"الأرض قفرا.. والمزار بعيد"!
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
يوسف عوض العازمي
alzmi1969
"الأمثال الشعبية تعد جزءًا من ذاكرة الأمم، فهي ترصد حياتهم اليومية بعبارات تؤرخ لنا الحوادث والألفاظ على مر الزمن" طلال الرميضي.
********
صدر مؤخرا عن معهد الشارقة للتراث الطبعة الأولى كتابًا مهمًا بعنوان: "النباتات في الأمثال الكويتية القديمة"، للمؤلف طلال سعد الرميضي من دولة الكويت، ويختص الكتاب بالأمثال الشعبية الكويتية التي ورد بها ذكر النباتات.
الكتاب يتكون من مائة وستين صفحة، ويبدأ بكلمة للدكتور عبدالعزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للتراث، تعقبها مقدمة للمؤلف. والكتاب يعتمد في عرضه للأمثال المستقصدة على طريقة الأحرف الأبجدية، وعددها أربعة وعشرون حرفا؛ حيث فرز الأمثال بحسب الأحرف، وفي ذلك ولا شك تسهيل للقارئ أو الباحث الذي ينوي الاستفادة من الكتاب.
وذكر المؤلف عن سبب اختياره للنباتات كموضوع للكتاب؛ إذ قال: "نجد أن النبات على الرغم من شحته في الصحراء؛ فإنه يشكل عند أهل البادية ماهو يُستفاد منه في حياتهم، حيث يعد عاملا مهما في حياتهم اليومية، ويعملون بشكل دوري على جمع الشجيرات الصغيرة التي تُستخدم أخشابها في إشعال النار للطبخ والتدفئة".
ومن خلال الاطلاع على الكتاب، لاحظت اهتمام المؤلف بمحاولة توثيق عدد من الأمثال المنسية تقريباً والتي أصبح تداولها نادرا رغم جمالها، ومنها المثل القائل: "الأرض قفرا.. والمزار بعيد"؛ حيث كتب المؤلف بشأن هذا المثل ما يلي: سجله الأديب أحمد البشر في موسوعة الأمثال الكويتية المقارنة في الجزء الثالث، صفحة 171، ومعنى الأرض قفرا أي "الأرض الخالية من الماء والناس والعشب، والمزار هو الجهة التي يقصد الراكب زيارتها". ويقال هذا المثل في الظروف الصعبة التي تحيط بالشخص من الأمور كافة، ويضرب المثل الشعبي في الصعوبة.
ومما لفت انتباهي في الكتاب، الحديث عن الأمثال المتعلقة بالنخيل؛ حيث كتب المؤلف: "النخل ومنتجاته"؛ حيث تكرر ذكره في الكثير من الامثال القديمة؛ ليبرز لنا أهميته في حياة الأجداد، منها قولهم: "أكل التمر خص وشرب الماي مص"، و"إن كأنك تاكل التمر غيرك يعد الطعام"، و"بشر النخل بكداد جديد"، و"تراولك من طول النخلة"، و"التمر مسامير الركب"، و"تمرة ما يضرها الألحوس"، و"اللي صار عشاك تمره إل تنطر القمره"، و"إللي طلع سهيل تلمس التمر بالليل"، و"لو التمر عند البدو ما باعوه"، و"الطول طول انخله والعقل عقل اسخله".
في رأيي أن الأمثال الشعبية هي تفاعل فطري وعفوي للناس البسطاء مع الحياة وظروفها، فتجد أحيانا المثل يخرج تلقائيا بشكل غير مرتب له، هنا قد تكون قوة المثل كونه نتج عن موقف ما، وممكن جدا أن تكون بعض الأمثال هي توثيق لحدث ما، واختصارا معبرا ووافيا عنه، ومن يقرأ التاريخ سيجد ما أعنيه، ولكل بلد تقريبا أمثال تخصه، فالبلد أساسا مجتمع بشري والمجتمع البشري هو أس الحياة ومرتبطاتها وسطورها العميقة على صفحات كتاب الزمان.
الكتاب- حسب رأيي المتواضع- يستحق الاقتناء؛ كونه يخدم الباحثين وطلبة التاريخ وحتى طلبة التخصصات الأدبية ممن يهتمون بأثر الأمثال الشعبية في الحياة المجتمعية، وقد استند الكتاب على 9 مراجع و3 مقالات، ويُعد إضافة ثرية للمكتبة العربية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
التناص الدرامي في الثلاثية الشكسبيرية
ينجز الكاتب والمخرج المسرحي العراقي منير راضي العبودي كتابه (الثلاثية الشكسبيرية، ونصوص مسرحية... أنا مكبث، وشكسبير فـي جبل الأوليمب، وأجنة فـي أرحام شكسبير) الصادرة طبعته الأولى عام 2003م، ضمن منشورات وزارة الثقافة والسياحة والآثار، ودائرة السينما والمسرح بالعراق، فـي إطار ثقافـي نقدي هو التناص الدرامي. يظهر هذا الاشتغال واضحا فـي استدعاء شخصيات درامية استوحاها منير راضي من مآسي الشاعر الإنجليزي ويليام جون شكسبير.
فـي صفحة «الإهداء» يوجه المؤلف إهداءه التالي: «إلى روحي التي لم تخذلني يومًا... إنها هي...»، ما يشير صراحة إلى إعلاء صوت التصالح مع الذات فـي مستوى ما، وإعلان تمرد الذات أو احتجاجها والمكاشفة نحو مكنونها الثقافـي والوجودي. يليها صفحة «المقدمة» التي يُخصصها بحديث حول المخيال الذي صاحبه طوال عمره، فهو صديقه الذي عشقه؛ «كان وعاء عقلي يلتهم كل ما يتصل فـي أفق الخيال عن كل ما ينتج فـي وعاء الفن من أساطير والخرافة والحكايات الكلاسيكية المعتّقة»، ما يكشف لنا، أن المؤلف لم يتحرر من تأثير تلك الحكايات، بل عاش معها، ونبش أسرارها فأنجب النبش الثلاثية الشكسبيرية وما أحاط بالعصر الإليزابيثي أو عصر النهضة من ملابسات. فكانت هذه المحطة إحدى الأزمات الخيالية التي أربكته فـي البحث والتقصي والغوص فـي أسرار الثلاثية الشكسبيرية المخيفة والمهيبة فـي الوقت نفسه.
يتجلى الاشتغال فـي التناص كثورة ضد شكسبير المؤلف، زاحفا منير راضي على سطح من التاريخ الساخن كما يقول: «أصارع وحدي شخصيات استقدمتها واستحضرتها رغم عنادها، ووعيدها لي فـي قادم الأيام من قِبَل ذلك المدعو.. إنها المنازلة الشكسبيرية المنيرية كما قالوا فـيها أهل الفن على المستوى المحلي والعربي...». يلي ذلك صفحة «تقدمة»، بقلم الدكتور جبار صبري، هي أشبه ما تكون بمحاولة شهادة عن أجواء النصوص الثلاثة، والطريق الذي سار فـيه منير مع شخصيات شكسبير، وربطها بالواقع الوجودي والسياسي والسلطوي والثقافـي والمجتمع المحلي والوطني المعاصر دون مواربة. فإذا كان منير يُعلن أن «شكسبير طغى»، فإن جبار يؤكد قائلا: «بل أفرط بطغيانه»!
«أنا ماكبث»... المهزوم إذا ابتسم، أفقد المنتصر لذّة الانتصار.
فـي شتاء 2021م ألف منير راضي مسرحية (أنا ماكبث)، هدف من العنوان كما يقول: «أن أوجد نسخة عربية من شكسبير، بقوة ألفاظه ذاتها وبمخيلته العميقة المثيرة للعواطف، وبالاستعارات ذاتها، وبالإيقاع ذاته». إن هذه المحاولة تبدو ناجحة إلى حد معقول. حافظ منير فـي نصه الدرامي على أيقونات لازمت ماكبث فـي الساحرات الثلاث اللائي يبدأن الحوار، ويربطن بين الماضي وخوالي السنين والزمن المعاصر، إضافة إلى شبح الليدي ماكبث. كما أن عوالم الكائنات اللواتي يقتسمن عالم الساحرات يتشكل من (القطة جريما لكين، والضفدع بادوك)، أما المغدورون فهم (الملك دنكان، وبانكو، وعائلة النبيل مكدف). إن النص الدرامي يتوفر على شخصيات درامية فاعلة فـي صميم الأحداث الدرامية، فالتناص الموجود على مستوى الشخصيات، يُفهمُ وجودها من اتصالها بنصّ المؤلف الأول (شكسبير)، ونص المؤلف الثاني (منير) حيث سعى إلى إدانة شكسبير واتهامه على لسان (ماكبث) الذي يصرخ ويثور ويغلي كالتنور فـي كل ليلة برفات الموتى بأن التاريخ وحواشي الملوك ومدوني الشعر غدروا به، ويريد الخروج من لعنة التاريخ، وإزاحة الظلم الذي ألحقه به المؤلف الأول. لذلك يلجأ إلى طلب إقامة جلسة طارئة فـي ملكوت العالم السفلي لمحاكمة شكسبير.
الملاحظ أيضا، إن استدعاء شخصيات شكسبير الذي يفصلنا عنه الزمن ما يقارب نحو خمسة قرون محاولة موفقة من منير راضي إدانة وقتنا المعاصر الذي تتجلى هزائمه وخسائره عن طريق اللغة والجمل التعبيرية الضّاجة بالاستعارات التصويرية الدموية. شخصيات ملوك غائرة فـي القِدم وعصر النهضة، وعصرنا الحديث بأغطية المُلوك الذين يبنون المدن وناطحات السحاب لكي يخلدوا فـي طرقات عواصمهم؛ هم أنفسهم «يصنعون القراصنة»، ويزيفون الحقائق، ويدورون الأحداث. كأن عصرنا اليوم، يتخفى وراء عصر النهضة مجازا، إذّ ينجح الملوك الطغاة فـي شراء ذمم الشعراء والكتّاب والمداحين والمغنين والفنانين. هكذا يُدين راضي شهوة العرش والجلوس فوق كراسي ملطخة بالدم، والمتهم الخالد هنا والتاريخي، هو «الشاعر المارق السكير الانتهازي والممثل الفاشل ومفرق الجماعات وقاتل الأفراح وناشر الحزن والنواح والمتحذلق العبقري شكسبير.
لا بد من القول: إن منير ينجح فـي خلط الأزمنة وتداخلها، والشخصيات وتفاعلها، وتخليق فضاء الخشبة الدرامي واللعب على ثنائية التناص تارة وتقنية المسرح داخل المسرح. حيث لغة الشعر تخوض معركة مع النثر، كما يسرد ملوك شكسبير وضعياتهم الدرامية أمام المتفرجين. عندما يدخل شكسبير إلى المحاكمة، يتعرّف على شخصيات ملوكه على النحو التالي: «الملك لير العظيم، والقائد الهُمام ذو الغيرة والعفة عطيل، وهذا الحالم العاشق والباحث عن صندوق الحقيقة الأمير هاملت، وماكبث ملك الجماجم». هي نقطة ارتكاز لنسف المحكمة ومن ثم المسرحية، فـينقلب الحدث والمخيال لسحق المؤلف الثاني، الذي لا يجد قدرة كاملة الإفلات من فكرة صرع الكرامة ودنس الشرف (هاملت)، أو فكرة الغيرة التي انقضت على وسادة الطُهر (عطيل).
فـي محاكمة شكسبير المتهم بتزييف الحقائق كما يفعل المُلوك المعاصرين يسأل ماكبث: «أيها السادة أسألكم، لماذا يَحق لهذا الشاعر عرض أعماله داخل البلاط الملكي دون أقرانه الذين يعدون من كبار عصره فـي التأليف والتنظير والبحث؟». بهذا المقطع ننتقل إلى نص الإدانة، بين عبارات تفضح المؤلف شكسبير، وقبح فـي الأنظمة السياسية المعاصرة. فشكسبير فاق أبناء جيله بأنّه «أعظمهم بوقا لتجميل قبائح البلاط الملكي، وأنه وصولي» فالتهم تعكس صورة للواقع المعاصر غير الحضاري لمهنة المثقف أو المؤرخ معا.
«شكسبير فـي جبل الأوليمب»... والتاج فخ النفوس.
يرجع كتابة هذا النص الدرامي إلى عام 2021م، إن استعادة شخصيات شكسبير تجري فـي عدد خمس من البقع تُنفذ بواسطة الإضاءة؛ تضم جميعها (عطيل وديدمونة، وهاملت، ويوليوس قيصر، وجولييت والملك لير). من شروط اكتمال الوجود فـي جبل الأوليمب ظهور بروميثيوس للكشف عن غياب التوافق بين طبقات العصور، وتعبير كل عصر عن مصالحه الدنيوية والسلطوية. يستند رسم فضاء المكان فـي هذا النص إلى انتزاع محاكمة أخرى جديدة على غرار المحاكمة السابقة فـي «أنا ماكبث»، لكن منير يجيء بكتّاب آخرين وأدباء من العصر الإليزابيثي ومعاصري شكسبير هم (كريستوفر مارلو، بنجامين جونسون، توماس ميدلتون»، ليشكِّل هؤلاء شكلا من مسرح الوثيقة الدرامية حول الكتّاب الذين تأثر بهم شكسبير (مارلو)، أو نافسوه (جونسون). وكذلك فـي فضاء الأوليمب يحظى زيوس وصفاته؛ العظيم الجبار الحكيم بالحضور الأكبر حيث استدعاء تاريخ حياته وانتصاره فـي حرب الجبابرة مع حلفائه.
إن الإسقاط السياسي فـي هذا الموضع، حيث جميع هؤلاء يلتقون مع زيوس فـي مجلس ينعقد كل دورة شمس للتباحث فـي عصر إليزابيث، أمام المتهمين (ياغو، بروتس، الملكة جيرترود، ريغان، وغونريل)، يمكن أن يشير إلى جذور الشقاق العميقة بين (الآلهة) الإغريقية، وفكرة مسؤولية (المرأة) عن الكيد (بنات لير) والذنب (الليدي ماكبث) التي كما وصفت بأنها امرأة داهية حادة الذكاء وخارجة على التقاليد والأعراف. إزاء قتامة عصر النهضة، فإن ملخص (مارلو) للأحداث المتداخلة الصاخبة غير المعقولة والمزدحمة بالأشخاص واعترافاتهم بجرائمهم وتبريرهم لأفعالهم الشنيعة، إدانة بطريقة مباشرة لعصرنا السياسي المتخم بالجراح.
«أجنة فـي أرحام شكسبيرية... تغلق كل منافذ الحياة إلا منافذ الأرواح، تبقى مشرّعة بوجه الناس والحجارة.
الأجنة فـي هذا النص تؤديها شخصيات (السارد والمخرج، وعطيل، وديدمونة، وأوفـيليا، وهاملت، وياجو، والصوت). يرجع تاريخ تأليفه إلى عام 2021م. ومن الواضح أن المؤلف يؤكد فـي هذا النص على سيرورة الإبداع وارتماء النصوص الثلاثة فـي مثلث فضائه: القيامة، وكونفدرالية الأرواح، وأقبية العالم السفلي. نلمح أيضا انهيار حواجز نفس المبدع ولهاثه المتسارع لنقد التاريخ الكلاسيكي وكتابة تاريخ جديد لأحداث ووقائع يؤثثها الإخراج المسرحي وإرشادات التأليف الموزعة فـي مستويين متلازمين؛ الأول لغة النصوص الإخراجية فـي جميع صفحات الكتاب، ومستوى التناص الفني الذي صاغه وفق أساليب بدأها بالذاتية، وأنهاها بالتمرد على كتابة لم يغادر فـي مستوياتها مؤلفه المفضل عنده شكسبير لمحاججته ونقده.