يحيي العالم العربي هذه الأيام الذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربي طه حسين، الذي ظل طوال حياته، وحتى بعد نصف قرن من رحيله مالئ الثقافة العربية وشاغلَ ناسها، وما ذلك إلا دليل على أهميته الكبيرة، التي أهلته لأن يكون بلا منازِعٍ المثقفَ العربي الأكثر تأثيرًا في الثقافة العربية خلال القرن العشرين، والمرشح العربي الأبرز لجائزة نوبل للأدب سنوات طويلة، وهي الجائزة التي مات قبل أن تتشرّف به.
رحل صاحب «الأيام» في الثامن والعشرين من أكتوبر من عام 1973م، أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من نصر السادس من أكتوبر المصري على إسرائيل، وتحل ذكراه الخمسون اليوم بعد ثلاثة أسابيع أيضًا من نصر السابع من أكتوبر الفلسطيني على الكيان الصهيوني، وما بين هذين التاريخين كُتِبتْ مئات الصفحات التي تتحدث فقط عن علاقة العميد بفلسطين وقضيتها، واليهود، والصهيونية، ما بين متَّهِمٍ له بخذلان قضية العرب الأولى وممالأة الصهاينة من جهة، ومدافع عنه بضراوة، بل ومفنِّدٍ لهذه الاتهامات من جهة أخرى.
ولعل أبرز الكتب التي شنت هجومًا كبيرًا على طه حسين كتاب «المشروع الصهيوني.. الاختراق الصهيوني لمصر من 1917 حتى 2017»، الصادر عام 2017م لأستاذة الإعلام المصرية عواطف عبدالرحمن، التي قالت: إن اليهود في مصر تقربوا إلى كبار الكتّاب والأدباء المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، وعملوا على «اكتساب مودتهم وتعاطفهم، وبالتالي ضمان امتناعهم عن كتابة أي شيء يؤدي بشكل أو بآخر إلى كشف النوايا الحقيقية للنشاط الصهيوني»، وأكدت عواطف عبدالرحمن أنهم نجحوا بالفعل في اكتساب «ثقة وتعاطف ومشاركة» عدد من هؤلاء الكتاب، في مقدمتهم طه حسين، وقالت: إن العميد زار مدارس الطائفة اليهودية في الإسكندرية، وقدم فيها محاضرة عن علاقة اليهود بالأدب العربي عام 1944م، وقد تعرض بسبب هذه المحاضرة للهجوم من الصحافة العربية الصادرة في ذلك الوقت، ولكن الصحف اليهودية تصدت للدفاع عنه. وتواصل الكاتبة هجومها على الأديب المصري الكبير بالحديث عن تولّيه في عام 1945م رئاسة تحرير مجلة «الكاتب المصري» متهمة هذه المجلة التي أسستها أسرة «هراري» اليهودية المصرية بأنها لعبت «دورًا خطيرًا في الدعاية غير المباشرة للحركة الصهيونية»، ويبدو أن الباحثة اعتمدت في هذه التهمة على اتهامات مماثلة للمجلة أطلقها عدد من المجلات العربية التي كانت تصدر في وقت صدور «الكاتب المصري» وهي مجلات «الاثنين» المصرية، و«الصياد» و«المكشوف» اللبنانيتان، وجريدة «البلاغ» الفلسطينية.
ممن ردوا على اتهامات عواطف عبدالرحمن الكاتب المصري إيهاب الملاح في كتابه «طه حسين: تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» الصادر عام 2021م، وقد خصص فصلا للرد عليها عنوانه: «لم يكن صهيونيًّا، وحاشا له أن يكون» قائلا: إنها تقيم كتابها على خلط فادح بين مفهومي «يهودي» و«صهيوني»، وإنها اتبعت في دراستها منهجًا خاطئًا يعتبر كل يهودي صهيونيًّا بالضرورة، مؤكدًا أن هذا «تناول عنصري وغير سليم». ويستغرب الملاح من عدم رجوع الكاتبة إلى كتاب مهم صدر عام 2010م، ألا وهو كتاب «طه حسين والصهيونية» للكاتب المصري حلمي النمنم.
ومن يقرأ كتاب النمنم يجد أن استغراب الملاح في محلّه. فقد كان بالفعل من أهم الكتب التي دحضت تهمة ممالأة الصهيونية عن عميد الأدب العربي. يقول المؤلف: إن من يتهمون طه حسين بتجاهل قضية فلسطين هم «المثقفون بالسماع»، ويذكّر النمنم قراءه بمقال لطه حسين عنوانه «فلسطين» نُشِرَ في صحيفة «كوكب الشرق» في 28 أكتوبر 1933 ينتقد فيه موقف أوروبا من الاحتلال الإنجليزي لمصر وفلسطين، ومما جاء في هذا المقال: «وإلا فما إخضاع مصر لقوة الإنجليز، وما إخضاع فلسطين لقوة الإنجليز وطمع الصهيونيين»، ثم يتحدث عن مقال آخر للعميد نُشِر في الصحيفة نفسها في 4 مارس 1934 عنوانه «غريب» عن الكاتب الفلسطيني محمد علي الطاهر الذي حاول دخول فلسطين لزيارة أمه لكن السلطات البريطانية منعته، يقول طه حسين: «فما يكون الرجل من أهل فلسطين غريبا في مصر، وما ينبغي أن يكون الرجل من أهل مصر غريبا في فلسطين». ويمضي النمنم في الدفاع عن طه حسين بالتذكير أنه نشر عدة مقالات في عام 1945؛ العام الذي أُنشِئت فيه جامعة الدول العربية، منتقدًا موقف هذه الجامعة من قضية فلسطين قائلًا: إنها لا تفعل شيئًا أكثر من إصدار البيانات (وما أشبه الليلة بالبارحة) في حين تطالب المنظمات الصهيونية بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، وهو ما سيتحقق بعد سنوات قليلة. لكن المقال الأبرز الذي أورده النمنم، والذي يدحض من وجهة نظري أي تهمة محاباة للصهيونية عن عميد الأدب العربي، فهو مقاله «الصلح مع إسرائيل» الذي نشره في الرابع من يونيو 1956 والذي يقول فيه بالحرف: «الصلح مع الظالمين إجرام ما دام ظلمهم قائمًا. الرضا بقصة فلسطين وظلم إسرائيل وأعوانها هو مشاركة في الإثم».
وكان الكاتب والناقد اللبناني محمد دكروب قد سبق الملّاح والنمنم في الدفاع عن العميد، وذلك في مقال طويل له في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 2008م بعنوان «طه حسين في الكاتب المصري: هل خدم الصهيونية من دون أن يدري؟» خالصًا إلى أن ما نشرته المجلة عبر أعدادها الاثنين والثلاثين خلال الفترة من أكتوبر 1945 وحتى مايو 1948 كان تنويريًّا ومنحازًا إلى الحق العربي في فلسطين. وقد استشهد دكروب بكتاب الباحث التونسي رشيد القرقوري «طه حسين مفكرًا سياسيًّا» الصادر سنة 2000 الذي يقول فيه: «..هو يرفض صراحةً تجميع اليهود في فلسطين، أو إقامة دولة لهم هناك، لذلك نعتبر طه حسين ذا شجاعة وجرأة عندما خاطب اليهود برفضه لوجودهم في فلسطين، من خلال مجلة يمولها يهود مصريون».
يبدو لي الآن بعد استعراض كل هذه الدفاعات عن طه حسين أن تهمة خذلانه لفلسطين وممالأته للصهيونية هي تهمة واهية ولا تستند إلى أساس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عمید الأدب العربی الکاتب المصری من أکتوبر فی فلسطین طه حسین
إقرأ أيضاً:
محافظ البنك المركزي المصري يشارك في الاجتماع السنوي لصندوق النقد العربي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
شارك حسن عبدالله محافظ البنك المركزي المصري في "الاجتماع السنوي التاسع عشر عالي المستوي حول الاستقرار المالي والأولويات التنظيمية والرقابية" بأبو ظبي، والذي استمرت فعالياته على مدار يومي 18 و19 ديسمبر 2024، بحضور خالد محمد بالعمى محافظ مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي، والدكتور فهد بن محمد التركي المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، وفرناندو ريستوي رئيس معهد الاستقرار المالي، وعدد كبير من محافظي البنوك المركزية بالدول العربية.
تضمن الاجتماع العديد من الجلسات التي ناقشت عددًا من القضايا والموضوعات ذات الأولوية للبنوك المركزية والأنظمة المصرفية العربية، منها اتجاهات المخاطر في الأنظمة المالية بالدول العربية، والأولويات الرقابية في ظل التغيرات الاقتصادية والتداعيات الجيوسياسية، ودور البنوك المركزية في ضوء تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتطورات التكنولوجية، وتعزيز حوكمة البنوك المركزية، والمبادئ الأساسية المعدّلة للرقابة المصرفية الفعالة وانعكاساتها على الأطر الرقابية والاحترازية.
وخلال مشاركته في الجلسة الأولى من الاجتماع أوضح عبدالله أن تعزيز الاستقرار المالي ومرونة القطاعات المصرفية العربية يكتسب أهمية كبيرة في الوقت الراهن، لافتًا إلى أن البنوك المركزية تقوم بدور رئيسي في هذا الإطار من خلال ضمان تبني البنوك لسياسات ديناميكية ودقيقة لإدارة المخاطر واستعدادها للتكيف مع الظروف المتغيرة والصدمات المتلاحقة والمخاطر الناشئة المتعلقة بتغيرات المناخ والتحديات السيبرانية، وذلك عبر تطبيق أدوات السياسة الاحترازية الكلية، مؤكدًا على ضرورة التنسيق بين كل من السياسة المالية والسياسة النقدية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي، واحتواء الضغوط التضخمية وتوجيه المزيد من التمويل للقطاع الخاص لدفع النمو الاقتصادي.
وأشار المحافظ أن البنك المركزي المصري يقوم بصورة دورية بتقييم صلابة القطاع المصرفي في مواجهة المخاطر المختلفة التي قد تهدد الاستقرار المالي، وذلك من خلال منظور احترازي كلي، حيث يتم تطبيق اختبارات الضغوط الكلية ضمن سيناريو متكامل للمخاطر الاقتصادية والمالية والجيوسياسة والمناخية بهدف قياس مدى تأثر القطاع المصرفي بالمخاطر النظامية التي قد تنتج عن تلك الصدمات، وقد أظهرت هذه الاختبارات مرونة القطاع المصرفي المصري في مواجهة مختلف المخاطر، وفاعلية السياسة الاحترازية الكلية والجزئية للبنك المركزي المصري في تعزيز الاستقرار المالي.
جدير بالذكر أن هذا الاجتماع السنوي يمثل أهمية كبيرة لصانعي السياسات ومتخذي القرار في البنوك المركزية والمؤسسات المالية والمصرفية وكبار مسؤولي الرقابة المصرفية في المنطقة العربية، باعتباره لقاءً دوريًا يضم خبرات متميزة ومسؤولين رفيعي المستوى، ويناقش أهم المستجدات في قضايا الاستقرار المالي والتشريعات الرقابية، بما يساهم في الخروج برؤى قيّمة يتم ترجمتها إلى قرارات فاعلة تعمل على تعزيز الاستقرار المالي في الدول العربية.