الجزيرة:
2024-07-08@22:01:28 GMT

لماذا تأخرت إسرائيل في دخول غزة بريا إلى الآن؟

تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT

مرت أكثر من ثلاثة أسابيع على عملية "طوفان الأقصى"، ورغم أن دولة الاحتلال الإسرائيلي حشدت مئات الآلاف من الجنود على حدود غزة، فإن هذه القوات لا تزال تنتظر قرارا نهائيا بالدخول، هذا التأخير له أسباب عدة، بعضها سياسي بالطبع، والبعض الآخر يتعلق بالأسرى الذين تحتفظ بهم حماس، وهي نقطة ضغط قوية لا شك، لكن البعض الآخر يتعلق بمخاوف إسرائيلية مما يمكن أن يحدث لقوات الاحتلال خلال هذا الهجوم البري، وهو ما ظهرت بوادره في التوغلات المحدودة التي شنها الاحتلال خلال الأيام الماضية.

 

في تقرير سابق بعنوان: "حرب الأفخاخ".. ما الذي ينتظر جيش الاحتلال الإسرائيلي إذا دخل غزة؟، تبيّن لنا كيف أن المقاومة الفلسطينية منذ حرب غزة 2014 قد تمكنت من تطوير أدواتها وخبراتها بشكل من المتوقع أنه سيسمح لها بإيقاع خسائر كبيرة في صفوف وعتاد جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي في أي مواجهة برية حضرية، وخاصة بعد عملية طوفان الأقصى التي أوضحت قدر التطور العملياتي والاستخباراتي لدى فصائل المقاومة وتحديدا حركة حماس.

 

كل شيء محتمل الجندي الإسرائيلي ببساطة غير متجهز كفاية لحرب برية الآن، وهو رغم ذلك مدفوع إليها دفعا. (الصورة: الفرنسية)

لهذا السبب (من ضمن أسباب أخرى) فإن القوات الجوية الإسرائيلية تُغرق غزة بالصواريخ والقنابل من الجو، ليس من أجل استهداف أماكن تمركز المقاومة كما تدّعي، ولكن لإحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في أرواح الفلسطينيين العُزَّل للضغط على حماس وإضعاف عزيمة مقاتليها.

 

في غاراتها على غزة، استخدمت دولة الاحتلال بكثافة القنابل الذكية من النوع المُسمى1 "ذخيرة الهجوم المباشر المشترك" المعروفة اختصارا باسم "جدام" (JDAM)، وهي عبارة عن حزمة أدوات توجيهية تحول القنابل غير الموجهة إلى ذخائر موجهة بدقة وذكية، وذلك عن طريق إضافة نظام ملاحة بالقصور الذاتي يعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وزعانف تحكم. ويسمح نظام "جدام" للطائرات بإيصال القنابل بدقة إلى أهداف محددة، حتى في الظروف الجوية السيئة أو البيئات الصعبة. ويمكن إطلاقها من ارتفاعات متوسطة وعالية وتظل تحتفظ بدقتها. يعني ذلك أن استهداف مبانٍ مثل المستشفى المعمداني من الصعب أن يكون مجرد خطأ، بل هو متعمد.

"ذخيرة الهجوم المباشر المشترك" (JDAM). (الصورة: شترستوك)

إلى جانب ذلك، بِتنا نعرف الآن أن تركيز الجيش الإسرائيلي على التكنولوجيا2 العالية دفع صناع السياسات وكبار الضباط إلى الوقوع ضحية للوهم القائل إن التكنولوجيا فقط كافية لضمان التفوق في أي مواجهة، لأن التكنولوجيا بطبعها دفاعية، والتركيز عليها أدى إلى ضمور مهارات مهمة، مثل القدرة على إجراء عمليات أسلحة مشتركة معقدة عند الهجوم، وبدلا من الاستعداد للحروب المستقبلية، كان جيش الاحتلال مشغولا بمراقبة الضفة الغربية وغزة وقمع الفلسطينيين العزل، ظنا منه أنه لن يكون هناك أي حاجة إلى مواجهة برية قريبة.

 

الجندي الإسرائيلي ببساطة غير متجهز كفاية لحرب برية الآن، وهو رغم ذلك مدفوع إليها دفعا، ولأن قدرات حماس في تصوير مهامها ونشرها عبر وسائل الإعلام قد ارتفعت وباتت أكثر احترافية، فإن رجال السياسة وجنرالات الحرب الإسرائيليين لا بد أنهم خائفون من أن تُبث هزائمهم أمام مرأى ومسمع العالم، وتتحول إلى فضيحة جديدة لدولة تُصدِّر نفسها على أنها الأقوى على الإطلاق في المنطقة. إنها مشكلة الحرب الأزلية: الآلة لا تنتصر وحدها أبدا، على الأقل إلى لحظة كتابة هذه الكلمات.

 

حرب متعددة الجبهات الجيش الإسرائيلي ربما يستعد بالفعل لـ"حملة على ثلاث جبهات"، ستكون القوات الإسرائيلية في موقف هجومي في اثنتين منها، وهما غزة ولبنان، بينما في سوريا ستكون في موقف دفاعي. (الصورة: الفرنسية)

هناك سياق آخر للأمر، وهو انتظار الدعم من الولايات المتحدة الأميركية، التي أرسلت حاملتَيْ طائرات هما الأثقل على الإطلاق في ترسانتها البحرية، "يو إس إس دوايت آيزنهاور" و"يو إس إس جيرالد فورد"، وكلتاهما يمكنها استيعاب نحو 75 طائرة عسكرية مقاتلة، بما في ذلك "إف-35″، لم يكن ذلك فقط لدعم دولة الاحتلال، لكن بالطبع هناك رغبة في تحديد المعركة البرية داخل غزة، لتكون فقط داخل غزة، ولا تتطور إلى حرب متعددة الجبهات.

 

في الواقع، إن أصواتا عدة داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي تتبنى مخاوف متزايدة بشأن احتمالات التصعيد الأفقي، أي فتح جبهات متعددة في الوقت نفسه مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما يبدأ في غزة فلا بد أنه في إحدى المراحل سيُفعِّل اشتباكات في الضفة الغربية وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان، الأمر الذي يُمثِّل خطورة حقيقية من وجهة نظر الاحتلال.

 

كان هذا النقاش دائرا لأكثر من عقد من الزمان داخل أروقة وزارة الدفاع الإسرائيلية، وخاصة بعد أن أطلق يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، اسم "حلقة النار" على إستراتيجية عسكرية جديدة يمكن أن يستخدمها خصوم إسرائيل تتضمن بناء حلقة من النار (الصواريخ والمسيرات) حول دولة الاحتلال الإسرائيلي من جميع الجهات.

 

ووفقا للصحفي عاموس هاريل من صحيفة "هآرتس" في حوار3 مع جين-لوب سمعان، وهو زميل أبحاث أول في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية، فإن الجيش الإسرائيلي ربما يستعد بالفعل لـ"حملة على ثلاث جبهات"، ستكون القوات الإسرائيلية في موقف هجومي في اثنتين منها، وهما غزة ولبنان، بينما في سوريا ستكون في موقف دفاعي، مع التركيز على لبنان بوصفه مركزَ ثقلٍ أساسيا، لكن هذه الاستعدادات ما زالت جارية وربما لم تنتهِ إلى الآن.

 

حزب الله إذا قرر حزب الله المشاركة في الحرب بالجبهة الشمالية والشرقية، فإننا نتحدث عن أكثر من 50 ألف مقاتل، حوالي 50% منهم يخدمون بانتظام. (الصورة: الأناضول)

حزب الله دخل بالفعل إلى المعركة، لكن على استحياء وليس بثقله الكامل بالطبع، وكانت آخر تدخلاته الإعلان الصادر يوم السبت 28 أكتوبر/تشرين الأول أنه استهدف بصواريخ موجهة دبابة إسرائيلية من طراز "ميركافا"، في إحدى النقاط التابعة للجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان. وكان "حزب الله" قبلها بيوم واحد فقط، استهدف موقعَيْ "الصدح" و"مسغاف عام" التابعين لجيش الاحتلال بالصواريخ الموجهة.

 

يمتلك حزب الله قوة ضاربة، وإذا قرر المشاركة في الحرب بالجبهة الشمالية والشرقية فإننا نتحدث4 عن أكثر من 50 ألف مقاتل، نحو 50% منهم يخدمون بانتظام، ويبلغ قوام وحدة النخبة التابعة لحزب الله (قوة الرضوان) نحو 2500 فرد. أما ترسانة الحزب من الصواريخ والقذائف الصاروخية وقذائف الهاون فيبلغ عددها بين 100-200 ألف قطعة في بعض التقديرات، بما في ذلك عشرات آلاف الذخائر قصيرة المدى (حتى 40 كيلومترا)، وآلاف متوسطة المدى (حتى 75 كيلومترا)، وآلاف بعيدة المدى (200-700 كيلومتر). ومؤخرا أطلق حزب الله مشروعا لتحديث ترسانته من حيث الدقة، وبحسب آخر التقديرات فإنه يمتلك المئات (وربما الآلاف) من الصواريخ الدقيقة عالية التدمير.

 

كل هذا ولم نتحدث عن ترسانة حزب الله من المسيرات التي تخدم جميع الأغراض، بما في ذلك جمع المعلومات الاستخبارية أو الطائرات الهجومية سواء كانت مسيرات انتحارية أو قاذفات القنابل.  ومن جانب آخر، يمتلك حزب الله ترسانة من الصواريخ المضادة للسفن مثل "سي-802″، وهو نسخة مطورة للتصدير من الصاروخ الصيني "يج-8″ يبلغ مداها 120 كيلومترا، وتحمل رأسا حربيا وزنه 190 كيلوغراما، و"ياخونت بي -800" وهو صاروخ كروز روسي أسرع من الصوت مضاد للسفن، وهو نظام ذو استقلالية كاملة في الاستخدام القتالي (يعمل بطريقة "أطلق النار وانسَ")، ويمتلك مجموعة من المسارات المرنة وسرعة تفوق سرعة الصوت في جميع مراحل الرحلة، ويمكن استخدامه في بيئة الإجراءات المضادة الإلكترونية وتحت نيران العدو.

 

هذا ولم نتحدث بعد عن الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، بما في ذلك أنظمة الجيل الثالث التي يمكنها اختراق معظم أسلحة جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي، تعتمد صواريخ الجيل الثالث على نظام "أطلق وانسَ"، وتمتلك باحثا ليزريا أو جهاز تصوير كهروضوئي أو باحثا راداريا في مقدمة الصاروخ. بمجرد تحديد الهدف، لا يحتاج الصاروخ إلى مزيد من التوجيه أثناء الطيران، بل ينطلق مباشرة لهدفه بشكل مستقل.

منظومة SA-22. (الصورة: شترستوك)

وتشير التقديرات إلى أنه بالإضافة إلى أنظمة الصواريخ المحمولة مثل "SA-7" و"SA-14″، يمتلك حزب الله أنظمة دفاع جوي متقدمة مثل "SA-8″ و"SA-17" و"SA-22″، الأخير هو نظام صاروخي من عائلة صواريخ أرض-جو ذاتية الدفع متوسطة المدى مضادة للطائرات. وفيه تُشكِّل ثلاثة أنواع من المركبات نظاما واحدا: قاذفة صواريخ، وشاحنة رادار، ومركز قيادة. صُمِّم بالأساس لتوفير دفاع جوي للمنشآت العسكرية والصناعية والإدارية ضد الطائرات والمروحيات والذخائر الدقيقة وصواريخ كروز والمسيرات، ولتوفير حماية إضافية لوحدات الدفاع الجوي ضد الهجمات الجوية للعدو باستخدام ذخائر دقيقة، خاصة على ارتفاعات منخفضة إلى منخفضة للغاية.

 

الحرب البرية على غزة إذن ليست مجرد "حرب برية على غزة"، بل هي جوقة واسعة من الاحتمالات التي يمكن أن تتطور لحرب متعددة الجبهات، بل وحرب إقليمية لا نظن أن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت مستعدة لها أو حسبت تداعياتها بشكل كاف في الوقت الراهن.

——————————————————————————————————–

المصادر

1- Joint Direct Attack Munition GBU- 31/32/38

2- Israel’s Military Tech Fetish Is a Failed Strategy

3- ‘Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy

4- Hezbollah’s Military and Political Strength – Factsheet 11

5- YJ-83 NATO: CSS-N-8 Saccade, Export: C-802A

6- PANTSIR-S1 / PANTSYR-S1 / SA-22 GREYHOUND

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دولة الاحتلال الإسرائیلی جیش الاحتلال بما فی ذلک حزب الله فی موقف أکثر من

إقرأ أيضاً:

روبوتيم وجاكوار والكلب الآلي.. لماذا فشلت الروبوتات الإسرائيلية أمام أنفاق غزة؟

في مايو/أيار الماضي أعلنت شركة "روبوتيم" (Roboteam) الإسرائيلية، المتخصصة في تصنيع الأنظمة الأرضية المُسيّرة والروبوتات القتالية، عن تلقيها أمر شراء من سلاح مشاة البحرية الأميركية (المارينز) لتوريد 200 قطعة من أنظمة الروبوتات الأرضية التكتيكية الدقيقة (إم تي جي آر)، في صفقة تبلغ قيمتها نحو 30 مليون دولار. وقالت الشركة إن مشاة البحرية اختاروا نظام "إم تي جي آر 15" (MTGR15) الذي يعدّ واحدًا من 5 أنواع من المُسيرات الأرضية التي تصنعُها، وهو من فئة الروبوتات التكتيكية الصغيرة الحجم، إذ يزن نحو 8 كيلوغرامات ولا يتجاوز طوله نصف متر، مما يسمح بإمكانية حمله داخل حقيبة ظهر في ساحة المعركة.

ويمكن تشبيه هذا النظام بدبابة مصغرة، فهو عبارة عن منصة روبوتية عالية المناورة مرتكزة على عجلات، يتم التحكم به عن بُعد من خلال وحدة تحكم مدمجة وشاشة قياس 7 بوصات. وبإمكانه القيام بمهام عدة في ساحة المعركة، من ضمنها: التخلص من الذخائر المتفجرة، والمناورات التكتيكية، ومهام الاستطلاع، مما يقلل من تعرض الجنود للمخاطر والكمائن الميدانية.

(الجزيرة)

 

تقنيات تتحطم على صخرة غزة

انتهزت "روبوتيم" فرصة الصفقة للترويج لجدارة أنظمتها، إذ أشارت إلى أن القوات الجوية الأميركية سبق لها شراء المئات منها بقيمة تزيد عن 25 مليون دولار، فضلا عن كون تلك الأنظمة مُجرّبة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وأثبتت كفاءتها خلال حرب غزة، مما يدل على فعاليتها وأنها باتت أفضل خيار لـ "عملاء المستوى الأول في العالم"، وفق مزاعم الشركة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2احتكار القتل في فلسطين.. هل يمتلك أحد الحق في قتلنا؟list 2 of 2ثورتنا العلمية في مهب الريح.. هل نحن في حاجة إلى فيزياء كونية جديدة؟end of list

لطالما استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة كصالة عرض حية للصناعة العسكرية الإسرائيلية. هذا وتشير التقارير إلى أن أنظمة "روبوتيم" تُستخدم في غزة منذ عام 2014 بغرض استكشاف شبكة الأنفاق الواسعة التي بنتها المقاومة ورسم خريطة لها، وكذلك في محاولة التعرف على نشطاء فصائل المقاومة، إذ زوِّدت تلك الأنظمة بعدسة تكبير 10 أضعاف، كما أنها استُخدمت مؤخرًا بكثافة خلال العدوان الحالي على غزة، وفي العمليات التي استهدفت تحديد أماكن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة.

لكن هل حققت أنظمة "روبوتيم" ذلك النجاح الذي تروج له الشركة حقا؟ والجواب أنه بالنظر إلى مرور 9 أشهر على بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، وفشل جيش الاحتلال في حل أحجية الأنفاق في غزة، ناهيك عن إخفاقه في تحديد أماكن أسراه طوال هذه المدة رغم المساعدات الاستخباراتية التي تلقاها من الولايات المتحدة وغيرها، فإن مزاعم الشركة الإسرائيلية بخصوص كفاءة أنظمتها هي موضع شك في أدنى الأحوال، وبالنظر إلى كون أنظمة الشركة تُستخدم بالفعل في الصراع منذ 10 سنوات، فإن الإخفاق سيكون هو الإجابة الأكثر منطقية، وليس النجاح.

هناك العديد من العوامل التي يمكن أن يُعزى إليها فشل الروبوتات الأرضية في غزة، ولعل أبرزها أن إدارة هذه الأنظمة تحتاج في الأخير إلى كفاءة العنصر البشري الذي يوجّه النظام، في حين أثبتت حرب غزة أن كفاءة الجندي الإسرائيلي باتت محل شك وفق تصريحات العديد من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين السابقين، رغم ما يتمتع به من تقنيات وأسلحة حديثة. وتوضح الخبيرة الإسرائيلية في القانون والتكنولوجيا تهيلا ألتشولر الأمر بقولها إن الجيش الإسرائيلي "خضع للتكنولوجيا وأسلم لها زمام أمره على مدى سنوات، مما أدى إلى إضعاف قدرات العامل البشري وانفصال الجنود عن ساحة المعركة".

وعند تطبيق رؤية ألتشولر على تقنية مثل الروبوتات الأرضية والمُسيرات التي يتم التحكم بها عن بُعد، نجد أنها تحوّل ساحة المعركة إلى مشهد أقرب لألعاب الفيديو، الأمر الذي يُفقد الجنود حساسية الميدان والقدرة على استنباط المخاطر المحيطة واتخاذ القرار الملائم. وفي سياق مشابه، يرى مدير كلية القيادة والأركان السابق في سلاح مشاة البحرية الأميركية العقيد توماس جرينوود أن حسم المعركة يتحدد من خلال العامل البشري في نهاية المطاف، وأن التفوق التقني في الحرب لن يعوّض الإستراتيجية المعيبة أو التصميم العملياتي الرديء، مؤكدا أن التكنولوجيا ليست علاجا سحريا لكل داء، فلا بد أن تكون مصممة وفقا لخطط ومفاهيم و"بيئة تشغيل محددة". علاوة على ذلك، فإن الهيمنة التكنولوجية على العدو لا تضمن النجاح الإستراتيجي في تحقيق الأهداف السياسية التي تقاتل الدول من أجل تحقيقها.

جرينوود يتخذ دولة الاحتلال الإسرائيلي مثالا لإثبات صحة رؤيته، إذ يشير إلى أن تفوق الاحتلال التقني وكونه أحد كبار المنتجين والمصدرين للتكنولوجيا العسكرية، لم يمنع المقاومة من مباغتته وإحداث صدمة في صفوفه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مما يعني أن الخلل يكمن في كفاءة العنصر البشري واستعداده في المقام الأول.

الشيطان في متاهة

يمكن أيضا لمصطلح "بيئة التشغيل المحددة"، الذي أورده جرينوود، أن يفسر القصور الذي أظهرته تقنية الروبوتات الأرضية في سبر أنفاق غزة، نظرا لأن البيانات تشير إلى أن أقصى مدى تشغيل لأنظمة "روبوتيم" لا يتجاوز ربع الميل (نحو 400 متر)، في حين يُقدّر الطول الإجمالي لشبكة أنفاق غزة بنحو 500 كيلومتر، كما يُعتقد أن عمقها يصل في أحيان لأكثر من 80 مترا، إضافة إلى أنها مليئة بالعقبات التي يمكن أن تحتجز الروبوت أثناء طريقه، نظرا لأنه مؤهل لصعود درج أو تخطي عقبة يبلغ ارتفاعها 20 سنتيمترا فقط ويعجز عن عبور ما هو أكثر من ذلك، مما يعني أن الأنفاق المستهدفة أكثر تعقيدا بكثير من "بيئة التشغيل" التي يمكن لهذه الأنظمة العمل خلالها.

أحد التحديات الأخرى المتعلقة بالبيئة التشغيلية هو محدودية استقبال الإشارة داخل الأنفاق، وفي هذا الصدد يشير المسؤول السابق في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إيال بينكو إلى أن التقنيات المتطورة فشلت أمام أنفاق غزة، نظرا لتشعب الأخيرة وتعدد طبقاتها وعمقها الكبير. ويضيف بليك رينسيك، المدير التنفيذي لشركة "برينك" الأميركية المتخصصة في صناعة المُسيّرات، أن المشكلة الكبرى في نشر تلك التقنيات تحت الأرض في الوقت الحالي هي أنها قد تصل إلى مسافة 100 قدم داخل النفق قبل أن ينعطف الأخير يمينا أو يسارا وتُفقد الإشارة تماما.

إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الحروب الحضرية تقلل من فعالية أجهزة الاستطلاع والمراقبة، كما تحرم القوات المهاجمة من مزاياها التقنية التي تؤهلها للاشتباك عن بُعد، بالنظر إلى أن الهجوم على مدينة ليس مجرد مهمة ضد مبنى واحد، إنما عملية تشمل آلاف الأبنية خلال مدى زمني طويل، وتحتاج إلى تنقّل القوات المهاجمة بين تضاريس مجهولة بالنسبة إليها. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن غطاء المهاجم يكون محدودا في الحروب الحضرية مقارنة بالقوات المدافعة، فإن تعدد التقنيات المحمولة يمثل عبئا إضافيا على حركة القوات المهاجمة وعلى قدرتها على المناورة ويسهّل عملية رصدها.

كل ذلك ولم نستعرض بعد تكتيكات المقاومة الفعالة أمام تقنيات الاحتلال، حيث يرجح الخبراء العسكريون أن المقاومة تستخدم أجهزة تشويش تجارية محمولة متاحة في الأسواق العالمية مقابل مبلغ زهيد (أقل من 800 دولار)، وهي أجهزة يمكنها التشويش على الإشارات وتعطيلها. في هذا الصدد، تقول مؤسسة "بروكينغز" الأميركية إن إخراج اتصالات العدو من الخدمة إحدى القواعد الأولى للحرب، وهو ما يبدو أن حماس تعرفه جيدا.

التكتيك الآخر الذي استخدمته المقاومة بنجاح هو ما يمكن تسميته بـ"النفق الخداعي"، وهو عبارة عن نفق مصمم لإيهام العدو بأنه جزء من شبكة الأنفاق، بيد أنه مجرد نفق يمتد لمسافة قصيرة وله وظيفة محددة هي الانفجار في وجه جنود الاحتلال بعد تفخيخه من جانب أفراد المقاومة، التي بثت في أبريل/نيسان الماضي مشاهد لتفخيخ أحد هذه الأنفاق، بعد استدراج قوة من جنود الاحتلال إليه، بواسطة عبوات ناسفة مضادة للأفراد، تنشر شظاياها دائريا لتحقيق أعلى معدلات إصابة ممكنة.

لكن، ما الذي يدفع البحرية الأميركية لدفع ملايين الدولارات مقابل أنظمة قتالية مشكوك في كفاءتها في أفضل الأحوال؟ الجواب الأقرب هو أن الجيش الأميركي سوف يستخدم هذه الأسلحة في مهام أكثر مباشرة وأقل تعقيدا من أنفاق غزة. السبب الأكثر وضوحا هو أن الولايات المتحدة لديها مصلحة واضحة في دعم الشركة الإسرائيلية، التي يشكل قدامى المحاربين في الجيش الأميركي نسبة 75% من موظفيها، كما أن 95% من إيراداتها السنوية يتم توليدها في الولايات المتحدة، مما يجعل من استمرار نشاط الشركة مسألة ضرورية بالنسبة للحكومة الأميركية.

 

 نباح بلا عض

تدرك دولة الاحتلال الإسرائيلي إذن، بالتجربة الصعبة، أن تقنيات "روبوتيم" ليست بالفعالية التي يروَّج لها، ويشير الكاتب ساجي كوهين في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إلى أن الأحداث الأخيرة أظهرت بشكل صارخ أن الكثير من مشاريع الروبوتات القتالية غير ناجحة، وأنه لا يمكن الاعتماد على هذه التكنولوجيا وحدها.

على رأس هذه المشاريع الفاشلة يأتي الروبوت القتالي "جاكوار" من تطوير شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية "آي إيه آي" (IAI). وقد زُوِّدت به "فرقة غزة" المعنية بأمن الحدود بين الأراضي المحتلة وقطاع غزة، وكان من المفترض أن يحل الروبوت محل الجنود على طول السياج الفاصل، حيث يمكنه القيام بدوريات الحراسة وإطلاق النار، كما زُوِّد بخاصية التدمير الذاتي في حال وقوعه في الأسر.

وكما أثبتت الوقائع على الأرض، فإن الروبوت لم يعمل بشكل مناسب أثناء عملية "طوفان الأقصى"، كما أن ضباطا من جيش الاحتلال اعترفوا بأن المشروع لا يسير وفق ما خُطط له، وأنه يواجه صعوبات عدة تعوق استخدام الإصدار الحالي. وقد دفع ذلك جيش الاحتلال إلى تجربة بدائل أخرى وهي الكلاب الآلية من طراز "فيجن 60" (Vision 60) من تطوير شركة "جوست روبوتيك"، ومقرها فيلادلفيا في الولايات المتحدة. يتميز هذا الروبوت بقدرات أكثر تطورا على مستوي أنظمة استشعار، ويمكنه النهوض بعد السقوط أو الانزلاق. إضافة لذلك، بإمكان الروبوت العمل 3 ساعات متواصلة متحركا بسرعة 3 أمتار في الثانية، مما يعني أنه يتفوق على نظام "روبوتيم" في هذا الصدد.

الكلب الآلي من تطوير جوست روبوتيك

ومع ذلك، لا يخلو النظام من عيوب تشغيلية واضحة، فرغم مداه الذي يبلغ 10 كيلومترات، فإن وزنه ثقيل جدا يتخطى 50 كيلوغراما ما يُصعّب مهمة التنقل به داخل الميدان، إضافة إلى ارتفاع سعره البالغ 165 ألف دولار للوحدة، والأهم سهولة استهدافه، حيث تشير تقارير بأن جيش الاحتلال عثر على البعض من كلابه الآلية مدمرة بعد أن أجهز عليها أفراد المقاومة.

في النهاية، يبدو جيش الاحتلال الإسرائيلي غارقًا في وحل سببه الرئيسي الاعتماد المبالغ فيه على التكنولوجيا، فلا هو استطاع تطوير أدواته القتالية وتقنياته لتكون بالكفاءة اللازمة للحرب التي أعدت لها فصائل المقاومة في غزة، ولا هو تمكّن من إعداد جنوده لخوض معركة شرسة ومعقدة في مواجهة خصم أقل كفاءة تقنيا، لكنه أقوى عزيمة وأطول نفسا.

مقالات مشابهة

  • شاهد: مزراع يفقد نصف قطيعه من الأغنام.. نفقت بقصف صاروخي إسرائيلي على جنوب لبنان
  • آخر أخبار غزة.. ارتفاع حصيلة الشهداء وقصف مدرسة للأونروا
  • «القاهرة الإخبارية»: الاحتلال الإسرائيلي رفض دخول شاحنتي أدوية إلى غزة
  • «القاهرة الإخبارية»: قوات الاحتلال الإسرائيلي رفضت دخول شاحنتي أدوية إلى غزة
  • روبوتيم وجاكوار والكلب الآلي.. لماذا فشلت الروبوتات الإسرائيلية أمام أنفاق غزة؟
  • وزير العمل الصومالي ومسؤول أممي يبحثان سبل تعزيز التعاون
  • القبّة اللغوية للاحتلال.. كيف تستخدم إسرائيل اللّغة لتسويغ الجرائم المرتكبة‌؟
  • «الأوقاف بالقدس» تستنكر منع شرطة الاحتلال دخول المصلين للمسجد الأقصى
  • ‏حزب الله اللبناني يعلن إطلاق مجموعة من المسيرات على شمال إسرائيل
  • «بوليتيكو»: التوسع الاستيطاني الإسرائيلي فى الضفة الغربية يزيد من حدة التوتر