع الأبحاث وأطروحات الدراسات العُليا (الماجستير والدكتوراه والدبلوم العالي) على أساس الجدوى الاجتماعيَّة أو التنمويَّة للبلد، في محاولة لتقديم الدراسات التطبيقيَّة ذات الجدوى المطلوبة على الدراسات النظريَّة العامَّة الَّتي لا تجد لنَفْسِها طريقًا إلى التطبيق والفائدة.

لقَدِ اصطدمت هذه التعليمات أو الشروط المسبقة بعددٍ لا بأس به من أصوات الاعتراض وتعابير التبرُّم، خصوصًا من قِبل الأساتذة الَّذين يرومون أن تبقى المؤسَّسة الأكاديميَّة وأنشطتها بعيدة عن (التوجيه) المركزي، مؤكِّدين أنَّ البحث العلمي لا ينبغي أن يوجّهَ أو أن يؤمّمَ، كما كانوا يعتقدون. ومع تطبيق هذه المبادئ المفيدة، تحقَّق شيء من النجاح، خصوصًا في العلوم الصرف والتطبيقيَّة، ولكن انزلق البحث العلمي في حقول العلوم الإنسانيَّة إلى مهاوي التسييس وخدمة خِطاب السُّلطة. لذا، ظهرت أطروحات دراسات عُليا تحاول المقارنة بَيْنَ ملوك ما قَبل التاريخ مع رئيس العراق آنذاك. وقَدْ ضخَّت المئات من هذا النَّوع من الأطروحات الَّتي كان يُراد لها أن تقدِّمَ هدايا لـ(تلطيف) مشاعر ولاة الأمْرِ، دُونَ الاهتمام بالحياديَّة العلميَّة والأكاديميَّة المطلوبة. لذا، فإنَّه ما أن دار دولاب الزمن والسِّياسة أحيلت مِثل هذه الأطروحات إلى رفوف المكتبات الجامعة لغبار الأيَّام، ثمَّ إلى سلال المهملات، بَيْنَما بَقِيَ كتَّابها يتبرَّمون ويبحثون في عواصم دوَل الجوار عمَّن يعترف بأطروحاتهم وبدلالاتها غير العلميَّة لغرض تعيينهم وحصولهم على ما يكفي لسدِّ الرمق. بل إنَّ البعض من هؤلاء راحوا يخبِّئون أطروحاتهم خشية الإدانة وما يترتب عَلَيْها من مسؤوليَّات. ولَمْ تزل وسائل الإعلام العراقيَّة تشهد تنابزًا بالألقاب وتشهيرًا بَيْنَ أصحاب مِثل هذه الأطروحات الَّتي لَمْ تكتب إلَّا لدرجات حرارة معيَّنة. لقَدْ كانت هذه واحدة من أهمِّ مهاوي «تكريس الجامعة لخدمة المُجتمع»، حيث استحال (المُجتمع) هنا إلى (السُّلطة).
وبملاحظة جميع هذه النماذج المؤسفة لهدر الطاقات وتبديد الأموال، نجحت بعض الجامعات العربيَّة في تتبُّع خُطَى الجامعات الغربيَّة بعدما حاولت تدوير الدوافع المادِّيَّة على سبيل تشجيع البحث العلمي المُجدي الَّذي يصبُّ في خدمات اجتماعيَّة وتنمويَّة ملموسة. لذا برزت فكرة (المكاتب الاستشاريَّة) الَّتي تُشكِّلها الجامعات أو الكُليَّات المنفردة كحلقة وصل بَيْنَ الجامعة والمُجتمع عَبْرَ محاولة تفعيل معارف وخبرات الكفاءات العلميَّة الرفيعة الموجودة في الجامعة من خلال تقديم المشورة والمقترحات والتصميمات وحتَّى التنفيذ لمشاريع حكوميَّة أو فرديَّة، مقابل مكافآت ماليَّة تقتسمها الجامعة مع الأستاذ المختص. وهكذا ظهرت مكاتب استشاريَّة جامعيَّة جيدة في حقول الهندسة والتصميم المعماري، وأخرى في حقول الترجمة والتعريب، وأخرى في حقول الحسابات ودراسات الجدوى الاقتصاديَّة، من بَيْنَ حقول علميَّة أخرى تمكنت من مدِّ خيوط التواصل مع تطلُّعات الجمهور. ولكن، مرَّة أخرى، ظهرت لهذه المكاتب مثالبها واختلالاتها عَبْرَ التطبيق، حيث برزت المحسوبيَّة والمنسوبيَّة وهيمنت القيادات الجامعيَّة على عمليَّة إحالة المشاريع للمقربَيْنَ وللمحظيين، مع توكيد خاص على (حرمان) الأكاديمي المختص من توقيع عقود مستقلَّة مع الشركات أو المؤسَّسات الحكوميَّة باعتبار أنَّ الأستاذ الجامعي إنَّما هو جزء من (أملاك) الجامعة وليس ملكًا لنَفْسِه! وهكذا أخذت أدوار المكاتب الاستشاريَّة الأكاديميَّة في التراجع الملحوظ والتردي الواضح نظرًا لسيادة الرواسب الاجتماعيَّة الرجوعَّية، وتعاظم النظرة الخاطئة إلى الأستاذ المختص باعتباره كينونة (مؤممة) لا يُمكِن أن تتصرفَ لمصالحها الفرديَّة. وهكذا تحوَّلت المكاتب الاستشاريَّة الَّتي أُريد لها، أصلًا، أن تجسرَ البون بَيْنَ الجامعة والمُجتمع إلى أدوات لـ(حلب) الأستاذ الجامعي المختص واستدرار كلِّ معارفه وخبراته عَبْرَ آليَّات ماليَّة تكُونُ فيها القيادات الإداريَّة الجامعيَّة (خصوصًا الحكوميَّة) هي المستفيد الرئيس، بَيْنَما يكُونُ صاحب العقل الذَّكي والمستنير (ضحيَّة) من ضحايا الاستغلال!
إنَّ الجامعات في العالَم العربي بحاجة ماسَّة للانتقال من الكلام التنظيري غير المُجدي الباردة إلى سخونة العقل والتفعيل التطبيقي الَّتي تشترطها عمليَّة التواشج بَيْنَ الأكاديميَّة والمُجتمع. لذا يكُونُ من الضروري التخلص من الرواسب الاجتماعيَّة الرجعيَّة في الأوساط الجامعيَّة؛ لأنَّها تُمثِّل أهمَّ مسبِّبات الإعاقة والتعويق على طريق مدِّ الجسور بَيْنَ المؤسَّسة الأكاديميَّة والمُجتمع. لسنا بحاجة لتقديم قوائم طويلة وزاخرة بأعداد خريجي البكالوريوس والدراسات العُليا للقيادات السِّياسيَّة، بقدر ما نحن بحاجة ماسَّة لتفعيل الخبرات الأكاديميَّة لتغذية داخل الإناء المُجتمعي على سبيل خدمة برامج التنمية الحقيقيَّة الَّتي تتطلب بناء إنسان حقيقي وليس تقديم إنسان لا يملك سوى (وريقة) اسمها الشهادة أو الدرجة العلميَّة.

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الجامعة والم ة الأکادیمی الم جتمع فی حقول

إقرأ أيضاً:

الفاو: “75 %” من حقول القطاع تضررت وخسائر الثروة الحيوانية تصل لـ”96 %” 

 

الجديد برس|

 

حذرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” من إن 75% من الحقول في القطاع والتي كانت تستخدم في السابق لزراعة المحاصيل وبساتين أشجار الزيتون، قد تضررت أو دُمِّرت بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.

 

وأشارت الفاو الى الشح الحاد لمياه الري، بينما وصلت خسائر الثروة الحيوانية إلى 96% وتوقف إنتاج الحليب تقريباً ، ولم يبق على قيد الحياة سوى 1% من الدواجن، ويوشك قطاع صيد الأسماك على الانهيار في القطاع

 

مقالات مشابهة

  • النواب يشكلون لجنة لمتابعة أزمة جامعة اليرموك: خطوة نحو الإصلاح الأكاديمي والإداري
  • رئيس جامعة الأزهر يتفقد مستشفى سيد جلال الجامعي
  • سعود بن صقر: تطوير التعليم الأكاديمي ركيزة أساسية في رؤية رأس الخيمة
  • سعود بن صقر: التعليم الأكاديمي ركيزة أساسية للتنمية والازدهار
  • الفاو: “75 %” من حقول القطاع تضررت وخسائر الثروة الحيوانية تصل لـ”96 %” 
  • رئيس الجامعة البريطانية يستقبل رئيس البرلمان العربي لتعزيز التعاون الأكاديمي
  • رئيس الجامعة البريطانية يبحث مع رئيس البرلمان العربي تعزيز التعاون الأكاديمي
  • "تنمية قدرات ومهارات أفراد الأمن الجامعي" فى برنامج تدريبي بجامعة أسيوط
  • تعرف على اهم قرارات اجتماع المجلس الأكاديمي السادس لجامعة أسيوط اليوم
  • أحمد بكيرات: الخير متأصل في المجتمع الإماراتي