مرفأ قراءة... «رجال في الشمس» رواية المأساة الفلسطينية
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
[صامدون هنا/
قرب هذا الدمار العظيم/
وفي يدنا.. يلمع الرعب في يدنا/
صامدون هُنا/
باتجاه الجدار الأخير...]
(محمود درويش)
- 1 -
فن الرواية هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والفكرة المجردة بالحياة التي تستعصي على التجريد، ودمج التسجيلي بالمُتَخَيّل، في إطار بنية متكاملة تحيل إلى معنى كليٍّ، يخلخله نسيجٌ لا تخضع عناصره جميعا لذلك المعنى، بل تنفلت مـن أسـره لتولِّد بدلًا من المعنى الواحد القاطع، معاني مفتوحة على المتعدد من التأويلات.
وهذا مشترك بين عدد من الأنواع الأدبية، ولكن ما يميِّز الرواية عموما عن غيرها من الأنواع الأدبية هو تلك العلاقة الأخصّ بالواقع الاجتماعي في امتداده وصيرورته، فهي تخبر عن بشر في سياقٍ، هو سياق، ضمنًا أو صراحةً، مستمدٌّ من خارج النص، يعتمد عليه بقوةٍ وكثيرا: لندن منتصف القرن التاسع عشر، القاهرة الفاطمية إبَّان ثورة 1919، صيد الحيتان في المحيط الهادي، استخراج النفط في جزيرة العرب، الحرب الأهلية الإسبانية، المقاومة الفرنسية للغزو النازي، حرب التحرير الجزائرية، بيروت الحرب الأهلية، الشتات الفلسطيني والانتفاضة الفلسطينية وفعل المقاومة الحرة في كل مكان وزمان... إلخ.
من هنا تأتي أهمية وقيمة رواية غسان كنفاني الرائدة «رجال في الشمس» التي صدرت للمرة الأولى في عام 1963.
- 2 -
لعل أبرز ما لفت دارسي كنفاني ونقاده هو تداخل نصوصه مع شخصية كاتبها، الذي حقق بدوره تطابقًا لافتًا بين الكاتب والمناضل، وبين النص والحياة. من أشهر هذه الكتب التي خصصها أصحابها لدراسة غسان كنفاني ونصوصه دراسة الناقدة الراحلة رضوى عاشور «الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني» (طبعة دار الشروق 2017).
يرى بعض النقاد هيمنة موضوع "النفي والمنفى" وما يرتبط بهما من عناصر جوهرية، كاستدعاء ذكريات الطفولة، وسطوة الآباء في الحياة العربية، وخبرة الحياة اليومية والمدرسية.. إلخ، ويرى نقاد كُثُر أن رواية كنفاني القصيرة «رجال في الشمس»، هي أول رواية فلسطينية بالمعنى الفني الحقيقي، كما أنها من روايات "المقاومة" بالمعنى الفني والإنساني.
فلم يكن غسان كنفاني كاتبا فقط، بل كان أيضًا مناضلا ثوريا انتهت حياته بالاستشهاد. ويصعب، بطبيعة الحال، أن نتعامل مع مجموع كتاباته، التي جاءت مرتبطة ارتباطا عضويا بتاريخ فلسطين المعاصر، وبالقضية التي أعطى لها عمره، بالموضوعية الهادئة التي قد نتعامل بها مع كاتب تفصلنا عنه قرون عدة واختلاف في الاهتمامات والشواغل.
ولم يكن غسان كنفاني مناضلا فقط، بل كان كاتبا مبدعا له إنجازاته الفنية الجديرة بالدراسة، ولا يمكن التعامل مع أعماله الفنية من منطلق أن مكانته بكونه مناضلا وشهيدا تجعل لزاما علينا تمجيد كتاباته. إن احترامنا للرجل يجعل من الضروري أن نعطي أعماله حقها بوصفها إنجازات فنية أساسا، وأن نرى مدى ما حققه في هذا المجال بوصفه كاتبا مبدعا وبصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.
وترى رضوى عاشور (أبرز من درسوا أدب غسان كنفاني) أنه لم يجد حلا لمعضلة كتابة واقع ملحمي مُركب ومعقد وشديد الكثافة سوى باختصاره عبر المجاز. فكل رواية من رواياته تستند إلى مجاز تتفرع منه الدلالات: الموت خنقًا داخل خزان مغلق في سيارة يقودها سائق مُعوَّق يريد قطع الحدود، في «رجال في الشمس» (1963). دقات ساعة تشرف على لحظة مواجهة بين غريمين في «ما تبقى لكم» (1966). «خيمة عن خيمة تفرق» في تجربة أم الفدائي في «أم سعد» (1969). ولد مُختَلَف عليه تركه أبوه وأمه وتبنته عائلة يهودية في «عائد إلى حيفا» (1969).
وتشي الروايات الثلاث التي استشهد كنفاني دون أن يُتِمَّها وهي «العاشق» و«الأعمى والأطرش» و«برقوق نيسان» بالأسلوب نفسه. يتحول النسيج الممتد لواقع النكبة وتفاصيلها الملحمية المتشابكة بما فيها مسعى المقاومة إلى مجاز موفّق هنا أو أقل توفيقًا هناك. كانت الحكاية صعبة معقّدة ثقيلة وحارقة ما زالت تستعصي على الإحاطة بها.
- 3 -
يقول الناقد فيصل دراج عن رواية غسان كنفاني "مزج غسان بين عدل الأخلاق ومأساة الوجود، منتهيا إلى نقطة عمياء مربكة، هي التعبير الأدق عن المأساة الفلسطينية: على الفارين أن يموتوا، لأنهم لم يتحملوا كامل المسؤولية. وعليهم أن يموتوا لأن الموت مكتوب في أقدارهم. تتكشف المأساة في قدرٍ ظالم سقط على الفلسطينيين كصخرة باهظة. دون أن تتجلى في الفلسطينيين أنفسهم، لأن البطل المأساوي، في اندفاعه ونبله، يغاير فلسطينيا رخوا، يسخر منه سمسار بليد ويسير وراء دليل - جثة".
تظهر المأساة الفلسطينية -والحال هذه- معطى وجوديًا وتاريخيًا معا: اختار المشروع الصهيوني في فلسطين، بعد أن صرف النظر عن أوغندا وسيناء والأرجنتين وموزمبيق، مدخرًا شقاء الاختيار لشعب واحد محدد هو: شعب فلسطين. والمأساة بدورها تاريخية البعد. أصابت شعبا أميًا من الفلاحين، بينه وبين "الحداثة الصهيونية " خمسمائة عام، كما جاء على لسان أحد القادة الصهاينة.
يخسر الفلسطيني إن ذهب إلى معركته، ويخسر أكثر إن لم يذهب إليها، ويخسر إن كان مسالما، وجاءت إليه المعركة، والقبر في النهاية مكفول، قبرا مكشوفا كان لا كرامة له، أو كان كقبور الآخرين، يعلوه شيء من الخضرة ويقرأ المارون عليه "سورة الفاتحة".
إن رجال غسان كنفاني الواقفين تحت الشمس لا يعرفون منها نورها أو دفأها المعطاء، لا يعرفون منها حقهم الإنساني والطبيعي في الحياة، بل يعرفون فيها الشمس الضاربة بقسوة في رمال الصحراء العربية. تصير الشمس، النور، الدفء، العطاء، الحياة، عذابا قاتلا لمن يسير تحتها، وتصير رمال الصحراء مقلاة لمن يتحرك عليها.
وفي الرواية عدد من الصور التي تترابط فتساهم بمجموعها في تقديم رمز فني للجحيم الفلسطيني، هذا الجحيم الذي يعادل الواقع الفلسطيني في المنفى والمحاولات الفردية للهروب منه في الخمسينيات وبداية الستينيات.
- 4 -
وترى عاشور أنه إلى جانب التوفيق غير العادي الذي لازم غسان كنفاني في رسم شخصياته وفي بناء توتر الحدث وتصاعده، فهناك إنجاز أساسي لا تعتقد أنه تحقق حتى الآن على يد أي روائي فلسطيني آخر، تحدد هذا الإنجاز بقولها "خلق الصورة المكثفة والدالة لرحلة العذاب الفلسطيني كما تتجسد في الصحراء والخزان. إن هذين الرمزين معا وفي تفاعلهما يخلقان صورة فنية على درجة كبيرة من الرقي والفعالية"..
وكذلك أسهم في إنجاح هذه الصورة كصورة فلسطينية، أن كل الشخصيات في نفس الوقت الذي تمور فيه بحياتها الخاصة والمميزة فهي أيضًا تمثل وترمز لشرائح كاملة من الشعب الفلسطيني. فمثلًا بقدر ما نرى في مروان شخصية لها ظروفها الخاصة والذاتية بقدر ما يمثل آلافا غيره من أبناء فلسطين -وبناتها أحيانا- الذين اضطروا إلى أن يحملوا مسؤولية أسرهم ويغوصوا في مقلاة دول الخليج وهم دون العشرين.. وهكذا من طفولتهم إلى المقلاة.. دون فترة انتقال..
إن رواية غسان كنفاني الأولى «رجال في الشمس» تقدم نسيجًا يخص أمة في فترة تاريخية بعينها، وليس نسيجا يخص أفرادًا في أمة. إنها كعمل فني تضع لبنة أساسية في صرح ما تسميه رضوى عاشور "الأدب القومي الفلسطيني"، وتقصد بهذا المفهوم مجموع الأعمال الأدبية التي تقدم الصور الفنية المعادلة والمكثفة للملامح الأساسية للشعب الفلسطيني، سواء ما هو وقتي وعابر ينتج عن ظروف تاريخية طارئة أو ما تكون على مدى آلاف السنين، فكاد يكتسب صفة الثبات المطلق.
إن غسان كنفاني في العديد من قصصه القصيرة ورواياته يعمل بدأب على تدوين هذه الملامح فنيا. إنه منشغل بتقديم هوية شعبه، وهذا الانشغال يدفع به إلى الاجتهاد في البحث عن شكل فني يفي بطموحه ويسهل له مهمته. ويتضح لنا هذا تماما في نسيج «رجال في الشمس» وفي بنائها على حد سواء..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رجال فی الشمس غسان کنفانی
إقرأ أيضاً:
رواية الليل الأزرق للفلسطيني بهاء رحال: السارد المسرود
جمع الكاتب الشاب ثلاث شخصيات فلسطينية لاجئة: يوسف وسعيد ومريم؛ يمثل كل منهم حالة فلسطينية خاصة، أما يوسف فهو ابن بيت لحم المولود والمقيم فيها، من أصول لاجئة، في حين وفد سعيد مع العائدين عام 1994، ضمن مناضلي الثورة الذين شهدوا اجتياح لبنان عام 1982، في حين تمثل مريم اللجوء المتكرر، من لجوء الى الكويت والعراق وفرنسا، حيث تقيم هناك في باريس.
وأقام الكاتب علاقة حوارية عن المكان-الوطن، ما بين يوسف وسعيد عن التحولات هنا بعد قيام السلطة الوطنية، في حين أخذ الحوار مع مريم شكلا رومانسيا ووطنيا، وهو وإن ظل مجرد حوار في الفضاء الافتراضي الأزرق، فإنه كان له أثر على شخصية يوسف، التي صارت حيوية أكثر بوجود المرأة-الأنثى في فضائه الافتراضي، وهو الذي ظل وجود المرأة في فضائه الحقيقي محدودا.
بنى الكاتب في روايته أولا على التحول السياسي الفلسطيني، الذي بدأ الى الظهور عام 1993، عام توقيع اتفاقية أوسلو للسلام. في حين أفسح المجال ثانيا للحديث عن علاقة عاطفية عن بعد، لم يتحقق منها على أرض الواقع سوى بضع دقائق حين التقيا على هامش معرض الكتاب في عمان-الأردن، لم يتم فيها سوى النظر فقط.
الفكرة الأولى تلخصها هذه العبارة صفحة:175 "لم يدرك سعيد أن البلاد التي لم تعد تعجبه، هي ذاتها البلاد التي كانت تدهشه وهي تطحن سنوات عمره يوما وراء يوم.."
أما الثانية فتجلت في العلاقة العاطفية في التواصل الاجتماعي الذي ظهر فيه ميل عاطفي ملتبس لدى يوسف، وميل وطنيّ لدى مريم، يصاحبه الحنين، حتى وإن كان التعبير عنه متكلفا.
نقطة قوة الكاتب بهاء رحال هنا، هي في الوصف، والانطلاق من الذات، وهي تحمل إمكانيات قوية مستقبلا في سبر شخصياته، وإن كان من المهم أيضا سرد أحداث في الرواية، كذلك بناء علاقات بين الشخصيات.
مقتربا من نفس الراوي، راح الكاتب يحاول الاقتراب من الشخصيات والتحولات التي وجدت نفسها فيها، تماما كما علاقة يوسف بأكثر من امرأة، وبشكل خاص مع مريم. فكما إن العاطفة التي تنشأ عن بعد لا تكون واقعية، ولا تبرز أحداث وأفعالا وردود أفعال، فهكذا كان حال الراوي-الروائي مع الشخصيات والأحداث، حيث وجدناه يتحسس ملامحها لا يغوص بها كما ينبغي لروائي أن يفعل، كأنه رسام تجريدي يرسم الملامح لا التفاصيل.
تعبر شخصيات "يوسف" و"سعيد" و"مريم" بشكل أساسي، هي أهم الشخصيات التي يمكن تناولها؛ فيوسف المقيم في بيت لحم، واللاجئ من قريته...في فلسطين المحتلة عام 1948. كانت وصف الكاتب لسياق حياته اليومي موفقا، لكن تكلف حين تحدث عن اللجوء، الذي لم يمنحه ما يكفي، حتى عندما تسلل وزار قريته الأصلية التي هجرت أرته منها.
رسم الكاتب شخصية يوسف الذي يعيش وحيدا، عزل نفسه، اختبر الحياة في العمل، درس اللغة، لسبب غير كاف في الرواية يفصل من عمله في الجريدة. رجل في الأربعين، تظهر شخصيته النضالية (التي لم نعرف عنها) الا أنه اعتقل 4 سنوات أثناء انتفاضة عام 2000، فيروي الكاتب كيف أن سنوات المعتقل أثرت على حياته، لدرجة أن الكاتب اختار عنوان الرواية: الليل الأزرق، تعبيرا عن ظلمة السجن.
يتعرف على مجموعة مثقفين، ينجذب لسوزان شقيقة سوار في أول لقاء يضم المجموعة، لكن سرعان ما تسافر، فيستبدل ميله لها بالميل لشقيقتها سوار. قدّم الكاتب يوسف مثقفا سرعان ما صار روائيا. لكن رغم بعض هذا النشاط إلا أن يوسف يظل محدود التواصل الحقيقي، سوى مع صديقه سعيد، فيعوض يوسف التواصل الطبيعي بالتواصل في العالم الافتراضي، فيكون اللقاء مع مريم في الفضاء الأزرق.
أما سعيد، الستيني المناضل العائد الى وطنه، والذي تم تقديمه كعسكري متقاعد، فقد تم وصفه بالمتذمر من الوضع العام، من منطلق وطني، لكن للأسف تم ذلك بشكل متكلف؛ فهو وقد عاد الى الوطن كان يدرك ما يعيشه، وكان متقبلا به وصولا لمنصب لواء، فليست هناك مصداقية لا في سلوكه، وقد انسحب ذلك على الوصف، فجاء متكلفا، فلم يحدث عنده هذا الصراع في رؤية الوطن، إلا بعد تقاعده. كانت شكواه شخصية، أكثر منها وطنية، فشخصية وصلت رتبة لواء، تكون قد تفهمت ما حدث بعد أوسلو 1993، لماذا يبدو الأمر مفاجئا. كما امتدت حالة الشكوى والإحباط إلى عجزه الجنسي فينقل للمستشفى نتيجة تعاطيه المقوي الجنسي الحبة الزرقاء المشهورة بالفياغرا، حيث يتندر عليه يوسف.
يربط الكاتب مصير سعيد، بمصائر آخرين عاشوا حياته النضالية، وانقطعت المسيرة بهم، مثل زياد صديقه الذي جمعتهما الثورة في بيروت، وتفرقا بعد الخروج من لبنان، ليكون مصير صديقه هو العيش في الولايات المتحدة، حيث يلتقيان بعد سنوات في رام الله، حيث يزور زياد الوطن. بيروت. يستعيد مشقة القدوم الى بيروت مرورا بعدد من العواصم صيف 1982، مستخدما أكثر من جواز سفر. كما يستعيد سعيد بعض الذكريات خاصة قصة حب قصيرة مع لبنانية.
في إقامته في بيت لحم، بالرغم من معاناته الشخصية والعامة، ما زال يحتفظ سعيد بالأمل، وتكون دعوات العجوز بالإفراج عن ابنها بمثابة أملا له كذلك.
ما عاشه الصديقان من حياة، جعلهما يتحركان في نطاق محدد، حيث أنهما أصبحا خراج سياقهما الاجتماعي، لكن في الوقت نفسه، لا يشكل موت الوالدين سببا للانكماش، ولا التقاعد.
الشخصية الثالثة، مريم من أسرة لاجئة، من فلسطين الى الكويت الى باريس، حيث تعمل طبيبة. مريم مطلقة. مثقفة ترتبط ثقافيا وإنسانيا مع يوسف. لا يلتقيان إلا في نهاية الرواية، دون أن يتحدثا، حيث يلتقيان في ندوة. ترتبط بمريم شخصيات نسوية، أمها، وجويس، وسيلينا. تزور جويس فلسطين ضمن حملات التطوع الدولية.
وبعد، إذا وجدت الشخصيات في الحياة، في محيط الكاتب فعلا، فإنها في عالم السرد الروائي يجب أن تكون مبنية وفق سياق يقود الى غاية ما، لعلها مقولة الرواية، ورسالتها. وهذا ما لم يتوفر إلا بشكل محدود.
يوسف وسعيد، ويوسف ومريم، ما الذي أراد به الكاتب من بناء للشخصيات وعلاقاتها؟
ثمة تشابها في صراعات داخلية واغتراب لكليهما، كل على حدة، لكن إذا كان الكاتب يريد التعبير عن الصداقة، لمجرد الصداقة، فهذا لم يتحقق، بل ظهر في النص ما يخبئه يوسف عن سعيد، كذلك لم يكن كلاهما ذا تأثير حقيقي في حياة أي منهما. فلا يمكن لعلاقة ثقافية أن تصير بديلا عن بناء حياة إنسانية ممكنة، ويمكن التعبير السردي عنها. أما علاقة يوسف بمريم، فكانت علاقة افتراضية، لا واقعية، هي مجرد تبادل رسائل لم ترتق لعلاقة إنسانية فضلا عن كونها غير عاطفية.
أما التحولات التي ظهر الحديث عنها من خلال سعيد بشكل خاص، فلم تكن ظاهرة بما يكفي، ودلالة ذلك، إنه إذا قرأ الرواية من ليس له علم بتاريخ فلسطين آخر 3 عقود، فلن يلمس تلك التحولات، والتي وجدت فقط لدى الكاتب، ولم تتجل في النص. ويبدو أن نور ابنة سعيد المتقاعد العسكري، قد نجت بنفسها باختيارها مكان جديدا وزمان كذلك.
أما المكان، فربما نجح في التعبير عن المكان التلحمي، وقليلا عن باريس، وهذا يتفق مع واقعية خبرة الكاتب، ففي الوقت الذي استطاع التعبير عن بيت لحم، فإنه لم يعبر عن مكان مريم في باريس بشكل يمنح الخصوصية.
في الأسلوب:
مثّل الفصل الأول مقدمة سردية جميلة ومشوقة امتدت 14 صفحة، إن دل فإنما يدل على امتلاك الكاتب قدرة السرد، لكن بعد الاستمرار بالقراءة، يتغير الانطباع.
ترى ما الفكرة في هذا النص؟ وما السردية؟
نقبل عادة على قراءة الرواية كونها ممتعة ومشوقة من جهة، وكنها رافعة من روافع الفكر، بما يمكن أن توصلنا إليه من عمق رؤيا للحياة، أكانت وصفا أو نقدا، فلماذا الرواية؟ ما الذي تقوله؟ ما رسالتها؟
ماذا يعني وجود صديقين يبوحان بضيق ما ويتذمران؟
فمثلا بالنسبة لشخصية سعيد، كان ممكن سرد تجربته في الحصارين: بيروت 82 وكنيسة المهد في الانتفاضة الثانية، لكن ذلك لم يحدث. كما لم يصور الكاتب مثلا نضال يوسف ولا تجربة السجن، ولا استطاع بناء أي شكل إنساني أو عاطفي، فجاءت الشخصيات متشظية. ربما كانت بناء شخصية مريم مقبولة لولا التكلف في الشعور والأفكار. لقد جاء الحديث عن الشخصيات من خلال حديث الراوي، لا من خلال السرد.
كان من الممكن جعل تكرار حادثة الكلب الشبق، في الممارسة الوهمية مع الدمى رمزا ما لشخصية يوسف، لكن بناء شخصية يوسف، لم تكن منسجمة بما يكفي لتبرير رمزي ما ليكون خلفية إشارية إيحائية. لقد جاء ذلك متكلفا تم الزج به دون توظيف دلالي.
في الوقت الذي افتقر النص للسرد، راح الكاتب يستخدم صفحات مقالية، وصفحات أخرى كان من الممكن حذفها دون أن يؤثر ذلك على السياق الروائي. كما لم يعن سرد مقتل السيدة التلحمية أي شيء له علاقة بالرواية وسياقها.
لقد فجأنا الراوي بكون مريم روائية في صفحة 191، ثم فجأنا بإطلالة سوار في صفحة 221 التي كدنا ننساها في النص. لقد غابت ثم حضرت بلا معنى في الغياب والحضور.
أما اللغة فكانت مشجعة على القراءة، كونها لغة عادية ملائمة للسرد. يمتلك الكاتب لغة سردية مدهشة، لكنها لم تسرد ما يكفي لبناء رواية. الوصف وحده لا يكفي حتى ولو كان عميقا.
وللحق، فإن الكاتب الشاب يملك عنصرا آخر مهما، نتمنى أن يتم توظيفه، ألا وهو المونولوج، والحديث الداخلي التحليلي.
لقد ظهر "الليل الأزرق" من خلال الفضاء الأزرق في العالم الافتراضي، بسبب طول العلاقة بين يوسف ومريم. في حين لم نرى تجليات السجن على حياة يوسف، إلا إذا قصد أيضا برودة اللون الأزرق، والذي يعني يرودة الحياة وتوقفها.
*صدرت حديثاً عن "مكتبة كل شيء" في حيفا 2023 ووقعت في 250 صفحة من القطع المتوسط.