لا يمكن لنا كعرب أن ننظر إلى إسرائيل بعيدا عن فكرة أنها "كيان" زائل لا محالة، طال الزمان أم قصر، وهذا اليقين مصدره الإيمان بالوعد القرآني في المقام الأول وهو أحد أهم عوامل صمود المقاومة الفلسطينية على مدى أكثر من 75 عاما منذ قيام "دولة" إسرائيل. إلا أن هناك إيمان آخر يمكن أن نشترك فيه مع المنصفين ممن تشغلهم القضية الفلسطينية حول العالم ببعديها السياسي والإنساني وهو أن كل احتلال أو استعمار يواجه مقاومة وإيمان بحق الأرض التاريخي لا بدّ أن ينتهي في يوم من الأيام، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطيني هو آخر احتلال عسكري باق في العالم.
لكنّ المنصفين للقضية الفلسطينية من غير العرب، بشكل خاص، لم يكتفوا بالوقوف عند فكرة أن "كل احتلال لا بدّ أن ينتهي" ولكنهم قرأوا بعمق الحقيقة الوظيفية لـ "دولة" إسرائيل في سياق قراءتهم لعموم المشروع الصهيوني في العالم، ووجدوا أن إسرائيل تعيش منذ سنواتها الأولى في مأزق حقيقي، ولم يشفع لها التقدم العلمي الذي حققته خلال العقود الماضية، ونجاحها في تشظية عدوها الأول.. العرب، وجعلهم يعيشون عند حافة التاريخ إن لم يكن خارجه.. لم يشفع لها كل ذلك بل إن الكثيرين ممن قرأوا مأزق "دولة" إسرائيل وصل بهم الأمر للحديث بشكل واضح عن الخطر الكبير الذي يواجهه بقاء هذه "الدولة" واستمرار "وجودها"، ومن بين هؤلاء مفكرون يهود استشعروا الخطر فحذروا منه بصوت عال. وفي سياق الحديث عن المفكرين الذين يؤمنون بالمأزق الذي تعيشه إسرائيل لا يمكن أن نتجاوز أطروحات كل من المفكرين نعوم تشومسكي ونورمان فينكلشتاين حتى لو كانا من أكبر منتقدي إسرائيل رغم يهوديتهم إلا أنهما شرّحا المأزق بتفصيل دقيق في الكثير من أطروحاتهما.
وهذا المأزق يتحدث عنه الكثيرون اليوم ممن يؤيدون إسرائيل دون هوادة ويعملون كل ما في وسعهم من أجلها ومن أجل استمرارها، ويطرحون الكثير من الأسئلة حول بقائها، ومستقبلها في محيطها العربي! إنه نفس الشعور الذي شعر به قبل نصف قرن العالم "آنشتاين" وهو يطرح سؤالا مماثلا على الصحفي محمد حسنين هيكل بعد أن قال هيكل إنه يعرف على الأقل بعض الضباط الأحرار الذين يحكمون مصر في ذلك الوقت: "هل تعرف ما الذي ينوون عمله بأهلي؟ أهلي من اليهود، هؤلاء الذين يعيشون في إسرائيل!". كان آنشتاين يشعر بالخطر على إسرائيل وما ينتظروها في السنوات القادمة أكثر من خوفه على أهله "اليهود"؟ كان ذلك في مطلع خمسينيات القرن الماضي!
وذلك السؤال ما زال حتى اليوم، وإنْ بشكل أكبر، أحد أخطر الأسئلة التي تواجه إسرائيل في هذا التوقيت بالذات حيث تعمل العنصرية الإسرائيلية بكل ما لآلتها العسكرية من قوة وبطش وغياب أي التزام أخلاقي أو إنساني وبشكل جنوني لا سابق له على ارتكاب أبشع المجازر في غزة، مجازر من تلك التي لا يمكن للتاريخ نسيانها أو تجاوزها، ولا يمكن لآلامها أن تسكن ولا لندوبها أن تبرأ.. إنها مجاز توجه بناء وعي وفكر الفلسطينيين والعرب عموما إلى اتجاه واحد فقط.. رفض أي شكل من أشكال السلام أو الاعتراف الجزئي أو الضمني بإسرائيل أو حتى مجرد التعايش معهم، وتحويل الصراع مع إسرائيل من صراع مع الفلسطينيين كما كان يسير خلال العقد الماضي من الزمن إلى صراع أبدي مع العرب والمسلمين.
وإذا كانت إسرائيل قد وصلت إلى مرحلة كادت فيها أن تنجح في إنهاء عزلتها الدبلوماسية مع محيطها العربي عندما بدأت في توقيع اتفاقيات تطبيع مع بعض الدول العربية رغم أنها لم تلق قبولا شعبيا ولو بنسبة 5% إلا أنها خطوة حسبت ضمن مكاسب إسرائيل في العقد الماضي.. فإن ما يحدث في غزة اليوم نسف كل شيء حلمت به إسرائيل، ومن غير المتوقع أن تقدم أي دولة عربية أخرى على توقيع اتفاقيات تطبيع جديدة مع إسرائيل وإلا ستجد نفسها في مواجهة مباشرة مع شعبها، بل إن البعض يتساءل إلى أي درجة يمكن أن تصمد بعض تلك "التطبيعات" بالنظر إلى ما يحدث اليوم من مجازر تنفي نفيا قاطعا أي إيمان إسرائيلي بفكرة "السلام".
تعتقد إسرائيل أنها تقضي الآن على المقاومة الفلسطينية وتكسر روحها المعنوية وتنهي مستقبلها حينما تمعن في قتل الأطفال (أكثر من 3 آلاف طفل حتى كتابة هذا المقال) وترمل النساء وتقتل كبار السن وتشردهم وتعيد استحضار ذاكرة الشتات الأولى التي حدثت في أعقاب النكبة الفلسطينية في عام 1948، لكنها لا يبدو أنها تعي تماما أنها تعيد بناء المقاومة الفلسطينية وبث الحياة فيها، وتعيد طرح استراتيجية "أن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة"، ليس في الوسط الفلسطيني فقط وإنما عند الشعوب العربية حتى ممن كان يؤمن بفكرة السلام مع إسرائيل.
إن إسرائيل موعودة بسنوات صعبة جدا، وقد تشاركها في ذلك بعض الدول الغربية التي تدعم المجازر في غزة.. وقد تكون هذه السنوات بداية الطريق لتحرير فلسطين وإقامة الدولة المستقلة؛ فالفلسطيني الذي قتل أطفاله أو دفنوا تحت الركام دون أي ذنب لا يمكن أن ينسى، والعربي الذي يحترق اليوم مما يحدث للأطفال في غزة لا يمكن أن ينسى لإسرائيل والغرب ما يحدث، وعليهم جميعا أن ينتظروا، إضافة إلى مقاومة أكثر قوة وصلابة في فلسطين، عودة تيارات التطرف في المنطقة مرة أخرى، مع الأسف الشديد. وإنْ كان الغرب قد واجهوا في التسعينيات والعقد الأول من الألفية أسامة بن لادن واحد فإن الأحداث التي تجري اليوم يمكن أن تصنع عشرات النسخ من ابن لادن وفي بقاع مختلفة من العالم.
إن ظهور تنظيم داعش في أعقاب الغزو الأمريكي ـ البريطاني للعراق لم يكن بدءا إلا بسبب الظلم والضيم الذي تعرض له العراقيون والعرب والمسلمون عندما رأوا إخوانهم في العراق يقتلوا بشكل جماعي وتخلع عنهم إنسانيتهم وأبسط أنواع حقوقهم التي تنص عليها المواثيق الدولية.. دون أن ننكر المؤامرة الدولية في بناء التنظيم وتغذيته لاحقا لتحريك الأحداث السياسية.
لقد أثبتت أحداث التاريخ أن الناس، في أي مكان، عندما يفقدون الأمل ويشعرون باليأس والحصار، ويقتل أطفالهم ونساءهم وتهدم بيوتهم على رؤسهم لا يكون أمامهم إلا المقاومة مهما كان توصيف العالم لمسار تلك المقاومة وآلتها. وعلى إسرائيل أن تعدّ نفسها لسنوات صعبة جدا تظهر فيها المقاومة الفلسطينية بروح مختلفة، ولكن بإيمان ثابت أنه لا سبيل أبدا أمام الفلسطينيين إلا النصر، وحينا هل سكان إسرائيل أن يشاهدوا "الدولة" التي حلموا بها وهي تتلاشى.
وهذا ليس كلاما خطابيا وحماسيا، فلا يمكن أن تفرز سنوات الظلم والقتل والتهجير والسجون إلا هذا المستوى من المقاومة في الداخل الفلسطيني.. أما في الغرب فإن اللا مبالاة التي يمارسونها أمام الجرائم التي ترتكب في فلسطين ودعمهم السياسي والعسكري وتعاطفهم الانتقائي فإن كل ذلك يعمل على تغذية الشعور بالتخلي بين ملايين المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا ما يدفعهم إلى اليأس والمقاومة العنيفة.
• عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة لا یمکن أن ما یحدث فی غزة
إقرأ أيضاً:
حماس ترد على تصريحات إسرائيل بشأن مستقبل المقاومة في غزة
قال حازم قاسم المتحدث باسم حركة حماس ، إن اشتراط إسرائيل إبعاد حماس عن القطاع "حرب نفسية سخيفة"، مؤكداً رفض الحركة الخروج من القطاع أو نزع سلاحها ضمن أي اتفاق.
وقال قاسم في بيان صحفي له، إن "أي ترتيبات لمستقبل قطاع غزة ستكون بتوافق وطني".
وأضاف أن "اشتراط إسرائيل إبعاد حماس عن القطاع حرب نفسية سخيفة، وخروج المقاومة أو نزع سلاحها من غزة أمر مرفوض".
ويشير قاسم إلى تقارير صحافية إسرائيلية أفادت بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قال في اجتماع للحكومة إن شروط إسرائيل في المرحلة الثانية من مفاوضات اتفاق وقف إطلاق النار هي نزع سلاح حماس، وألا يكون لها أي وجود في غزة ومنع السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع بعد الحرب.
وقال المتحدث باسم حماس إن الحركة جاهزة لمرحلة ثانية من اتفاق وقف إطلاق النار "يكون فيها تبادل الأسرى دفعة واحدة ضمن محدد الوصول لاتفاق يفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب كامل من القطاع".
وتابع قائلاً: "جاهزون سياسياً وميدانياً لتنفيذ بنود المرحلتين الثانية والثالثة من الاتفاق".
وكان رئيس "حماس" في غزة خليل الحية قد أعلن في وقت سابق اليوم أن الحركة قررت تسليم جثامين أربعة أسرى إسرائيليين يوم غد الخميس، بينما ستفرج يوم السبت عن بقية الرهائن الأحياء المتفق على إطلاق سراحهم ضمن المرحلة الأولى من الاتفاق وعددهم ستة.
وقال قاسم: "سنكون يوم السبت أمام أحد إنجازات الشعب الفلسطيني بإطلاق أعداد من الأسرى أصحاب الأحكام العالية".
وتستمر المرحلة الأولى من الاتفاق التي بدأت يوم 19 يناير (كانون الثاني) 42 يوماً يتم خلالها التفاوض على بنود المرحلة الثانية.
المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الجيش الإسرائيلي يدفع بتعزيزات عسكرية لمدينة طولكرم ومخيميها الاتحاد الأوروبي يوجه دعوة للمجتمع الدولي حول غزة والضفة الرئاسة الفلسطينية ترحب باستضافة السعودية محادثات روسيا وأمريكا الأكثر قراءة مصر تعتزم تقديم تصوّر متكامل لإعمار غزة "دون تهجير الفلسطينيين" أسعار العملات في فلسطين اليوم - سعر صرف الدولار الديوان الملكي الأردني يكشف تفاصيل مباحثات الملك عبدالله مع ترامب طقس فلسطين: حالة عدم استقرار جوي وسقوط أمطار اليوم عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025