أستأذن الشاعر الراحل الكبير نزار قباني في استعارة عنوان قصيدته الشهيرة (متى يعلنون وفاة العرب )، وكل بيت فيها يعبر عما آلت إليه أحوالنا من هزائم وانكسارات:
أنا منذ خمسين عاما
أرقبُ حال العرب
وهم يرعدون ولا يُمطرون
وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون
وهم يعلكون جلود البلاغة
ولا يهضمون
لعل بعض أبيات هذه القصيدة التي لا يتسع المجال بعرضها كاملة تعبر في مجملها بصدق عن أحوال أمتنا العربية، التي انحدرت إلى هوة سحيقة لم يعد الخروج منها آمنا، ولو كان نزار حيًا بيننا لعبر بحسرة ومرارة أكثر مما قاله في هذه القصيدة.
على الرغم من أهوال الحروب التي حصدت مئات الملايين منذ فترة مبكرة من التاريخ الإنساني، وصولًا إلى أهوال الحرب الدائرة في غزة، والتي تحصد كل يوم أرواح آلاف الأبرياء، ورغم ذلك فان القوى المتحكمة في مصائر العالم لم تستوعب الدرس بعد أن فقدت ضميرها الإنساني في ظل وجود منظمات دولية وإقليمية تأسست بهدف حماية الإنسان من استقواء الأقوياء الذين يرفعون شعارات صباح مساء، دفاعًا عن الحرية والديمقراطيات في العالم، وهي ذات الأهداف التي حارب الحلفاء من أجلها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يلتفت العالم إلى زيف هذه الشعارات، حينما لم يتحقق السلام في العالم منذ أن تأسس مجلس الأمن وغيره من المنظمات الإقليمية، فقد بقي العالم رهنا بسياسات الأقوياء، الذين تحكموا في مصائر العالم، ولم تنجح هذه المنظمات يومًا في رفع الظلم عن المستضعفين في العالم.
فقدت القوى المتحكمة في مصير العالم مصداقيتها، سواء بسبب وقوفها لدعم كل القوى المستعمرة أو في استقوائها بما يُسمى الأمم المتحدة، التي تشكلت منذ نشأتها على أسس غير عادلة يتحكم فيها العالم القوي في مصير الشعوب المستضعفة، ولعل ما يحدث في غزة الآن يعد نموذجًا للقهر والقسوة، لدرجة أنه حينما تقدمت روسيا بمشروع قرار لوقف إطلاق النار على غزة، وهو ما رفضته الولايات المتحدة الامريكية ومن ورائها القوى الأوروبية المتحكمة في مصير العالم، وهي سياسة افتقدت إلى كل القيم الإنسانية، استجابة لمطلب إسرائيل بحجة الدفاع عن نفسها، وهو مشهد بائس ينم عن افتقاد كل قيم العدالة، حيث يواصل الإسرائيليون صباح مساء هدم المنازل على رؤوس ساكنيها وتدمير المستشفيات والمساجد والكنائس، والمضي في سياسة إحراق الأرض على ساكنيها، بينما العالم الذي يسمي نفسه حرًا ماضيًا في غيه وعدوانه وسط صمت الأسرة الدولية، وهو أمر لن يُفضي إلا إلى مزيد من القتل والعنف والدمار.
اللافت للنظر، أن الكثير من صراعات العالم قد توقفت، وخصوصًا الصراع الروسي الأوكراني الذي تراجع إلى الهامش وكأن هناك اتفاق دولي على إرجاء كل الصراعات في العالم لصالح إسرائيل، التي حظيت بدعم هائل من القوى الكبرى، وأصبحت تل أبيب محط أنظار الساسة ورؤساء الدول يزورونها كل يوم، في رسالة واضحة لدعم إسرائيل عسكريًا وسياسيًا وماديًا، لدرجة استقدام حاملات الطائرات والبوارج العسكرية في مشهد ينم عن خلل واضح في منظومة العدالة. كل ذلك في سبيل إعلان الحرب على شعب غزة الذي لا يتجاوز عدده أكثر من المليونين، وعلى مساحة جغرافية لا تتجاوز ٣٥٠ كم، في ظل حصار عسكري مُحكم، وظروف اقتصادية واجتماعية وإنسانية شديدة التعقيد.
لم يلتفت الكثيرون في عالمنا العربي إلى أن معظم أزماتنا العربية منذ إنشاء إسرائيل ١٩٤٨، وحتى اليوم، كان من ورائها الولايات المتحدة الامريكية والغرب، مرورًا بكل الأزمات الكبرى في كل أقطارنا العربية، وخصوصًا ما شهدته المنطقة خلال العقود الأخيرة، والتي بدأت بأزمة الكويت وما تبعها تجييش القوى العالمية التي دمرت العراق، والتي تجاوزت التخلص من حكم صدام إلى تفكيك الوطن العراقي وانهيار قواه، وهو ما فتح الباب أمام انتشار ظاهرة العنف والإرهاب، وقد اصطفت بعض أقطارنا العربية لدعم العدوان على العراق دون النظر للعواقب التي تنجم عنه، ورغم مضي أكثر من عقدين فمازال العراق يلعق جراحه، ولم يستعد قواه بعد.
لم تكتف القوى الكبرى بما حل بالعراق، الذي كان سببًا في تفكيك أوصال أمتنا العربية، بل عملت الولايات المتحدة ومن ورائها أتباعها لإشعال فتن وثورات طالت معظم الأقطار العربية، وقد بذلت القوى الغربية في سبيل ذلك أموالًا ودعمًا سياسيًا وإعلاميًا، بحجة دعم الديمقراطيات في العالم العربي، وهو ما أحدث انهيارًا في بعض الأنظمة العربية، التي كانت مستقرة، وما تزال النيران مشتعلة من جراء هذه المؤامرة الكبرى، ولعل ما يحدث في غزة يعد حالة كاشفة عن الوهن والضعف الذي ضرب أوطاننا في مقتل، وخصوصًا وأن الكثير من دولنا العربية تعاملت مع الأزمة من قبيل إبراء الذمة، بيانات، وتصريحات عنترية، ولا بأس أن تخرج بعض المظاهرات دليلًا على الحرية التي تتبناها أنظمتنا العربية دعمًا لقضايانا القومية، ولم تتجاوز المواقف مجرد إصدار البيانات أحيانًا أو الصمت المطبق في كثير من الأحيان.
لقد انكفأ العرب على قطريتهم وأنانيتهم، معتقدين أنهم ناجون من هول هذا الطوفان، بينما أهلنا في غزة المحاصرة يُقصفون بمختلف صنوف الأسلحة الفتاكة، وقد فقدوا حتى مجرد الحصول على العلاج، بعد أن تهدمت مستشفياتهم ومُنع عنهم الماء والدواء والكهرباء، وراح الموت يحصد المرضي والأسوياء على قدم وساق تحت أعين وبصر والعرب، الذين يتابعون المأساة على التلفاز، وهم جالسون في غرفهم يأكلون ويشربون ويتسامرون.
هل آن الأوان لكي نعلن وفاة العروبة، التي لم يبق منها إلا لغة يتحدثون بها وثقافة يتباكون عليها، وتراث من الفخار يودعونه بكل ألم ومرارة ؟ هل نعلن وفاة العروبة التي داهمها الجهل والخوف والحرص الذي أذل أعناق الرجال؟ ألم يحن الوقت بعد كل ما حدث لأوطاننا وشعوبنا من العودة إلى مراجعة النفس، والاعتصام بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا؟ اعتمادا علي شعوب حية تتحرق شوقًا نحو الخروج من دائرة الموت.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العالم فی غزة
إقرأ أيضاً:
الغرف العربية: 200 مليار دولار واردات غذائية متوقعة للعالم العربي بحلول 2030
أكد الدكتور خالد حنفي، أمين عام اتحاد الغرف العربية، خلال كلمته في مؤتمر ترويج الاستثمار بين البلدان العربية، الذي عقد في العاصمة الإيرلندية دبلن، بتنظيم من غرفة التجارة العربية-الإيرلندية واتحاد الغرف العربية، أنّ العالم يمرّ بمرحلة حاسمة في مجال التجارة والاستثمار، ما يتطلب تعزيز التعاون وفتح الأسواق المشتركة لتفادي تداعيات الحروب التجارية العالمية.
وشهد المؤتمر حضور وزير التنمية الدولية الإيرلندي Neale Richmond، ومحافظ دبلن، إلى جانب عدد من السياسيين الإيرلنديين، ورؤساء الشركات من إيرلندا والعالم العربي، إضافة إلى أمين عام غرفة التجارة العربية-الإيرلندية أحمد ركان يونس.
وأشار الدكتور خالد حنفي إلى أن “العالم العربي وأوروبا تجمعهما روابط اقتصادية عميقة منذ عقود، لكن الإمكانات المستقبلية أعظم، فمع وجود سوق يضم أكثر من 450 مليون مستهلك، تبرز المنطقة العربية ليس فقط كشريك تجاري رئيسي بل كمركز واعد للاستثمار والابتكار والتنمية المستدامة. وفي هذا السياق، تُعدّ إيرلندا، باعتبارها اقتصادًا أوروبيًا ديناميكيًا ورائدًا في التكنولوجيا والتمويل والطاقة المتجددة، في موقع قوي لتعزيز شراكتها مع الأسواق العربية”.
وأكد الدكتور حنفي أن العالم العربي يتمتع بتنوع اقتصادي واسع يمتد عبر الخليج والشام وشمال إفريقيا، مما يوفر فرصًا استثمارية هائلة للشركات الأوروبية. كما توقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 5 تريليونات دولار بحلول عام 2030، مما يجعلها واحدة من أكثر المناطق الاقتصادية ديناميكية في العالم. ولفت إلى أن التجارة بين الاتحاد الأوروبي والعالم العربي تجاوزت 300 مليار يورو عام 2023، ما يعكس عمق الروابط الاقتصادية بين الجانبين.
وأضاف أن المنطقة العربية تمتلك 48% من احتياطات النفط العالمية و43% من احتياطات الغاز الطبيعي، وتستثمر بشكل متزايد في مشاريع الطاقة المتجددة، حيث تعهدت الإمارات والسعودية وحدهما بضخ استثمارات تتجاوز 300 مليار دولار في مشاريع الطاقة النظيفة، مما يفتح الأبواب أمام الشراكات مع الشركات الأوروبية المتخصصة في التكنولوجيا الخضراء.
كما أشار إلى أن العالم العربي يُعتبر مستوردًا رئيسيًا للمنتجات الغذائية والزراعية، ومن المتوقع أن تصل وارداته الغذائية إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2030، مما يجعل التعاون مع إيرلندا، التي تصدّر بالفعل أكثر من 300 مليون يورو من منتجات الألبان والأغذية إلى الشرق الأوسط سنويًا، فرصة للنمو والتوسع.
وتناول الأمين العام الطفرة الكبرى في مشاريع البنية التحتية بالعالم العربي، والتي تفوق قيمتها 3 تريليونات دولار في قطاعات النقل والإسكان وتطوير المدن الذكية، مما يوفر فرصًا هائلة لشركات البناء الأوروبية والمستثمرين في الهندسة والتكنولوجيا الذكية.
وفيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي، لفت إلى أن حجم الاقتصاد الرقمي في دول مجلس التعاون الخليجي مرشح للوصول إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2030، مع استثمارات كبيرة في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية والأمن السيبراني، مما يعزز من فرص الشركات الأوروبية في دخول الأسواق العربية والاستثمار فيها.
وأشار الدكتور حنفي إلى أن أصول صناديق الثروة السيادية الخليجية تتجاوز 3 تريليونات دولار، مع استثمارات متزايدة في العقارات والتكنولوجيا والبنية الأساسية داخل أوروبا، مما يعكس اهتمام المستثمرين العرب بالمشاريع المستدامة والتمويل الأخضر والتحول الرقمي في القارة الأوروبية.
وشدد الأمين العام لاتحاد الغرف العربية على أهمية تعزيز اتفاقيات التجارة والشراكات الاقتصادية بين العالم العربي وأوروبا، موضحًا أن هناك حاجة لمزيد من التحرير التجاري وخفض التعريفات الجمركية وتسهيل تدفقات الاستثمار بين الجانبين. كما نوّه إلى أن المناطق التجارية الحرة في الإمارات والسعودية ومصر توفر بيئة استثمارية جذابة للشركات الأوروبية الراغبة في التوسع بالأسواق العربية.
وفي هذا السياق، دعا الدكتور حنفي إلى الاستفادة من التجارة الرقمية والتكنولوجيا المالية في تسهيل دخول الشركات الصغيرة والمتوسطة للأسواق العالمية، مشيرًا إلى أن التعاون في مجال البنية التحتية الرقمية والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي يمكن أن يرفع من كفاءة التجارة بين العالم العربي وأوروبا.
وختم كلمته بالتأكيد على أن “اتحاد الغرف العربية على أتمّ الاستعداد لدعم الشركات التي تسعى إلى دخول الأسواق العربية والتوسع فيها، ونحن ملتزمون ببناء شراكات اقتصادية أقوى، وتعزيز تدفقات الاستثمار، وفتح آفاق جديدة للتعاون التجاري بين العالم العربي وأوروبا”.
وعلى هامش المؤتمر، عقد مجلس إدارة غرفة التجارة العربية-الإيرلندية اجتماعًا بحضور رئيس الغرفة Enda Corneille، وأمين عام اتحاد الغرف العربية الدكتور خالد حنفي، وأمين عام غرفة التجارة العربية-الإيرلندية أحمد ركان يونس، إلى جانب أعضاء مجلس الإدارة من الجانبين العربي والإيرلندي.
وتم خلال الاجتماع بحث سبل تعزيز التعاون الاقتصادي، وتنشيط دور الغرفة من خلال تنظيم البعثات وعقد اللقاءات بين رجال الأعمال والمستثمرين العرب والإيرلنديين. كما جرى مناقشة تداعيات الحرب التجارية العالمية، في ضوء القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية، والتي أثارت المخاوف بشأن تصاعد الحمائية التجارية، مع التأكيد على أهمية تعزيز الانفتاح الاقتصادي وتوسيع الأسواق المشتركة بين الدول العربية وأوروبا، وفي مقدمتها السوق الإيرلندية.