ما يحدث في ألمانيا يكشف حالة اليسار الغريبة
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي
في صباح يوم الاثنين، قامت سارة فاجنكنيخت، صاحبة أقوى كاريزما لسياسي في حزب اليسار الألماني بقيادة مظاهرة ضد حزبها. هي عضوة قديمة في البرلمان الوطني، وشريكة حتى عام 2019 في قيادة الوفد البرلماني لحزب اليسار، لكن لديها الآن في ما يبدو فكرة مختلفة عما يعنيه "اليسار". فقد أعلنت هي وتسعة من زملائها أعضاء البرلمان أنهم سوف ينشئون حزبا جديدا في يناير لاجتذاب الناخبين الساخطين مثلها.
كانت سارة فاجنكنيخت تلمح للانفصال عن الحزب منذ شهور. وحزب اليسار في ألمانيا هو سليل الحزب الحاكم القديم في ألمانيا الشرقية الشيوعية الذي انضمت إليه سارة فاجنكنيخت في عام 1989 قبيل سقوط سور برلين. لكنه ليس بالحزب القديم الذي كان إياه. ولوضعه في سياق أمريكي صرف نقول إنه أصبح أكثر صحوية [too woke] مما تحتمل سارة فاجنكنيخت. إن الحكومة الألمانية الحالية تتألف من أحزاب الديمقراطيين الاشتراكيين، والخضر، والديمقراطيين الأحرار ذوي التوجه السوقي. وهي تطرح أجندة لما تطلق عليه فاجنكنيخت "يسار نمط الحياة" وليس يسارا حقيقيا. ومع ذلك فقد أغوت الكثير من زملائها القدامى.
تقول سارة فاجنكنيخت إنه في وقت يشهد عجزا في الإسكان وضعفا في نمو الأجور، فإن عزوف الحكومة عن إيقاف تدفق اللاجئين الاقتصاديين "عملا غير مسؤول". والقيود الثقيلة التي تفرضها على الطاقة تتسبب في عبء كبير على الأسر الفقيرة. وموافقتها غير المشروطة على دعم الولايات المتحدة للحرب الممتدة في أوكرانيا تؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والشلل في الاقتصاد الألماني.
ولا يقتصر اعتراض سارة فاجنكنيخت على حزبها بسبب عجزه عن معارضة الحكومة وإنما أيضا بسب تنمره بالمواطنين الذين يعارضونها والتقليل من شأنهم. فقد كتبت في عام 2021 كتابها الرائج الذي شنت فيه هجوما على اليسارية المسايرة للصرعة بعنوان “The Self-Righteous”. وفي خريف العام الحالي ظهرت في أحد أهم البرامج الحوارية في ألمانيا لتصر على أن من اعترضوا على القواعد الألمانية الوحشية التي اتبعت في فترة كوفيد إنما هم "مواطنون طبيعيون" ولتبرر أيضا عدم تلقيها للقاح.
ويقول منتقدو فاجنكنيخت إن ما يجري أمر بسيط: إنها تتحول إلى اليمينية.
وهذا غير صحيح بالمطلق. فلم يزل تفكيرها يحمل أثر سنوات التكوين الشيوعي. وقد يكون موقفها من الهجرة تقييديا، لكنها تؤثر فتح حدود ألمانيا لطالب اللجوء السياسي. (فالتقييد الذي تريده مقصور على هجرة العمالة). ولعلها تأسى لتدفق المهاجرين من أفغانستان وسوريا والعراق، لكنها تلوم في ذلك السياسة الخارجية الأمريكية.
غير أنه صحيح أيضا أن ما تحاول فاجنكنيخت عمله بحزبها الجديد هو ذو طبيعة تحولية. وله آثاره لا على مستقبل السياسة الألمانية وحدها وإنما أيضا على تفكيرنا في ما يتحول إليه اليسار في أغلب أرجاء العالم الغربي.
في ألمانيا كما في الولايات المتحدة، ثمة انقسام عميق في الناخبين إلى "شعبويين" و"نخبويين". وكلا الجانبين غير راض عن تسميته، ناهيكم عن اتهامات التطرف التي غالبا ما تصاحب التسميتين. ومن المؤكد أن فاجنكنيخت شعبوية. ولكن في السياق الألماني أصبح السؤال عما لو أنها شعبوية يسارية أم شعبوية يمينية سؤالا ملحًّا للغاية.
بعد انصرام سبعة عقود على الحرب العالمية الثانية بات فيها الاعتدال شعارا سياسيا للبلد وأصبح فيه الديمقراطيون المسيحيون مستودعا لأغلب النزعات المحافظة، تغيرت ألمانيا كثيرا. وبعد ويلات أزمة اليورو في 2010، وأزمة الهجرة ابتداء من عام 2015، وأزمة الصناعة بسبب حرب أوكرانيا، تطرف البلد إلى حدود لا يمكن تصورها. فحزب "البديل من أجل ألمانيا" [AfD] هو أول حزب قومي كبير في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وترتيبه حاليا هو الثاني في استطلاعات الرأي.
وفي خطبة له، أشار أخيرا النائب بيورن هوكي ـ زعيم الجناح الأكثر تشددا في حزب "البديل من أجل ألمانيا" ـ إلى المصاعب التي تواجهها فاجنكنيخت مع حزب اليسار ثم خلص إلى دعوتها: "تعالي إلينا".
قالت فاجنكنيخت إنها تعد هوكي متطرفا يمينيا ولا تريد أن تكون لها علاقة به. وتميل المواقف الألمانية بشأن حزبها الجديد إلى التمحور حول مسألة محددة: هل ستوسع فاجنكنيخت الصعود الشعبوي اليميني أم ستخصم منه. والاستطلاعات ترجح الخصم: ففي أغسطس نشرت صحيفة دي تسيت استطلاعا أجراه معهد إنسا في ولاية تورينجيا حيث حزب (البديل من أجل ألمانيا) هو أكبر الأحزاب مبينة أنه لو خاض حزب فاجنكنيخت الانتخابات هناك فسوف يأتي في المركز الأول بـ 25% ويليه حزب (البديل من أجل ألمانيا) بـ22%. وقد أظهرت الاستطلاعات سابقا نسبة 30% لحزب البديل من أجل ألمانيا.
يتشكك آخرون في أن فاجنكنيخت سوف تجتذب ناخبين من اليمين المتطرف. ففي مقالة كثر التعليق عليها بعد نشرها في صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج التي تنتمي إلى يمين الوسط، أكد أستاذ علم الاجتماع أوليفر ناختوي المقيم في بازل بسويسرا أن أهدافها المفضلة ليست التطرف في ألمانيا وإنما الوسط الليبرالي وأن انتقادها "لا يختلف كثيرا عن حرب اليمين الثقافية".
والوسط الليبرالي معرض بالفعل للخطر. فقد أجريت انتخابات الولايات هذا الشهر في ولايتي هيسي وبفاريا، وفي كلتيهما خسرت أحزاب الائتلاف الفيدرالي الحاكم الثلاثة جميعا ـ وهي أحزاب الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر والديمقراطيين الأحرار. فالتحالف الذي بدا حتى وقت قريب أنه يمثل مطامح المزيد من العالمية والوعي البيئي في ألمانيا بات يترنح.
شيء ما يجري في البلاد الغربية لدفع الجماهير (مثلما كان يطلق عليهم) بعيدا عن أحزاب اليسار ويسار الوسط بعد أن كانت على مدار القرن الماضي ترحب بها وتناصرها. في بعض الأوقات تلوم فاجنكنيخت كسل الساسة المحترفين. فقد قالت مرة إن "تنظيم حرية التعبير أسهل من رفع الحد الأدنى للأجور". وهي كثيرا ما تتحدث وكأن هناك بالفعل يسارين اثنين: يسار رفع الأجور الراغب في توزيع الثروة بإنصاف ويسار تنظيم حرية التعبير الذي يريد تأكيد الهوية الجندرية أو محاربة العنصرية. ولوقت طويل كان هذان اليساران ـ اقتصاديا وثقافيا ـ يميلان إلى استيطان الأحزاب نفسها.
لكن ربما كان هذا حادثا تاريخيا أكثر مما هو تماثل فعلي. فقبل أجيال، كان عمال الزراعة والصناعة يضبطون نبرة الحركات اليسارية. وكان مشروعها لضمان معاملة اقتصادية أكثر إنصافا يتقاطع في بعض المواضع مع مشاريع المهاجرين والأقليات العرقية والعنصرية، والنساء، والمثقفين. وبرغم أن عمال المزارع اليوم يشكلون نسبة ضئيلة من أغلب القوى العاملة في الغرب، كما تقلصت معدلات تشغيل العمالة في الصناعة بشكل حاد أيضا. وهكذا أصبح اليسار ـ بشكل طبيعي إلى حد كبير ـ حركة سياسية مختلفة. وليس ذلك لأن أحدا غير رأيه أو ارتكب خطأ أيديولوجيا ولكن لأن اليسار الآن يعكس مصالح فئات مختلفة من الشعب.
ولامتلاء اليسار بالأقليات، فإنه يزداد اهتماما بهيراركيات الاحترام وينتبه إلى مراقبتها. ولامتلائه بالمثقفين، فإنه ـ بشكل متزايد وخاطئ ـ يميل إلى اعتبار الديمقراطية بحثا عن الحقيقة لا بحثا عن التوافق، ويميل إلى حسبان المختلفين معه ـ مهما كثروا عددا ـ أعداء الديمقراطية بل ومستبدين. ولعل بعض الناس لا يزالون موجودين في اليسار ومنشغلين بنوعية المظالم الاقتصادية التي كانت تؤجج حماسة فاجنكنيخت أيام كانت تقرأ كارل ماركس وروزا لوكسمبرج في القرن العشرين. ولكن هؤلاء لن يستمروا حاضرين بالضرورة.
ما من خروج على القانون في سياسات آخر الزمن هذه التي يتبعها اليسار. لكنها لم تعد سياسات واضحة في قيامها على رؤية المساواة، وقد تنتهي إلى أن تكون سياسات نخبوية. وطبيعي لمن لم تزل ذاكرتهم اليسارية تمتد إلى العهد الذي تمتد إليه ذاكرة فاجنكنيخت أن يجدوا صعوبة في اعتبارها سياسات يسارية أصلا.
كاتب المقال من كتاب الرأي في التايمز ومن مؤلفاته "تأملات في الثورة في أوروبا: الهجرة والإسلام والغرب".
• https://www.nytimes.com/2023/10/27/opinion/germany-leftist-populist-party-wagenknecht.html
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البدیل من أجل ألمانیا حزب الیسار فی ألمانیا
إقرأ أيضاً: