أوضاع معيشية قاسية تواجه الفارين من الحرب في السودان
تاريخ النشر: 28th, October 2023 GMT
أوضاع اقتصادية ومعيشية قاسية فرضتها حرب 15 ابريل في السودان على المواطنين خاصةً الفارين من مناطق الاشتباكات، فيما حذر خبراء من فشل الموسم الزراعي الشتوي.
الخرطوم: التغيير
أكثر من ستة أشهر من المعاناة عايشها السودانيون بسبب الحرب المستمرة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ منتصف ابريل الماضي، سواء كانوا مقيمين أو نازحين إلى الولايات الأخرى، نتيجة الغلاء وتوقف مصادر الدخل.
وأصبح الحصول على مستلزمات الأكل والشرب والخدمات المختلفة أمراً غاية في الصعوبة، وتدهورت الأوضاع المعيشية للمواطنين الذين أصبحوا نازحين في المدارس والأندية والداخليات ولاجئين في دول الجوار بصورة غير مسبوقة.
ودخلت حرب 15 ابريل بين الجيش والدعم السريع شهرها السابع مع آمال مشوبة بالحذر في أن ينجح منبر جدة للتفاوض بوضع نهاية لمعاناة الملايين الذين يقاسون الأمرين جراء توقف معظم أوجه الحياة نتيجة الحرب.
دور الإيواءوتوزع النازحون الفارون من الحرب بالخرطوم على دور الإيواء في الولايات “مدارس، داخليات، خلاوي، دور حكومية ورياضية” في ظروف صحية واجتماعية ومعيشية ونفسية معقدة.
ويبلغ عدد مراكز الإيواء في ولاية الجزيرة (400) مركز والنيل الأبيض (253) وحوالي (30) مركزاً بسنار وأكثر من (100) بولاية البحر الأحمر و(34) بالقصارف وأيضا أكثر من (140) دار إيواء بالشمالية.
تراجع الاقتصادووتراجع الاقتصاد السوداني بصورة كبيرة جداً، حيث فقد الجنيه السوداني (40%) من قيمته أمام العملات الأجنبية بسبب تداعيات الحرب.
وقدر البنك الدولي نسبة الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي للسودان بـ(12%)، فيما قالت منظمة الهجرة الدولية إن عدد المواطنين الفارين من الحرب بالسودان تجاوز (5.8) ملايين شخص.
وضع مزريووصف الباحث الاقتصادي صلاح الدين المعتصم الوضع الاقتصادي بالمزري، وقال: ارتفعت نسبة العطالة بسبب الحرب بانضمام الآف الموظفين في القطاعين العام والخاص لصفوف (العطالة المؤقتة) بدون مرتبات ما عدا بعض المؤسسات الحكومية خاصة الإيرادية “الكهرباء، الضرائب والموانئ البحرية” على سبيل المثال.
وأضاف بأن الأولوية أصبحت للأكل والشرب، وأشار إلى أن بعض المرضى يكتمون الآمهم لأنهم لا يملكون ثمن الدواء والعلاج فيموتون في صمت.
وأضاف لـ(التغيير): الكساد أصبح سيد الموقف بعد أن تحول الجميع لطبقة صغار التجار أو البائعة الجائلين، يمكن أن تصادف مهندساً أو موظفاً أو طالباً أو حتى طبيباً (فارش بضاعة) في الأرض أو على (عربة درداقة).
وتابع: الحرب حولت متوسطي الدخل لفقراء بل أصبح الكثير من الأغنياء فقراء بعد أن فقدوا كل ممتلكاتهم. طموحات المواطنين انحصرت في الأكل والشرب والسفر خارج السودان.
وزاد المعتصم في حديثه: حتى الأكل والشرب والدواء بات يشكل مطمعاً للمتحاربين ودونكم القوافل التجارية لولايات دارفور التي تحرسها الحركات المسلحة وعمليات النهب المتواصل من قطاع الطرق للقوافل التجارية حتى في الولايات الآمنة.
ونبه إلى الجبايات والرسوم على البضائع الأمر الذي يزيد من الأسعار ويفاقم معاناة المواطنين.
وحذر المعتصم من فشل الموسم الزراعي الشتوي في المشاريع المروية، وأشار إلى أن ذلك من شأنه أن يؤثر على وفرة المحاصيل “القمح والفول والخضروات المختلفة”.
دمار البنيةمن جانبه، أبدى البروفيسور أحمد سالم في حديثه لـ(التغيير)، أسفه للحالة التي وصل إليها الشعب السوداني جراء القتال، وقال: هذه الحرب نجحت في هدم ودمار البنية التحتية والمرافق الحيوية ومؤسسات الخدمات الأساسية وضربت بقوة مصادر الإنتاج الصناعية وأخرجتها من الخدمة وعطلت معظم عناصر الإنتاج الزراعي والحيواني نتيجة لعدم الاستقرار الأمني.
وأضاف سالم بأن التقديرات الأولية تشير إلى أن هنالك ما يزيد عن (60) ألف ما بين قتيل جوريح من الجانبين عسكرين ومدنيين و(5) ملايين سوداني ما بين نازح ولاجئ ومهاجر وتم تدمير أكثر من (80%) من البنية التحتية الصناعية وخسر الاقتصاد السودانى عشرات المليارات من الدولارات نتيجة لذلك الدمار.
أرقام صادمةولفت أحمد سالم إلى أن العملية التعليمية أيضا توقفت في جميع مستوياتها، وتعطلت الدراسة بالجامعات (155 جامعة وكلية جامعية) وتوقفت المدارس الإبتدائية (أكثر من 17 ألف مدرسة) والمدارس الثانوية (أكثر من 3800 مدرسة).
ونبه إلى توقف الخدمات الطبية في معظم المستشفيات جراء القصف والتدمير أو لشح الأدوية وصعوبة توفرها مع غياب الكادر الطبي، هذا إضافة إلى التردي المريع في خدمات المياه والكهرباء والغاز والوقود والنقل والترحيل في جميع أنحاء السودان.
الخاسر الأكبروأكد سالم أن الطرفين فشلا في تحقيق الأهداف التي من أجلها اندلعت الحرب، فشلت مليشيا الدعم السريع المتمردة في استلام السلطة وفرض رؤيتها السياسية لحكم السودان، ولم يتمكن الجيش السوداني حتى الآن من إلحاق الهزيمة الماحقة بالمليشيا وإخراجها من المعادلة الأمنية والسياسية وفرض سلطته على الدولة وتوفير الأمن والاستقرار لأهل السودان.
وأكد أن الخاسر الأكبر فى هذه المعركة هو المواطن السوداني الذي فقد مسكنه وماله وممتلكاته وعرضه وأمنه واستقراره ووطنه وارتفعت معاناته المعيشية وأصبح إما نازحاً أو لاجئاً أو مهاجراً.
أمراض ووبائياتمن جهته، قال مدير إدارة الطوارئ الصحية بالهلال الأحمر السوداني د. عبد الرحمن حامد لـ(التغيير)، إن واقع العمل الإنساني أثبت أن أكبر مشكلة تواجه النازحين الفارين من الحرب هي الوضع الاقتصادي المتردي في المقام الأول (الظروف المعيشية) بجانب معاناة أصحاب الأمراض المزمنة “القلب، الضغط، السكري والأورام”.
وأشار إلى أن تكافل السودانيين (الأسر المستضيفة) قلل من عددية النازحين في مراكز الإيواء.
وأكد حامد أن هنالك انتشاراً لبعض الأوبئة حسب ما أعلنته الجهات الحكومية المختصة، وأوضح أن لديهم أتيام طبية وحملات لرش البعوض ونواقل الأمراض.
نقص المعيناتوأشاد د. عبد الرحمن حامد بالمواطنين في الولايات المستضيفة الذين قللوا من نسبة النازحين لمراكز الإيواء باستضافتهم لعدد كبير من الأسر.
وفيما يتعلق بتوزيع المعينات أكد حامد توزيع كميات من المواد الغذائية والوجبات الجاهزة، ونوه إلى أن المواد الغذائية والطبية الموجودة غير كافية، كما لا توجد خيام ولا بطاطين مع قدوم فصل الشتاء.
على كل، واقع الحال اليوم في الخرطوم والولايات المتأثرة بالحرب، أو حتى تلك الآمنة، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن تأثير حرب 15 اكتوبر داخل إلى كل منزل في السودان، سواء بالضرر المباشر أو عبر تأثيرها على الاقتصاد بالغلاء والشح وتوقف الرواتب وتآكل قيمة العملة الوطنية، فضلاً عن تزايد الفارين من الحرب، لتصبح المعاناة المعيشية هي عنوان المرحلة، على أمل توقف الحرب عبر التفاوض قريباً.
الوسومالاقتصاد البنك الدولي الجيش الدعم السريع السودان الناتج المحلي الإجمالي حرب 15 ابريل دور الإيواءالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاقتصاد البنك الدولي الجيش الدعم السريع السودان الناتج المحلي الإجمالي حرب 15 ابريل الفارین من الحرب أکثر من إلى أن
إقرأ أيضاً:
مقاربة بين "ذات الرداء الأبيض" والوضع السوداني الراهن
أحمد عمران
في عالم الأدب الإنجليزي، تُعد رواية "ذات الرداء الأبيض" للكاتب ويليام ويلكي كولينز واحدة من الأعمال المبدعة التي تروي قصة فتاة تُدعى ألين، التي تجد نفسها ضحية لمؤامرة مُعقدة تهدف إلى الاستيلاء على ثروتها. تُخفي هويتها الحقيقية، وتدمَّر حياتها، ويعتقد الجميع أنها فقدت ذاكرتها. ومع توالي التحقيقات، تكشف الحقائق عن أنَّ ألين كانت ضحية تلاعبات سياسية واقتصادية قذرة، حيث يكشف السعي الحثيث للسيطرة على ثروتها عن الأطراف المتآمرة خلف هذه المؤامرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تُعكس رواية "ذات الرداء الأبيض" في نسختها المعاصرة الوضع السوداني الراهن؟ هل يُظهر تدمير السودان على يد مؤامرات مدبرة، مختبئة تحت "الكدمول" في السياسة السودانية، والذي ارتداه كثيرٌ من المتآمرين في محاولة يائسة لتمويه هوية الأمة السودانية؟
الكدمول هو رداء قاتم مُغطى بالظلام فرضته قوى محلية وإقليمية بغية طمس حقيقة السودان الغنيّة بالتاريخ والثقافة والموارد. لقد تمَّ تدمير هذه الأرض التي تزخر بالكنوز من أجل مصالح شخصية وفئوية ضيقة، وأصبح هذا الكدمول قناعاً يُخفي وراءه أطماعاً أكبر، تماماً كما كانت "ذات الرداء الأبيض" تظهر في الرواية كشخصية ضائعة أو فاقدة الذاكرة، يُحاول أصحاب الكدمول اتلاف الإرث السوداني وسجلاته ومكتباته ومُقتنياته ضمن مؤامرة كبيرة تم التخطيط لها بعناية. هذا الرداء الكئيب يرمز إلى التمويه على الهوية السودانية الأصيلة، ويحولها إلى صورة مشوهة، بعيدة كل البُعد عن قيمها الثقافية والتاريخية. للأسف، أصبح حتى الساسة في السودان يرتدون هذا الكدمول لتنفيذ مؤامرة كبرى، ليُصبح بذلك رمزاً لاحتلال الهوية السودانية وتغييرها إلى ما لا يتناسب مع حقيقتها، بعد أن أضحى السودان ضحية لمؤامرات إقليمية ودولية تهدف إلى نهب ثرواته وتدمير مكتسباته.
كان أبناء السودان يحدوهم الأمل في مُستقبل المشرق، يترنمون بأغنية الخليل "عزة" للتأكيد على حب الوطن والذود عنه "عزة في هواك عزة نحن الجبال وبنخوض صفاك نحن النبال"، وكان هذا الشعار الوطني الذي يرفعه أبناء الوطن "عزة السودان" يمثل الأمل في غدٍ أفضل، حيث كانت الآمال معقودة على نهضة الوطن. أما اليوم، فقد تحول ذلك الشعار إلى ذكرى مُؤلمة لسقوطه في قبضة قوى خارجية، تماماً كما سقطت ألين ضحية لتدخلات مُعقدة شوهت حياتها، وسلبت منها قدرتها على التفاعل مع العالم. إنَّ حالة السودان اليوم، مثل ألين في الرواية، أصبحت تشهد على تآمرات خفية، تحاول طمس هويته وتحويله إلى مجرد صورة مشوهة عما كان عليه.
في مُقاربة الثوب الأبيض والانتقال إلى الكدمول، نجد في الرواية أن "آن كاثريك"، كانت ترتدي ثوب البراءة الذي لا يُعكر صفوه شيء. وفي المقابل، ارتدى السودانيون جلابيتهم البيضاء منذ القدم كرمز للنقاء والصفاء الثقافي والهوية الوطنية المُميزة. لكن، مثلما أُجبرت "آن" على خلع ثوبها الأبيض النقي لتلبس عباءة داكنة، اضطر كثير من السودانيين اليوم إلى استبدال جلابيتهم البيضاء بكدمول قاتم، يخفون خلفه جراحاً مثقلة بالخيانة. هذا التغيير في الثياب لا يعكس فقط التغيير في المظهر، بل يعكس الخيانة والمكائد التي أصبحت جزءاً من واقع الحياة السياسية في السودان.
كما كانت "آن" ضحية لسرّ لم تفهمه بالكامل، يعيش الشعب السوداني اليوم في ظل مؤامرات سياسية خفية مُعقدة، تشوبها الألغاز والأسرار التي لا يراها الجميع. وأما آن، فقد كانت غير مدركة أن السير "بيرسيفال" كان يخبئ أسراراً مظلمة وراء مظهره البريء، كما أنَّ السودانيين اليوم يشعرون بوجود قوى خفية تسحب الخيوط وتدير المشهد السياسي في الظلام، بينما تظل الحقيقة بعيدة عنهم. ولكن كما أن "والتر"، شخصية الرواية الفذّة، كشف الستار عن خيانة "بيرسيفال" وأسراره المظلمة، يظل الأمل قائماً في أن يكشف الشعب السوداني في يوم من الأيام حقيقة ما يُحيط به من مؤامرات خفية، وأن يعود الحق إلى نصابه.
على الرغم من كافة التلاعبات والمؤامرات، كانت "آن" تحتفظ في أعماقها بنقاء روحها، رغم ما جرى من حولها. وبالمثل، لطالما كان الشعب السوداني بريئاً في سعيه نحو الحرية والعدالة، رغم أنَّ القوى الخفية قد قادته إلى هاوية الخيانة. ولكن كما تمسكت "آن" بحقيقتها ورفضت الزيف المحيط بها، يظل الشعب السوداني متمسكاً بأمل استعادة هويته وكرامته في مواجهة الفساد والانحراف. وفي النهاية، ستظل الحقيقة سيدة الموقف، مهما كانت التحديات، وسينتصر الحق، كما انتصرت الحقيقة في الرواية.