لا مكان لمناصري فلسطين على فيسبوك.. هل الحل في منصات لا مركزية؟
تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT
على مدار السنوات الماضية، اعترض النشطاء وجماعات حقوق الإنسان في فلسطين، وفي مختلف أرجاء المنطقة العربية، على استهداف فيسبوك المجحف والعبثي للمحتوى الخاص بالمجتمعات المهمشة والمضطهدة، وخاصة المحتوى المناصر للفلسطينيين. يحدث ذلك في الوقت الذي أصبح فيه الفضاء الإلكتروني هو المتنفس الوحيد لتلك المجتمعات للتعبير بحرية عن آرائها، ونشر أخبارها وما يحدث هناك من وقائع وجرائم وحشية، وتجاوز الرقابة والقمع الذي تفرضه دولة الاحتلال.
في عام 2016، بعد أن عقدت فيسبوك اتفاقية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ازداد استهداف المحتوى الفلسطيني على المنصة، تحت إطار مجموعة مخصصة من السياسات، بما يشمل إغلاق أو تعليق حسابات الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والنشطاء وأي صفحة تتحدث عن القضية، بالإضافة إلى حسابات المستخدمين العاديين، بحجة إزالة "خطاب الكراهية" أو مواجهة "معاداة السامية" (1)، وهو ما دفع المستخدمين الفلسطينيين إلى إطلاق حملات احتجاج على الرقابة المفروضة على أصواتهم على منصة التواصل الاجتماعي الأكبر عالميا.
في كل مرة تتكرر جرائم الاحتلال ضد شعب فلسطين، من قصف وحشي وعدوان على غزة والأراضي المحتلة، يواجه المستخدمون العرب تلك المخاوف من كتمان الأصوات على حساباتهم الشخصية، خوفا من خوارزميات فيسبوك التي تقوم بحذف المحتوى ووقف الحسابات. المنصة أصبحت تستخدم خوارزمياتها بصورة وحشية تماما، فمجرد أن تظهر كلمات مثل إسرائيل أو فلسطين، يتحول الأمر إلى ما يشبه العقاب الجماعي، دون النظر حتى إلى السياق، وهذا ما نشهده فعلا منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
على مدار العقد الماضي، تحولت فيسبوك من مجرد منصة للتواصل إلى جزء أساسي ومحوري من حياتنا الرقمية على الإنترنت، ولا توجد مبالغة في أنها أحد أكبر المواقع التي تهيمن على الشبكة بأكملها حاليا. لكن مع اكتساب تلك المواقع لمزيد من المستخدمين، ومع زيادة شعبيتها أكثر، تحولت شبكة الإنترنت إلى مكان مغلق أكثر، تسيطر عليه أربع أو خمس شركات كبرى، وهذا ما خلق ما بات يُعرف بـ"مركزية الإنترنت.
مركزية الإنترنت
في بدايات عام 1958، وبعد إطلاق الاتحاد السوفيتي لأول قمر صناعي "سبوتنيك 1″، أوكل الرئيس الأميركي حينها دوايت أيزنهاور لوكالة الأبحاث والمشاريع المتقدمة (ARPA)، التي يمكن اعتبارها الذراع اليمنى البحثية لوزارة الدفاع، تنسيق جميع برامج البحث والتطوير الدفاعية، ومن ضمنها تولي سباق الفضاء مع السوفييت. لم تكمل الوكالة مهمتها في أبحاث الفضاء، لأن وكالة ناسا ظهرت في العام نفسه وتولت تلك المهمة. لكن التأثير طويل الأمد لهذا المسار الجديد كان إطلاق مجرة كاملة من الاتصالات الجديدة، أُطلق عليها أول مرة "ARPANET"، ثم لاحقا عرفناها باسم "شبكة الإنترنت" (2).
عام 1994، ظهر مصطلح "Web 1.0" للجمهور العام، مع ظهور المتصفحات ومواقع الإنترنت، بعد 3 عقود تقريبا من ظهور "ARPANET" كشبكة لربط أجهزة الحاسوب داخل مؤسسات البحوث الخاصة بالبنتاغون على خطوط الهاتف الأرضي. كانت أول نسخة من الويب تتكون من مجموعة من صفحات المواقع الثابتة، ولم تمنح المستخدمين القدرة على التفاعل.
ولكن جاء عام 2004، وبدأ الإنترنت في التطور أكثر، وبدأ طلب المستخدمين يزيد أكثر على التفاعلات الاجتماعية، وحينها بدأت تظهر وتنتشر فكرة المنتديات، ثم مشاركة الموسيقى ومشاركة مقاطع الفيديو القصيرة، ثم بدأت تنمو المعاملات المالية على الشبكة بصورة أكبر بسبب تحسن سرعة الإنترنت وتطور البنية التحتية للألياف البصرية، وتطور محركات البحث.
أدى ارتفاع هذا الطلب على التفاعل والتواصل إلى ظهور العديد من شركات الإنترنت الكبرى التي نعرفها اليوم، مثلا بدأت تظهر منصات التواصل الاجتماعي، لتستبدل المنتديات، بداية من فيسبوك وبعدها تويتر وغيرها، وسهلت التواصل والتفاعل بين المستخدمين. بينما وفرت غوغل وسيلة فعالة للمستخدمين للتنقل داخل الشبكة، والبحث في كمية هائلة من البيانات، كما وفرت ويكيبيديا مكتبة ضخمة من المعلومات.
معظم تلك المواقع قامت على المحتوى الذي يشاركه المستخدم بنفسه، بدلا من تلقي المحتوى من المواقع ذات الصفحات الثابتة، وتلك ما يُطلق عليها المرحلة الثانية من الويب أو "Web 2.0″، وهي المرحلة التي نعيش بها الآن فعلا على شبكة الإنترنت. هناك مجموعة من الشركات العملاقة تسيطر بكامل قوتها على الشبكة العنكبوتية، وتحقق من ورائها أموالا طائلة على حساب المستخدمين.
حلم اللا مركزية
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم عام 2008، وتحديدا في مساء الثالث من شهر يناير/كانون الثاني عام 2009، نشر المبرمج الغامض ساتوشي ناكاموتو الورقة البيضاء لأول عملة رقمية مشفرة "بيتكوين"، ومعها حدد أساسيات تقنية سلسلة الكتل "بلوكتشين" (3).
يمكننا تشبيه تقنية "بلوكتشين" بدفتر محاسبات عملاق، تُسجل به كل عملية تداول للعملة المشفرة. تُشفّر كل معاملة، ويتحدد المرسل والمستقبل فقط من خلال سلسلة من الأرقام، ولكن يُنشر سجل عام لكل حركة عملة عبر الشبكة بأكملها. تظل هوية المشتري والبائع مجهولة، ولكن يمكن للجميع رؤية انتقال العملة من الشخص رقم "1" إلى الشخص رقم "2"، ويمكن للكود البرمجي أن يمنع الشخص رقم "1" من إنفاق العملة نفسها مرة أخرى.
سيسمح الكود البرمجي بإرسال الأموال مباشرة بين الأشخاص، دون وسيط، ولا يمكن لأي طرف خارجي صنع المزيد من عملة "بيتكوين"، مثلما تُطبع العملات الورقية. لن تلعب البنوك المركزية أو الحكومات أي دور في هذا، وإن كان ساتوشي ناكاموتو يدير العالم لكان قد أغلق البنك الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي، وربما أغلق ويسترن يونيون، لأن كل شيء يعتمد على إثبات التشفير بدلا من بناء الثقة.
الهدف من تقنية بلوكتشين كان العودة إلى اللا مركزية في عالم الاقتصاد والأموال على شبكة الإنترنت؛ اللا مركزية هنا تعني أن هذا الدفتر العملاق لا يمكن لشركة واحدة التحكم به، لكنه يتوزع على مجموعة ضخمة من أجهزة الحاسوب المتصلة بالشبكة. حسنا، ماذا ستكسب تلك الأجهزة؟
كل جهاز متصل بالشبكة ويقدم تلك الخدمات سيُمنح مكافأة على عمله بفرصة كسب المزيد من عملات بيتكوين. بدلا من الاعتماد على المؤسسات المالية العملاقة، وعلى مجموعة من الشركات الضخمة التي تتحكم في كل شيء، لماذا لا يتداول المستخدمون العملات والأموال فيما بينهم مباشرة؟
تقنية بلوكتشين هي الحلم الذي يُبنى عليه تصور النسخة الثالثة من الويب "Web3" بوصفه رؤية لا مركزية للإنترنت. يرى أنصار الفكرة أن "Web3" يعيد تصميم اللا مركزية لنسخة الويب الأولى "Web 1.0″، التي امتلأت بالمدونات، ثم يجمعها مع التجربة التفاعلية لتطبيقات النسخة الثانية من الويب "Web 2.0" مثل منصات وسائل التواصل الاجتماعي. كل هذا بغرض توفير نظام رقمي تعود فيه ملكية البيانات للمستخدم وليس للشركات العملاقة، والمعاملات على الشبكة تضمنها تقنيات التشفير، بدلا من الثقة في هذه المؤسسات الضخمة.
ولأن هذه النسخة الجديدة من الإنترنت ستقوم على تفاعلات المستخدمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت تظهر بعض الأفكار الحالمة لهذا المجال وهي منصات التواصل اللا مركزية، مثل منصات "ماستودون" (Mastodon)، القائمة على بروتوكول مفتوح المصدر يُعرف باسم "أكتيفيتي بوب" (ActivityPub) ويعتمد على تقنية البلوكتشين (4).
وسائل تواصل لا مركزية
في الأشهر الماضية، ضخت مجموعة من شركات التقنية بعض مواردها في تطوير بروتوكول "أكتيفيتي بوب"، وما يُعرف الآن باسم "الفيديفيرس" (Fediverse)؛ شركات مثل "تمبلر" (Tumblr) و"ميديم" (Medium) و"موزيلا" (Mozilla)، وحتى شركة "ميتا" نفسها عندما أعلنت عن تطبيقها الجديد "ثريدز" أكدت أنها ستضيفه إلى هذا البروتوكول لينضم إلى وسائل التواصل اللا مركزية.
ولكن ربما المنصة الأشهر حاليا، التي تعتمد على هذا البروتوكول، هي منصة "ماستودون"، وهي منصة تحولت إلى ملاذ آمن للمستخدمين الهاربين من تويتر بعد استحواذ إيلون ماسك على الشركة العام الماضي. يرى كثير من العاملين في مجال التقنية الآن أن المستقبل ليس منصة "ماستودون" نفسها، بل ما تُمثِّله فكرتها الأساسية بوصفها منصة تواصل لا مركزية تعتمد على بروتوكول مفتوح المصدر مثل "أكتيفيتي بوب".
فكرة هذا البروتوكول قائمة على تحويل الشبكات الاجتماعية المغلقة إلى شبكات قابلة للاستخدام المشترك؛ بدلا من الاعتماد على منصة واحدة منفصلة، كفيسبوك، يمكن ربط كل شيء برسم بياني اجتماعي (Social Graph) واحد ونظام ثابت لمشاركة المحتوى.
الفكرة نفسها ليست جديدة بالطبع، وهي تقوم على أفكار أقدم حول بنية مختلفة جذريا لهذه الشبكات الاجتماعية، تحكمها بروتوكولات مفتوحة المصدر وليست منصات عملاقة مغلقة لا نعرف كيف تعمل. الهدف منها نبيل بالتأكيد، وهو إعادة جهاز التحكم ليد المستخدم، والحفاظ على فكرة التواصل الاجتماعي عالميا في مكانة أكبر من أي شركة مهما كان حجمها أو قوتها.
بدأ الزخم يزداد حول هذه الفكرة تحديدا بعد شراء إيلون ماسك لتويتر، حينها توجه كثيرون للبحث عن بديل مناسب للعصفور الأزرق، وكانت "ماستودون" بالانتظار. الفكرة في اللا مركزية هنا هي تخزين بيانات المستخدم والمحتوى على شبكة "بلوكتشين"، وخوادم مستقلة، بدلا من الخوادم المركزية التي تتحكم فيها شركة عملاقة، مثل ميتا أو غوغل أو أمازون أو غيرها.
كيف تعمل؟
منصات التواصل الاجتماعي اللا مركزية هي مفهوم تقني معقد، وترتبط أكثر بتصور النسخة الثالثة من الويب (Web3) في المستقبل، لكن دعنا نحاول شرحها بطريقة مبسطة؛ تتكون أي منصة تواصل من عنصرين أساسيين، أولا هناك التطبيق أو واجهة المستخدم، وهو التطبيق نفسه الذي تستخدمه على هاتفك مثل فيسبوك أو إنستغرام. ثانيا ستجد البيانات التي تدخل ضمن عمل هذا التطبيق، مثل قائمة أصدقائك وبياناتك الشخصية الأخرى التي تشاركها وغيرها.
ما تطرحه الشبكات اللا مركزية هو فكرة الفصل بين التطبيق وتلك البيانات، مثلا عندما تسجل في تطبيق اجتماعي جديد لن تضطر إلى البحث عن قائمة أصدقائك مرة أخرى، ستتبعك تلك القائمة أينما ذهبت، بمعنى أنها جزء من شبكة الإنترنت ولا تقتصر على هذا التطبيق بمفرده.
أفضل مثال على كيفية عمل تلك الشبكات هو البريد الإلكتروني، لأنه يعتمد على بروتوكولات مفتوحة تستخدمها عدّة تطبيقات وخدمات، لذا رغم وجود العديد من تطبيقات البريد الإلكتروني، بمزايا ومستويات جودة متنوعة، فبإمكانك نقل جهات الاتصال الخاصة بك في أي تطبيق. هل تتخيل مثلا أنك بحاجة إلى بريد "هوتميل" (Hotmail) للتواصل مع زملائك الذين يستخدمون التطبيق نفسه، وبريد آخر على "جيميل" (Gmail) لأصدقائك ممن يفضلون خدمات غوغل؟ حسنا، هذه طريقة عمل وسائل التواصل الاجتماعي حاليا، وفيسبوك هو أفضل مثال عكسي لتلك المنصات اللا مركزية.
قائمة أصدقائك على فيسبوك هي قائمة أصدقائك على فيسبوك، ولا يمكنك نقلها أو استخدامها داخل تطبيق آخر. وإن كنت ترغب في قراءة منشورات أصدقائك على فيسبوك، أو تريد مشاركة ما تكتبه هناك، فسيتعين عليك فعل هذا داخل تطبيق فيسبوك فقط. بالطبع هذا الأمر ممتاز إن كنت مارك زوكربيرغ، لأن هذا سبب أساسي في تحول المنصة إلى ماكينة هائلة لضخ الأموال لما يقارب عقدين من الزمن، ببساطة لأن البقاء لأطول فترة ممكنة داخل المنصة هو الإستراتيجية الأكثر ربحية في هذا المجال.
لكن على العكس، في منصات التواصل اللا مركزية يمكنك نشر صورة على إنستغرام، ليعلق عليها صديقك داخل تطبيق تويتر (إكس حاليا). وإن كتب صديقك منشورا على فيسبوك، فيمكنك أن تراه وتشاركه على تطبيق تلغرام مثلا.
بالطبع ستختلف نقاط القوة والضعف لدى كل تطبيق عن الآخر، كما قد تختلف سياسات الإشراف وأدوات صناعة المحتوى المتوفرة لدى كل تطبيق، ولكن في النهاية ستملك مجموعة الأصدقاء نفسها، ويمكنك متابعة الحسابات نفسها بغض النظر عن المنصة التي تستخدمها، تماما مثل إمكانية إرسالك بريدا إلكترونيا من حسابك على "جيميل" إلى صديقك الذي يملك حسابا على أحد تطبيقات مايكروسوفت. لن يكون هناك ما يُسمى بأصدقاء فيسبوك أو متابعين إنستغرام، بهذا سينفصل الرسم البياني الاجتماعي، وهو هنا قائمة الأصدقاء، عن سوق المنتجات بالكامل، وهي هنا تطبيقات تلك الشركات.
باختصار، الفكرة الأساسية المطروحة هنا هي تخزين البيانات ومشاركتها عبر خوادم متعددة، بدلا من أن تتحكم فيها شركة أو مؤسسة كبيرة واحدة، كما تعطي تلك المنصات اللا مركزية الأولوية لخصوصية المستخدم وأمانه والتحكم في بياناته الخاصة. مثلا عادة ما يُستخدم التشفير لتأمين بيانات المستخدم، وغالبا ما يُمنح المستخدم مزيدا من التحكم في معلوماته مقارنة بالأنظمة المركزية الحالية، بالإضافة إلى ميزة أخرى مهمة هي اعتمادها على أكواد برمجية مفتوحة المصدر، مما يعني إتاحتها للجميع، وبهذا يمكن لأي شخص مراجعتها وتطويرها. كما لا تملك تلك المنصات أي خوارزمية تصنيف المحتوى، وبالتالي لا تتحكم فيما يظهر أمام المستخدم، بجانب الوعد بمنح حرية تعبير أكثر مما نراه حاليا على فيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي.
حلم بعيد
ذكرنا أن هذه المنصات الجديدة حالمة، وهذا ببساطة لأنها تواجه تحديات ضخمة، فمثلا من الصعب جدا إنشاء شبكات تواصل اجتماعي جديدة بسبب تأثير الشبكة، وهذا ما استدعى إيلون ماسك إلى شراء تويتر بمبلغ 44 مليار دولار بدلا من تأسيس شبكة جديدة، لأننا ننضم إلى تلك المنصات عندما يكون أصدقاؤنا ومعارفنا موجودين عليها، وليس بسبب اللا مركزية.
كما أن المنصات القائمة تطورت وتحسّنت على مدار السنوات الماضية بناء على تعليقات وملاحظات الملايين من المستخدمين، لكي تصل إلى هذا الشكل الذي نراه حاليا، مما يجعل مهمة أي شبكة جديدة منافسة مهمة مستحيلة تقريبا. هذا بجانب أن المستخدم لا يرغب في إدارة أو تشغيل منصة على الإنترنت، ما يريده هو منصة بسيطة بواجهة مستخدم سلِسة يمكن التعامل معها بسهولة.
هناك نقطة أخرى أهم، وهي الحجم الهائل لتلك المنصات، أو ما يعرف باقتصادات الحجم، فالمنصات الضخمة الحالية، مثل فيسبوك، تتمتع بمزايا أكثر لأن بإمكانها الحصول على موارد وتقنيات مختلفة، كمساحات التخزين، بأسعار أقل (5). كما أن حجم المنصة الضخم يجعلها أكثر فائدة للمستخدمين والمعلنين وغيرهم، مما يزيد من حجمها أكثر في متوالية عددية لا تنتهي. حتى في الأنظمة اللا مركزية، مثل البيتكوين، يوجد توجُّه نحو خلق لاعبين كبار متحكمين في السوق، مثل مجمعات التعدين الضخمة وبورصات تبادل العملات الكبيرة، مما يخلق نوعا من المركزية المقنّعة. لذا، يبدو أن حلم اللا مركزية في مجال التواصل الاجتماعي حلم بعيد المنال فعلا، على الأقل حتى هذه اللحظة.
عموما، كانت المهمة الأولى لوسائل الإعلام الاجتماعية، مثل فيسبوك، وربما أكثر ما يميزها عن وسائل الإعلام التقليدية هو منحنا القدرة على المشاركة بأنفسنا، وجعل العالم أكثر انفتاحا وتواصلا؛ أن تعمل على تحقيق المساواة بين الجميع دون تحيّز، وتمنح مَن يعجز عن التواصل فرصة لكي يصرخ بأعلى صوته بحُرية مثلما يفعل الأقوياء، وأن يعبر عن نفسه ويخبر العالم بما يحدث على أرضه، وربما دون منصات التواصل الحالية لما عرف العالم أو تضامن مع القضية الفلسطينية كما يحدث الآن في مختلف أنحاء العالم. لكن ما تفعله منصات مثل فيسبوك من حظر وإخفاء وقمع للأصوات والمنشورات يتعارض بشدة مع تلك الحرية المُفترضة!
حتى محاولات تخطي تلك الخوارزميات لن تفلح كثيرا، كالكتابة بدون نقاط أو بتغيير الكلمات التي تستهدفها الخوارزميات، وهي مجرد حلول مؤقتة. لهذا فإن البحث عن حلول أخرى، كالمنصات اللا مركزية، قد يبدو أمرا منطقيا. في النهاية، الهدف الأساسي من تلك المنصات هو مشاركة الآخرين ما يحدث معك، ما الذي يدور في حياتك، لأن هذا هو أبسط مفهوم للتواصل. لكن ما الذي يحدث عندما تمنعك منصات التواصل الاجتماعي من التواصل؟
—————————————————————————————
المصادر: Facebook and Israel to work to monitor posts that incite violence ARPANET Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System ActivityPub The decentralized webالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الانسداد السياسي وآفاق الحل الدائم
على مدى عقد ونيف من الزمن، ونحن على أبواب العيد الرابع عشر لثورة السابع عشر من فبراير المجيدة، واجهت الأمة الليبية أكبر أزمة سياسية في تاريخها الطويل، من تشظي أوصال الوطن، إلى إنقسام مزمن للمجتمع والحكومات، الى انتشار الفساد، وتغول المجموعات المسلحة، إضافة إلى تشبث المؤسسات التشريعية والتنفيذية فاقدة الشرعية باستمرارها في المشهد. هذا يوضح بجلاء عدم وجود نخبة تقود الجموع، ولا موروث سياسي يعتمد عليه، ولا مؤسسات سياسية فاعلة مثل الاحزاب، ولا مؤسسات مجتمع مدني قوية خلال 70 سنة من عمر الدولة الليبية.
نعم الشعب الليبي فسيفساء اجتماعية ودينية واضحة، يوجد طيف مدني مرن التعامل معه، وهناك طيف قبلي متشدد وآخر إسلامي بألوانه المختلفة من الاصولي الماضوي إلى الاسلام الديموقراطي، وهناك العسكري المتربص. وللعلم لا يتطلب من الدولة أن تكون متجانسة اجتماعيا، بل يتطلب أن يكون هناك وعي سياسي ومجتمعي يكفل تبني قواسم مشتركة يمكن بناء الدولة على أساسها، وهو ما يعرف بالهوية الوطنية.
لتحليل الأزمة، يتطلب الرجوع إلى جذورها، إلى بدايات الاستقلال. في زمن الاستعمار الإيطالي، لم يكن هناك دراية لليبين بالسياسة، ومعظم المتصدرين للمشهد هم شيوخ قبائل وشيوخ دين، خاضت حروب ضد المستعمر باسم الدين وليس باسم الوطن. كما خاضوا حروب كثيرة فيما بينهم، عدا قلة مثل سليمان الباروني بما في جعبته من علم وفكر في مجتمع لم يستطيع إنتشاله مما فيه من تاخر.
إلا أن انتهاء الاستعمار الإيطالي في ليبيا بفعل قوات الحلفاء، وانتقال ليبيا إلى الإدارة البريطانية، أوجد أجواء مناسبة للعمل السياسي، فكان هناك قرابة خمسة أحزاب، لكل منها برامجه وأهدافه. فمثلا الحزب الوطني نشأ في سنة 1944 كنادي أدبي، تحول إلى حزب سياسي بنادي الوحدة، وينادي بالوحدة الوطنية وقيام الجمهورية على كل ليبيا، أما الجبهة الوطنية المتحدة فتم إنشاؤها في سنة 1946م، وتنادي بإنشاء دولة وطنية ديمقراطية، وهناك حزب الكتلة الوطنية، الذي نشأ في 30 مايو 1946م وينادي بالجمهورية، ويرفض الإمارة في الشرق بشدة، واخيرا حزب المؤتمر الوطني، الذي ظهر في 11 مايو 1949م ينادي بأن تكون ليبيا مستقلة موحدة تحت الإمارة السنوسية.
رغم هذه التنظيمات إلا أنه لم تُبني مؤسسات حزبية فاعلة، فتقرير لجنة التحقيق الرباعية التي تتكون من أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي سنة 1948 بخصوص تقرير مصير المستعمرات الإيطالية، يقول “إن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في إقليم طرابلس يغلب عليها طابع الولاءات العائلية والحزازات القبلية والتنافس الشخصي بين الزعامات القبلية “.
أما في برقة، فمن الواضح أن العمل السياسي قد توقف بها، بعد صدور مرسوم أميري من إدريس السنوسي بتاريخ 7-12-1947م، مفاده توحيد جمعية عمر المختار وغيرها من الاجسام في المؤتمر البرقاوي برئاسة الأمير نفسه، ولذا لم يكن هناك أحزاب في برقة زمن الاستقلال. الجناج الثالث الجنوبي كان غارقا في الأمية والفقر مع قلة عدد السكان التي لم تتجاوز 40 الف نسمة في منتصف القرن العشرين، ولذا، لم يكن هناك عمل سياسي والأمر كله منوط للزعامات القبلية.
تم الإعلان عن القانون الانتخابي في يناير 1957م وأجريت الانتخابات النيابية في 19 فبراير 1957م والتي يتزعمها مجموعتان في طرابلس حيث الحراك السياسي، وهما مجموعة الحكومة بقيادة محمود المنتصر والاخرى بزعامة حزب المؤتمر ورئيسها بشير السعداوي، أم البقية الباقية في برقة وفزان فهم من المستقلين. وإستطاع حزب المؤتمر الحصول على 8 مقاعد في مجلس النواب.
نتيجة الاستقطاب وغياب التجربة النيابية حدث تزوير للانتخابات قاد إلى مظاهرات وأعمال شغب في المنطقة الغربية، على أثرها، وجد الملك فرصة لاصدار قرار بحل الأحزاب ( وكان قرار غير دستوري)، وإبعاد السعداوي ومن معه إلى الخارج، وبذلك انتهى أمل تكوين منظومات سياسية وإنتاج مناضلين سياسيين، وتراكم معرفي حزبي.
في نهاية الستينات كان هناك حراك سياسي كبير للمنظومات الحزبية، (وكان جلها غير قانوني تبعا لقرار الملك)، تشتغل بسبب ضعف النظام الملكي، من هذه حزب الإخوان وهو الأقوى، ثم القوميين العرب، وحزب التحرير الاسلامي، والشيوعيين والبعثيين وغيرهم، وكان هناك حوار فكري عميق بينهم في المنابر الاعلامية أكثر من برامج سياسية.
مع وصول القدافي للحكم في انقلاب 1969 م أصدر قرار تجريم الحزبية سنة 1972م، ثم كان له خطاب بمناسبة المولد النبوي في مدينة زوارة الموافق 15 إبريل 1973 أعلن فيها ما يسمى بالثورة الثقافية، وكان هدفها حظر وتجريم العمل الحزبي وقمع رموزها، ثم الزج بهم في السجون تحت شعار “من تحزب خان”.
في الحقيقة يمكن تصور حياة ديموقراطية سليمة ذات كفاءة وفاعلية في تحقيق حرية وإرادة جمهور الأمة، ولا يمكن تخيل حياة سياسية حرة للمواطنين إلا بوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة، تنور وتحرك الرأي العام وتقدم للأمة الخيارات المختلفة لتختار من بينها ما يعتقد جمهور الأمة صحته وجديته بكل حرية وأمان بل ولتحمي هذه التنظيمات السياسية المستقلة عن السلطة الشعب من تغول الدولة وأجهزتها المنظمة والبوليسية.
بعد ثورة 2011 صدر القانون 29 لسنة 2012 بشأن تنظيم العمل الحزبي، وكان بادرة طيبة، ولكن القانون لم يجد مؤسسات حزبية ليقوم بتنظيمها. قرأ النشطاء والقادمون من المهجر والمتربصون والمتسلقون القرار وسمعو همسا من الحكومة لدعم العمل الحزبي، فتفاقمت هبة تسجيل الاحزاب حتى زادت عن مئة حزب ووصل دروة عددها 125 قبل الانتخابات التي لم تقام سنة 2020.
لم تكن هذه الأحزاب فاعلة سياسيا وليس لها قاعدة شعبية كبيرة تستند عليها، بل دكاكين تقوم بتسجيل أبناء عمومتها وأصدقائها للحصول على نصاب التسجيل، هذا يظهر مدى التصحر السياسي في البلاد، رغم ذلك كان هناك تكتلات شاركت في انتخابات نزيهة، شفافة سنة 2012 لم تشهد لها ليبيا مثيل من قبل، وتم بها انتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام لاول مرة في تاريخ ليبيا.
أما عن مؤسسات المجتمع المدني، فهي ليست استثناء، فبعد حصول بعض الجمعيات على معونات تفاقم عددها إلى أكثر من 2500 جمعية مع نهاية 2012م، في مختلفة الأنشطة، تم انحسر عنها الدعم فتوقف جلها، وواصل البعض بمجهودات فردية متواضعة، والجدير بالذكر انه يمكن تفعيلها لو تحصلت على دعم مناسب لنشاطاتها ويمكن أن تكون جهة رقابية على النشاط السياسي.
من الكوابيس المزعجة بعد سنة 2013 م ظهور عائلة حفتر في المشهد الليبي، كمولود غير شرعي للمخابرات الاقليمية في الشرق الليبي، ولقد استخدمت هذه العائلة فزاعة التقسيم بين الشرق والغرب، لتسخير كل موارد الدولة لمشروع تنصيب خليفة حفتر أو أحد أبنائه رئيسا على ليبيا، هذا المشروع ذروة سنام المشكلة، وعقدت العقد، نتج عنه غزو طرابلس، وقفل المواني النفطية، وتزوير العملة بالمليارات في روسيا، وشراء دبابات متهالكة وصواريخ قديمة من سوريا ودرون من الصين وتمكين القوات الروسية في ليبيا ومنحها أربعة قواعد عسكرية على البحر وفي عمق الصحراء.
في هذا المشهد المريع كيف يكون المخرج؟ وكيف يكون الحل؟ بالتأكيد ليس بالسؤال السهل الإجابة، ولكن أن تبدأ متأخرا خير من أن لا تبدأ.
ألاجابة على مستويين: المستوى الأول هو الاستمرار في عملية مصالحة، لأجل توحيد القواسم المشتركة، والتي تكون باتفاق على ميثاق وطني يتضمن البنود المتعارف عليها لبناء الدولة الليبية الوطنية الديمقراطية (وليست دولة مكون واحد تابعة كما جاء في ميثاق أديس أبابا) هذا الميثاق يصبح بوصلة عامة للشعب الليبي، وتنتهي مع توقيعه الأفكار الطوباوية مثل العودة للخلافة أو للمملكة أو الجماهيرية، وينتهي المستبد العادل، والقائد المؤمن، وبالتأكيد تنتهي التزكية والتصعيد، والتفويض من الشعب.
الأمر الثاني، تحريك النشطاء في كل ليبيا لدعم برنامج إسقاط مجلس النواب ومجلس الدولة مع إبقاء المجلس الرئاسي ليكون وسيلة إنتقالية إلى الانتخابات البرلمانية، وإستمرار الحكومتين في الشرق والغرب في عملهما زمن الانتخابات النيابية، وقد يحتاج الامر إلى مرسوم رئاسي لإنهاء دور المجلسين كما حدث لمحافظ مصرف ليبيا المركزي. وتقوم هيئة الانتخابات بتنظيم إنتخابات نيابية مشابهة لانتخابات البلديات التي تقام دوريا، وباشراف المجلس الرئاسي وبعثة الامم المتحدة، مع وجود القضاء كجهة ضامنة للمسار القانوني.
بعد انتخاب المجلس النيابي الجديد تكون الأمور أسهل وأيسر، حيث يقوم هذا المجلس بالآتي:
تشكيل حكومة جديدة موحدة لكل ليبيا. تشكيل لجنة لمعالجة بنود الاختلاف في الدستور. عرض الدستور الاستفتاء العام. تنظيم إنتخابات رئاسية تبعا لبنود الدستور. تحول ليبيا إلى الوضع الدائم: بتفعيل العمل السياسي الحزبي والنقابي وتنظيم إنتخابات نيابية ورئاسية تبعا للدستور الجديد.الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.