النتائج التي ستصدر عن قمة ميلتون كينز ستكون الكلمة الفصل التي تحدد مصير الدولة الوطنية
الحديث عن سيطرة الشركات الكبرى على القرار السياسي في الولايات المتحدة ليس بالأمر الجديد، سواء تم ذلك عن طريق التبرعات للحملات الانتخابية، أو عن طريق الضغط المباشر على المشرعين والمسؤولين، أو التحكم في الموارد الاقتصادية التي تعتمد عليها الحكومات والمجتمع ككل.
وتدعي بعض الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص أن واحدا في المئة فقط من النخبة المتحكمة بالتجارة تمارس سيطرة هائلة على صنع القرار في الولايات المتحدة.
عند الحديث عن الديمقراطية دعونا نتفق أن هذه الممارسة التي نشأت في أثينا عام 507 قبل الميلاد، وذلك عندما أدخل الزعيم الأثيني كليسثنيس مجموعة من الإصلاحات السياسية أطلق عليها اسم “ديموقراتيا” وتعني “حكم الشعب” اقتصرت في حقيقة الأمر على الأسياد. واليوم بعد 2525 عاما، لا تختلف الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة كثيرا عن “ديموقراتيا” أثينا. كلتا الممارستين محصورتان بالنخب. ما اختلف هو أن الأمر كان مصرحا به في اليونان القديمة، أما اليوم فيحيط به التكتم.
في كتابهم “أدوات السلطة” يقول المؤلفون (كيفن. أ. يونج، تارون بانيرجي، مايكل شوارتز) إن المسؤولين الحكوميين مضطرون باستمرار لإبقاء الرأسماليين سعداء، خشية من “إضراب رأس المال” – أي رفض الاستثمار في صناعات أو مواقع معينة، أو نقل ممتلكاتهم إلى بلدان أخرى – وبالتالي فرض عقوبات مادية على مجموعات معينة، أو الاقتصاد ككل. لهذا السبب، حتى السياسيين الذين لا يعتمدون على الشركات لتحقيق نجاحهم الانتخابي، يجب عليهم تجنب إغضاب الشركات العملاقة.
ولطالما وجهت اتهامات لكبرى الشركات بفرض سياسات تخدم مصالحها حتى ولو كانت هذه السياسات تضر بمصالح الشعب. كما أن بعض المؤسسات العسكرية والشركات المتعاقدة معها تلعب دورا محوريا في تشكيل السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة.
وتأتي على رأس قائمة الشركات العملاقة المؤثرة على عملية صنع القرار الأمريكي شركات الطاقة، مثل إكسون موبيل، وشيفرون، وبي بي، التي تدير صناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة، وتؤثر بشكل مباشر على سياسة الطاقة والبيئة في البلاد. وتستخدم هذه الشركات مواردها للضغط على صانعي القرار لدعم مصالحها، مثل حفر الآبار في المحميات الطبيعية أو تقليل قيود انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما تواجه هذه الشركات انتقادات ودعاوى قضائية بشأن تأثيرها السلبي على المناخ والصحة وحقوق الإنسان.
طالما جرى الحديث في الماضي عن سيطرة صناعة الدواء والشركات العملاقة التي تقف وراء هذه الصناعة على القرار الأميركي، هذه الهيمنة التي شبهت بهيمنة المافيا، انتقلت لاحقا إلى شركات التأمين الصحي، مثل يونايتد هيلث غروب، وأنثم، وسيجنا، وهي مجموعات تدير نظام التأمين الصحي في الولايات المتحدة، وتؤثر على سياسة الرعاية الصحية في البلاد مستخدمة مواردها للضغط على صانعي القرار لدعم مصالحها، مثل الحفاظ على نظام التأمين الخاص أو المنافسة مع الخيارات العامة. كما تواجه هذه الشركات انتقادات واحتجاجات بشأن ممارساتها المثيرة للجدل، مثل رفض تغطية بعض الخدمات أو الحالات أو رفع أسعار الخطط أو تقليل الفوائد.
العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تطور شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وأبل ومايكروسوفت، التي تمتلك قوة اقتصادية وثقافية هائلة، وتتحكم في جزء كبير من المعلومات والاتصالات على شبكة الإنترنت. ولم تتوان هذه الشركات عن استخدام مواردها للتأثير على التشريعات والقوانين المتعلقة بالخصوصية والأمن والحقوق الرقمية والتجارة الإلكترونية وغيرها من المجالات. وهو ما جعلها عرضة لمواجهة انتقادات وتحقيقات وصلت إلى المحاكم بشأن ممارساتها المثيرة للجدل، مثل استغلال المستخدمين والبيانات والسوق والعاملين والبيئة.
ما يخيف اليوم، أن احتكار السلطة سيتقلص أكثر مع الثورة الرقمية، وقد تهدد التطورات القادمة بانتقال مركز القوة من البيت الأبيض إلى سيليكون فالي.
دعونا نذكر مرة أخرى بمقولة “من يسيطر على البيانات يسيطر على العالم”.
الأخبار المتسارعة حول التطورات التي يشهدها الذكاء الاصطناعي ومنها طرح غوغل للنموذج جيمايني إيه آي الذي يتفوق بخمس أضعاف على جي بي تي 4، أعادت النقاش حول المؤسسات والشركات الخاصة التي تحقق تفوقا تكنولوجيا على الأجهزة الحكومية بما فيها الأجهزة الاستخباراتية.
فكرة العولمة التي بدأت في الظهور قبل الحرب العالمية الثانية وانتشرت بعد انتهائها مع بداية تنامي قوة الولايات المتحدة الاقتصادية، لم تكن خطوة سياسية بل ضرورة فرضتها مصالح الشركات الكبرى، وهو ما أدى في النهاية إلى التقارب بين الولايات المتحدة والصين بحثا عن ورش تصنيع بأيد عاملة زهيدة الثمن.
مصالح الشركات أيضا فرضت عودة الخلافات ثانية بعد أن لمست الشركات الكبرى رغبة الصين في منافستها.
الشركات الأميركية وليس الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هي من خلق الأزمة بين واشنطن وبكين.
هذه المرحلة لم تدم طويلا، الذكاء الاصطناعي التوليدي والبيانات غيرا من كل شيء. فهل تؤدي التطورات المتسارعة إلى سيطرة الشركات العملاقة على العالم واستبدال الدول القومية بشركات كبرى تعمل خارج الحدود الوطنية، لنشهد ما يمكن أن نطلق عليه اسم “سوبر عولمة”؟ وهل للمخاوف التي يبديها الخبراء ما يبررها؟
لا يوجد جواب بسيط واحد لهذا التساؤل. فقد يشكل التحول الجديد تحديا للأمن القومي والسيادة الوطنية، وزيادة مخاطر التجسس والقرصنة والحروب الإلكترونية. وهو حتما سيكون مصدر تهديد للوظائف والمهارات البشرية.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على شكل العالم في المستقبل، لكن هذا التأثير يعتمد على كيفية استخدامه وتنظيمه. لذلك، يجب على الدول أن تضع إستراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي تراعي مصالحها وأهدافها، وأن تتعاون دولياً لضمان استخدامه بشكل مسؤول وآمن.
المخاطر نفسها ستكون سببا للبحث عن طريقة تعيد السلطة للحكومات المنتخبة، وبالتالي تتيح لأول مرة في التاريخ حكما حقيقيا للشعب يستحق تسمية “ديموقراتيا”.
بعد أربعة أيام تعقد في مدينة ميلتون كينز في المملكة المتحدة أول قمة تتعلق بسلامة الذكاء الاصطناعي بهدف وضع حد للمخاوف التي تقلق البشرية.
القمة التي ستجمع بين واضعي سياسات وشركات الذكاء الاصطناعي والخبراء والباحثين لمناقشة المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي وتشجيع التنمية الآمنة والمسؤولة، ستكون أول مواجهة حقيقية بين الحكومات والشركات المطورة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، لتحديد من المسيطر ومن الذي يحكم.
النتائج التي ستصدر عن قمة ميلتون كينز ستكون الكلمة الفصل التي تحدد مصير الدولة الوطنية ومن يحكم العالم مستقبلاً.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة أمريكا فی الولایات المتحدة الذکاء الاصطناعی هذه الشرکات
إقرأ أيضاً:
تحديات تواجه اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي.. قراءة
نظمت لجنة المكتبات بالنقابة العامة للمهندسين، برئاسة الدكتور المهندس أحمد فؤاد، احتفالا بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، استضافت فيه الدكتور نسيم عبد العظيم، أستاذ اللغة والنقد بكلية الآداب جامعة المنوفية، والدكتور المهندس أشرف كحلة، أستاذ تكنولوجيا الغزل والنسيج والخطوط العربية بالجامعة الأمريكية سابقًا، والدكتور المهندس عبد العاطي موسى، ولفيف من الأدباء والشعراء المهندسين.
حضر الاحتفالية وأدارها الدكتور المهندس مجدي محمد عبد الله، مقرر لجنة المكتبات، والمهندس ناصر الجزار، عضو اللجنة ومنسق الاحتفالية، وأعضاء اللجنة، وأعضاء اللجنة الثقافية والفنية بالنقابة.
وأعرب المهندس محمود عرفات عن سعادته لوجود زخم في الحضور المتنوع بين الشباب وكبار السن من المهندسين، ما يعكس مدى اهتمامهم باللغة العربية، مؤكدًا أن المهندسين متفوقون في جميع العلوم، معقبا: "لا شك أن اللغة العربية أثَّرت فينا جميعًا".
كما أشار "عرفات" إلى التحديات التي تواجهها اللغة العربية بسبب تزايد اعتماد الأجيال الجديدة على اللغات الأجنبية في أحاديثهم اليومية، ما قد يلقي بأثر سلبي ويؤدي إلى طمس الهوية الثقافية، لا سيما أن اللغة العربية حملت بين طياتها إرثًا ثقافيًا ودينيًا وحضاريًا يُثري الإنسانية عبر العصور، داعياً لاستغلال التقنيات والتكنولوجيا الحديثة لتطويرها وتعزيز سبل تعلمها عبر تحديث المناهج وتطوير أساليب التدريس الذي يمكن أن يجعل تعلم اللغة أكثر جذبًا خصوصا أن "العربية" تعرف بجمالها البلاغي وتنوع أساليبها الأدبية.
من جانبه، قال الدكتور المهندس أحمد فؤاد، إن اللغة العربية حفظها القرآن كتراث، معبرًا عن سعادته بحضور الاحتفالية كوكبة من الشعراء والأدباء والفنانين من المهندسين، موضحًا أن اختيار يوم الثامن عشر من ديسمبر بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية، يأتي كونه اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973، قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة.
فيما وجه الدكتور المهندس مجدي محمد عبد الله، الشكر للمهندس محمود عرفات، لدعمه المستمر للجنة المكتبات، والذي كان له الدور الأعظم في تنظيم العديد من فعاليات وأنشطة اللجنة، خاصة في جولاتها الخارجية.
واستعرض "عبد الله"، خلال محاضرته التي حملت عنوان "آفاق اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي"، الفرص والتحديات التي تواجه اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي، مطالبًا بإطلاق مبادرات وطنية لدعم اللغة العربية رقميًّا، وإدخال مناهج الذكاء الاصطناعي في التعليم.
بدوره، أكد الدكتور المهندس أشرف كحلة، أن اللغة العربية اللغة الشاملة والجامعة، وكانت صعبة، إلا أن نزول القرآن جعلها سهلة، مشيرًا إلى أن اللغة العربية ليست 28 حرفًا فقط، بل 364، لأن القرآن جعل لكل حرف 13 حركة من فتح وضم وكسر وشد وسكون... إلخ، فكل حركة تعطي معنى مختلفًا، موضحًا أن ما ساهم في سهولة اللغة العربية بشكل أكبر التشابه في الشكل بين الحروف، مثل (ب – ت – ث) و ( ج – ح – خ).
وقال "كحلة" إن هناك بعض القضايا التي أضرت باللغة العربية، منها الاستعمار الأجنبي للدول العربية، وما خلفه من التعليم الخاطئ لنطق بعض الحروف، مثل تبديل نطق حرف (ق) إلى (ج) وحرف (ض) إلى (ظ)، مختتمًا كلمته بالتأكيد على سهولة اللغة العربية، رغم تراثها وعظمتها.
فيما أوضح الدكتور نسيم عبد العظيم، أن “اللغة العربية لغة دينية لحوالي 2 مليار نسمة، ولا يليق بنا أن نحتفل باللغة العربية يومًا واحدًا في العام، ثم نهملها باقي العام”، قائلًا: "كل أمة تعتز بلغتها وتكتب بها العلوم من هندسة وطب وفلك وغيرها إلا نحن، على الرغم من أن لغتنا كانت لغة العلم لفترة من الفترات عندما استوعبت العلوم المختلفة في عصر الترجمة في العصر العباسي، واستوعبت جميع العلوم الموجودة في الحضارات المختلفة وترجمتها ونقلتها".
وأضاف “عبد العظيم”: “إننا لا ينقصنا معاجم، لكن ينقصنا ممارسة اللغة العربية، ويتأتى ذلك من خلال حفظ القرآن الكريم”، مستنكرًا الحديث باللهجة العامية في جميع أنشطتنا، وهو ما لا يليق، فلن نبدع إلا إذا كانت لغتنا هي اللغة العربية الفصحى.
وتضمنت فعاليات الاحتفالية إقامة معرض الخط العربي لفناني النقابة تحت إشراف المهندس عبد الرحمن لاشين.
وجرى خلال الاحتفالية حوار ونقاش فكري حول سبل تعزيز المحافظة على اللغة العربية، وتبارى الحضور في إلقاء القصائد الشعرية، كانت البداية مع الدكتور المهندس عبد العاطي موسى، والذي ألقى قصيدة شعرية في حب اللغة العربية.
على هامش الاحتفال، افتتح أمين عام النقابة، معرض اللوحات الفنية والمخطوطات العربية التي تناولت عددًا من ألوان فنون الخط المختلفة.