"وامعتصماه".. غزة تستغيث!
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
الأمم العريقة تستذكر عند اشتداد مصائبها، قادتها العظام الذين سطّروا بأحرف من النور سجلاً حافلاً يُستعان به، ويَمنح أجيالها قوة معنوية وطاقة جبارة تحطم الأعداء المتربصين بها، وما أحجونا اليوم أكثر من أي وقت مضى لـ"معتصم" جديد، يُعيد لنا أمجادنا، ويُثبِّت أقدامنا في الميادين لتحقيق النصر ويخلق فينا روح التضحية لمناصرة المظلوم ورفع الرايات إلى عنان السماء نحو المجد.
فقبل أكثر من ألف ومائة وخمسة وثمانين عامًا من الآن، أطلقت امرأة عربية مُسلمة استغاثة من مدينة عمورية التي تقع على تخوم الروم في ذلك الوقت، قائلة "وامعتصماه"، موجهةً نداءها شطر عاصمة الرشيد "بغداد" وخليفة المُسلمين المعتصم ابن هارون الرشيد، بعد أن اعتدى عليها الروم، وبالفعل ما كان من المعتصم إلّا أن قال "لبيك"، فأرسل جيوشه الجرارة لتحرير عمورية وطرد العلوج من تلك المدينة التي عاثوا فيها فسادًا.
لكن أين الأمة الإسلامية قاطبة اليوم من الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني الذي يذبح كالنعاج على مرأى العالم الإسلامي؟ أين أسراب الطائرات وكتائب الدبابات والأسلحة الفتاكة التي تملكها هذه الدول العربية التي خصصت لها الأرقام الفلكية من أموال الشعوب؟ إنها في حقيقة الأمر وجدت لحماية الأنظمة وليس الدفاع عن شرف الأمة؛ إذ اكتفت تلك الحكومات بالمؤتمرات الشكلية، والبيانات المنددة بالعدوان فقط، بينما اقتصر دور الشعوب في أفضل الأحوال على التعبير عن سخطهم بالتظاهر أمام السفارات الغربية التي يتسابق زعماؤها للحج إلى تل أبيب لتقديم مزيد من الأسلحة الفتاكة والطائرات والدبابات والقنابل العنقودية لقتل الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف، وفي مقدمة هؤلاء الطغاة الذي شدوا الرحال إلى فلسطين، قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، والذين يتباكون جميعًا ويتضامنون مع نتنياهو ويعزُّونه في هزيمته ونكسته غير المسبوقة، أمام كتائب الشهيد عز الدين القسام الذين لقنوا الصهاينة وجيش الاحتلال درسًا لا يُنسى؛ إذ يهرب من نجا من الجنود من ثكناتهم العسكرية المحصنة، إلى المناطق البعيدة عن استهداف المقاومة، بعد أن ذاقوا أكبر هزيمة في تاريخ الجيوش، والخوف ما يمكن أن يحصل من مفاجآت جديدة للمقاومة الإسلامية في أرض الرباط فلسطين في قادم الأيام.
لقد كان قطاع غزة في عُهدة جمهورية مصر العربية وتحت إدارتها قبل احتلالها من إسرائيل في نكسة يونيو 1967 والتي انهزم فيها العرب، ومن ذلك الوقت، تمثل هذه المنطقة المكتظة بالسكان- التي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا- كابوسًا قاتلًا لحكام إسرائيل عبر العقود الماضية، وذلك لقوة إيمان المقاومة الفلسطينية الباسلة بقضيتها ودفاعها المُستميت عن المسجد الأقصى وتراب فلسطين المبارك.
هنا أتذكر قول إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق الذي قال «أتمنى أن أفيق من النوم فأرى غزة غارقة في البحر»، وهذا الشعور العدائي لسكان القطاع يحمله أيضًا نيتنياهو، وقبله أرئيل شارون؛ فالأخير هو الذي فكك المستعمرات وقرر الانسحاب أو في واقع الأمر الهروب من غزة 2005.
من المفارقات العجيبة، والشيء الذي لا يمكن أن يصدقه العقل والمنطق أن تصبح الدول العربية المجاورة لفلسطين، في موقف المتفرج، فلا تسطيع أن تغيث أبناء غزة المحاصرين منذ عقود طويلة إلا بعد الموافقة الأمنية من جيش الاحتلال الإسرائيلي على الأدوية والقليل من المواد التموينية. لقد تجاوز عدد الشهداء أكثر من سبعة آلاف بينهم ثلاثة آلاف طفل وأكثر من 1700 امرأة، وهذه حصيلة قابلة الزيادة، في ظل استمرار مجازر العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر الجاري.
من الموسف حقاً أن نسمع بين وقت وآخر أصوات ناشزة من بعض العرب يلومون حماس والجهاد الإسلامي على مقاومتهم البطولية للمحتلين الصهاينة الذين يعيثون في أرض فلسطين المباركة فسادًا وينكلون ويقتلون النساء والأطفال، بجانب استمرارهم في ارتكاب مجازر وإبادة جماعية ضد الأبرياء، بداية من عصابات "الهاجاناه" مرورًا بمجزرة قانا في لبنان وصولًا إلى مستشفى المعمداني في غزة. ووصل الأمر بالبعض أن يجاهر بالقول إنَّ على المقاومة أن تلتزم وتوقف جهادها ومقاومتها لكي لا ترد إسرائيل بالانتقام من المدنيين، وهذا الاعتقاد مردود عليه. فيجب أن يدرك الجميع أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُحرر الأرض المغتصبة، إلّا بالمقاومة والتضحيات، ولعلنا نتذكر كيف استطاع الشعب الجزائري الشقيق أن يطرد المستعمر الفرنسي بعد التضحية بأكثر من مليون شهيد وبعد ذلك نتذكر أيضًا مقاومة الشعب الفيتنامي الذي نجح في تحرير بلده بعد انتصاره على أكبر قوى عظمى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
أين نحن اليوم من الزعماء العظام الذين استخدموا سلاح النفط ومقاطعة الدول الغربية المساندة لإسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973، على الرغم من التهديد والوعيد الأمريكي ضد الدول العربية المنتجة للنفط التي اتخذت قرارًا جماعيًا بإيقاف تصدير النفط إلى أوروبا وأمريكا؛ إذ قال الملك فيصل- يرحمه الله- قولته المشهورة في هذا المجال "البترول العربي ليس بأغلى من الدم العربي".
هكذا كانت مواقف العرب سابقًا، فقد نجحت سياسة المقاطعة ليس فقط في ردع المستهلكين للنفط العربي من الدول الغربية؛ بل تضاعف سعر برميل النفط عدة أضعاف، مما ترتب على ذلك ازدهار وتنمية الدول الخليجية التي بنت المدارس والجامعات والطرق والمصانع من ريع النفط منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين وحتى الآن.
في الختام.. هناك حرب نفسية واسعة النطاق، تقودها الأبواق الإمبريالية الأمريكية والإعلام الصهيوني المتعاون مع الجيش الإسرائيلي، حالمين بإمكانية السيطرة الكاملة على قطاع غزة والقضاء على حماس ومحوها من الوجود، وذلك خلال الحرب البرية التي تستعد لها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون، لكن في واقع الأمر سوف ينهزم الجيش الإسرائيلي الذي وصل إلى مرحلة من الانهيار والانتظار الطويل، بينما كتائب القسام قد أعدت لهم العدة، والإنفاق التي ستجعل من تلك الجنود صيدًا سهلًا للمجاهدين الذين يفضلون الشهادة في سبيل الله، بينما يتشبث غيرهم بالحياة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الرسوم الأمريكية تربك اقتصاد المنطقة العربية.. من الخاسر الأكبر؟
أطلقت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، تحذيرات من التداعيات السلبية للرسوم الجمركية الجديدة، التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكدت أن السياسات قد تهدد صادرات غير نفطية عربية تقدر بنحو 22 مليار دولار سنويا، الأمر الذي يُنذر بتحديات اقتصادية متزايدة لعدد من الدول في المنطقة.
وأشار التقرير إلى أن العلاقات التجارية بين الدول العربية والولايات المتحدة شهدت تحولات جوهرية خلال العقد الأخير، حيث انخفضت الصادرات العربية إلى السوق الأمريكية من 91 مليار دولار في عام 2013 إلى 48 مليار دولار فقط في 2024.
ويعزى هذا التراجع أساساً إلى انخفاض واردات الولايات المتحدة من النفط الخام والمنتجات البترولية، ومع ذلك، فإن الصادرات غير النفطية شهدت تحسناً نسبياً، إذ ارتفعت من 14 مليار دولار إلى 22 مليار دولار خلال الفترة نفسها، ما يعكس توجهاً نحو التنويع الاقتصادي في بعض الدول العربية.
وبات الاتجاه مهدداً اليوم، حيث أن الرسوم الجديدة، التي استهدفت قطاعات حيوية مثل الألمنيوم والكيماويات والمنسوجات، تهدد صادرات دول مثل الأردن، البحرين، مصر، المغرب، لبنان وتونس.
الخاسر الأكبر
ويعد الأردن من أكثر الدول تأثراً، حيث تشكل صادراته إلى الولايات المتحدة ربع إجمالي صادراته العالمية، أما البحرين فتعتمد بدرجة كبيرة على السوق الأمريكية، خصوصًا في صادرات الألمنيوم، ما يجعلها عرضة لاهتزازات اقتصادية عنيفة.
سلّط التقرير الضوء على المخاطر التي تواجهها دولة الإمارات العربية المتحدة، لا سيما في قطاع إعادة التصدير الذي تبلغ قيمته نحو 10 مليارات دولار، ويعود ذلك إلى خضوع السلع المعاد تصديرها لرسوم مرتفعة إذا كانت من مصادر شملتها التعريفات الأميركية الجديدة.
وتتزامن التحديات مع ضغوط اقتصادية إضافية تعاني منها دول مجلس التعاون الخليجي، نتيجة الهبوط الحاد في أسعار النفط، أما الدول العربية متوسطة الدخل مثل مصر والمغرب وتونس، فهي معرضة أيضاً لأعباء مالية إضافية بسبب ارتفاع عائدات السندات السيادية.
وقدرت الإسكوا أن هذه الدول ستتحمل فوائد إضافية تصل إلى 114 مليون دولار في عام 2025، وهو ما قد ينعكس سلبًا على الإنفاق التنموي والاجتماعي فيها.
وأشار تقرير الإسكوا إلى بعض الفرص الممكنة، أبرزها إمكانية استفادة دول عربية مثل مصر والمغرب من إعادة توجيه سلاسل الإمداد العالمية، خاصة مع تعرض منافسين آسيويين مثل الصين والهند لرسوم أمريكية مرتفعة، لكن تعليق واشنطن لتطبيق بعض الرسوم لمدة 90 يوماً على معظم الدول – باستثناء الصين – قد يقلل من هذه الفرص.
واختتمت الإسكوا تقريرها بتوصيات تدعو إلى تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، عبر الإسراع في تنفيذ اتفاقيات مثل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والاتحاد الجمركي الخليجي، واتفاقية أغادير. كما شددت على أهمية تطوير البنية التحتية اللوجستية وتعزيز مرونة سوق العمل، لضمان اندماج أفضل في سلاسل القيمة العالمية.
وقالت الأمينة التنفيذية للإسكوا، رولا دشتي، إن العالم العربي "يقف عند مفترق طرق اقتصادي حاسم"، مؤكدة أن الأزمة الحالية قد تشكل فرصة لإعادة هيكلة الاقتصادات العربية بشكل أكثر تنوعاً ومرونة.