أمضيت ساعة ممتعة مع الدكتور طه حسين قبل أن يسافر إلى أوروبا. إن الجو فى مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير.. إن المكتبة أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل!

محمد حسنين هيكل: صومعة العقل 

غرفة لا تبين جدرانها لأن رفوف الكتب ارتفعت إلى السقف، غرفة فيها آثار أشبه ما تكون باللمسات السحرية. تمثال هنا للدكتور طه حسين.

. وتمثال على الناحية الأخرى لملاك نشر أجنحته ولكنه بلا رأس.. رأسه مكسور! صورة لقرينة الدكتور طه حسين عندما التقى بها أيام الشباب فى فرنسا، قطعة من قماش أثرى ذات لون أحمر تتدلى على قطعة من الجدران لا تزدحم عليها الكتب. مصباح يشع نوراً أحمر خافتاً وفى وسط هذا كله.. على مقعد كبير.. الرجل الذى مزق حجب الظلام الكثيفة المحيطة به لكى يستقبل النور الخالد.. ويعكسه إلى الملايين بعد أن يضفى عليه شيئاً آخر.. شيئاً من ذات نفسه! وكان فى المكتبة مع طه حسين ضيفان اثنان من الآباء الدومنيكان.. بملابس الرهبان السائحين فى الأرض يبحثان عن المعرفة حيثما يمكن أن يكون التاريخ قد نسيها فى طوافه حول الأرض!

وقال لى طه حسين: هل تحب أن تسمع شيئاً ليس فيه أخبار.. وليس فيه سياسة!

قلت بحماس: جداً!

قال: إذن فاجلس وشاركنا فى الحديث، وجلست ولكنى لم أشارك فى الحديث لقد اكتفيت بالسماع!

كان موضوع المناقشة هو الحب فى الدين الإسلامى والحب فى الدين المسيحى. وكانت المناقشة بمزيج عجيب من الفرنسية الفصحى والعربية الفصحى، فقد كان الأبوان الدومنيكان.. من المستشرقين أيضاً! واستمعت فى شغف إلى طه حسين وهو يدلل كيف أن الإسلام اهتم بالقلب قدر اهتمامه بالعقل!

وثم سمعته يقول إنه لا فرق بين الإسلام والمسيحية تجاه الحب. ثم يخرج من هذا إلى أن القرآن والإنجيل تعبير عن إشعاع واحد مقدس.. ثم يستشهد بالآية الكريمة: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).

ويقول بعدها: اختلاف العقائد إلى درجة التعصب فى رأيى اختراع من صنع رجال الدين.. فى كل دين.. له هدف واحد.. أن يكون وسيلة رزق لهم! وانتقل الحديث بعدها إلى الشيخ بخيت.. وقال الدكتور طه ضاحكاً: ربما كان شيخ الأزهر يريد أن يجعل من الشيخ بخيت وزيراً! ثم روى لنا كيف أن الأزهر ثار مرة على الأستاذ أمين الخولى، كمثل ثورته اليوم على الشيخ بخيت.. وكان هناك اتجاه إلى محاكمته.

وقال طه حسين: إن المرحوم أنطون الجميل لقيه ذات يوم وقال له: من رأيى أن تقابل إبراهيم عبدالهادى -كان يومها رئيساً للديوان الملكى- وتقول له: فى عهد الملك فؤاد حوكم الشيخ على عبدالرازق بسبب بحثه عن الإسلام وأصول الحكم.. والشيخ على عبدالرازق اليوم وزير فى الوزارة. فهل تريدون بمحاكمة الشيخ أمين الخولى.. أن تجعلوا منه وزيراً.

وضحك الدكتور طه حسين وقال: قابلت إبراهيم عبدالهادى وقتها وشرحت له رأى أنطون الجميل.. ويظهر أنه عز عليهم أن يجعلوا أمين الخولى وزيراً.. فإنه لم يقدم إلى المحاكمة بعدها! واستأذن الأبوان الدومنيكان فى الانصراف. كان على أحدهما أن يلحق بطائرة مسافرة إلى أفغانستان.

لقد سمع أن فى كابول مخطوطاً عربياً أثرياً وهو يريد أن يراجع بعض ما فيه.. هل سمع شيخ الأزهر وعلماؤه.. الجالسون هنا فى صحن الأزهر يحاكمون الآراء ويعتقلونها.. ويلفون حبل المشنقة حول رقبتها؟ ليتهم يسمعون.. وليتهم يعون الدرس.. ولو حتى من الآباء الدومنيكان!

11 يوليو 1955- أخبار اليوم

-------------------------------------------- 

 د. عائشة عبدالرحمن: نشيعه اليوم إلى مثواه

نشيعه فى خشوع: فقيد أمة وعميد أدبها، وعلماً شامخاً من أساتذة الجيل، وبقية غالية من رواد اليقظة الذين سهروا العمر الطويل ليضيئوا لنا المنارات على درب الوجود والمعرفة.. ويتركنا من بعده، حزانى مضاعفى اليتم، وكأننا نعود فنشيع معه مَن رحلوا عنا قبله من أساتذة كبار، كانوا لنا آباء أصدقاء، وقادة معلمين، أعطوا وجودنا كله قيمة ومعنى، ورأوا فينا، نحن تلاميذهم، امتداد حياتهم وحصاد عمرهم وغاية وجودهم، فكانت رسالتهم أن يعيشوا لنا، ويجاهدوا لكى يعطونا من أنفسهم زاد عقولنا وشخصياتنا، وأقصى أمانيهم أن يقدموا منا إلى الأمة من يتلقى عنهم الأمانة الصعبة، ويقوى على حملها من بعدهم حتى يؤديها إلى جيل خالف..

نشيعه اليوم إلى مثواه، تونسه أرواح صحبه الكرام من أساتذة جيلنا الذين سبقوه إلى الملأ الأعلى: أحمد لطفى السيد، ومصطفى عبدالرازق، وأمين الخولى.. وتحف به فى موكب الرحيل، قلوب أفواج من خاصة تلاميذه فى المشرق والمغرب، يضنيهم حسرة اليتم، ويطوون برحيله أنضر عهود شبابهم حيث صحبوه فى الجامعة، ومعهم ألوف لا يحصون عدداً من قرائه الذين نهلوا من فيض عطائه، وصحبوه فيما قدم إلى المكتبة العربية من ذخائر فكره الخصب السخى، ووجدانه المرهف الملهم.. وتتلقى فيه أمته العزاء، وفى مثله يجل الخطب ويعز الصبر والعزاء، فهل يمنحها التجلد يوم رحيله، أنه قد أدى فيها رسالته، وآن له أن يستريح بعد طول نصب وبذل ومجاهدة، وأن ينام بعد طول سهر وسهاد؟

كل نفس ذائقة الموت، ويعيش فقيدنا الراحل فى ضمير أمته مدداً لحياتها، ويبقى عطاء تراثه ذخيرة للأجيال الخالفة، وتلك هى عبرة الموت والحياة: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ». سلام عليه فى رحاب الخلد، ورحمة الله لنا فيما نقاسى وما نكابد من حزن راسخ مُر، من شهود مواكب الرحيل على فراق الأحباب..

«الأهرام» - 31 أكتوبر 1973

 -----------------------------------------

علي عبدالرازق: طه حسين وديمقراطية التعليم

مع هذه اللحظات التى تعيشها مصر وهى تودع ابناً من أبرِّ أبنائها، وعلماً من أعلام نهضتها، أستاذ الجيل طه حسين. أرى من حق ذكراه الكريمة علىّ وعلى وزارة التربية والتعليم، كلمة وفاء وعرفان لروحه الطاهرة، ولقلبه الكبير، ولهذه الآفاق المتعددة الرحيبة التى ارتادها، ولهذه المآثر العظيمة التى قدمها لوطنه ولأمته والدنيا كلها.

كانت حياته -طيّب الله ثراه- سجلاً حافلاً، أفادت منه أجيال وستفيد منه أجيال وأجيال، وسوف تكشف الدراسة المتأنية المتعمقة عن جوانب متعددة من الجوانب العظيمة والإشراق. وحسبى الآن لمحات لأبنائى الشباب عماد الحاضر وأمل المستقبل. كان رحمه الله ظاهرة فذة، تلقته الحياة عابسة له كأقسى ما تعبس لطفل، وودعته حزينة عليه أشد ما تحزن على إنسان. وإن نظرة إليه فى طفولته، ونظرة أخرى إليه فى قمة عظمته لتدلان على حياة أدنى إلى المعجزات منها إلى ما ألف الناس. دخل غمار الحياة مجّداً، مكافحاً، وقد استعاض عن فقد البصر بنور البصيرة، وحوّل الضعف قوةً والعجز مقدرةً، وأراد الحياة فى إصرار، فواتاه القدر واستجاب له، وبعد دراسات متواصلة فى مصر، ثم فى فرنسا أصبح أستاذاً بكلية الآداب، ثم عميداً لها، ثم وزيراً للمعارف وأخيراً رئيساً للمجمع اللغوى.

إن رحلة عمره قد تعد فى مقياس الزمن بعشرات السنين، ولكنها فى مقياس الحقيقة آماد طِوال، لأنها عمّرت بما جعلها خصبة، مباركة حافلة بالحيوية والإنتاج فى مختلف مجالاته، وإن ميدان الأدب ليذكر له أنه كان فى طليعة الرواد الذين حاربوا الجمود على القديم، وفتحوا العيون على روائع الأدب العالمى، وعلى مناهج الدراسة الأدبية الحديثة، ويذكر له مع ذلك أنه لم يتنكر للقديم بسبب قدمه، ولم يستهوه الجديد لأنه جديد، ولكنه وصل نضارة الجديد وإشراقه، وهكذا كان ثائراً ولكن عن بصيرة، ومتحرراً ولكن فى وعى، ومجدداً فى قوة وعن مقدرة، وكان يسانده فى ذلك كله إيمان عميق بالعقل، وبما يهدى إليه، وإنكار قوى لمن يقلدون أو يجمدون على ما لديهم دون تمحيص، وله آثاره الخصبة فى عالم الأدب، دراسة وتأليفاً ونقداً وتصويراً وقصصاً، وكلها من دعائم المكتبة الأدبية فى هذا العصر، وتذكر له الجامعة أنه ممن دعموا كيانها فى مستهل حياتها، أما وزارة التربية والتعليم فلا تنسى ولن تنسى أبداً كفاحه لنشر التعليم بين طبقات الشعب، ونقله إلى المحرومين منه فى القرى والكفور والأكواخ، ولا تزال تردد كلماته الخالدة «العلم كالماء والهواء ينبغى أن ينال منه الجميع». كان الراحل الكريم فيها وزيراً ثائراً، وكان ملهماً فيما نادى به من القضاء على أرستقراطية التعليم، وعلى الازدواجية بين أنواعه، وكأنما كان يحس مولد الثورة التى حققت ما نادى به من آراء، وبنت عليها، الكثير.

ولقد وُلد الفقيد بين المعذبين فى الأرض، وقضى حياته إنساناً رحب الأفق يقف إلى جانب هؤلاء المحرومين ويدافع عنهم، أينما كانوا من الأرض، وكأنما كان يطوى ببصيرته حجب الزمن، وكأنما يحس أن هذه الصرخات الثائرة ستنجلى عن عهد جديد، ويعيش فيه الناس سواسية، لا استعلاء ولا استغلال ولا استعباد. ويشاء القدر أن يرحل الفقيد الكريم وعلى فمه ابتسامة، ولعلها ابتسامة الرضا عن وطنه، لأنه فارقه وقد انتصر على اليأس والخوف والتردد، وانطلق قوياً عملاقاً على طريق النصر الذى لاحت بشائره فى الأفق القريب، ولعلها كذلك ابتسامة الرضا عن بلاده التى عاشت تعتز به وتقدره، وظهر ذلك فيما منحته من أسمى الأوسمة وأسناها، منحته أعلى جائزة وهى جائزة الدولة التقديرية، وحَبَته أرفع وسام وهو قلادة النيل، بل لعلها ابتسامة الرضا عن التقدير العالمى لإنتاجه الذى تُرجِم كثير منه إلى اللغات الأجنبية، وعن جائزة الأمم المتحدة التى لا تظفر بها إلا الشخصيات العالمية الفذة.

لعل أفضل هذه الأوسمة كلها تلك الأوسمة التى تتمثل فيمن درسوا على يديه، ومَن تأدبوا بأدبه، ومَن أفادوا من آرائه، ومَن نالهم خيرٌ من جهوده، ففتحت لهم أبواباً للعلم، وسعدوا بابتسامة الحياة بعد تجهّم واكتئاب، وكلها أوسمة تملأ النفس برضا والقلب طمأنينة. فإلى أبنائى الشباب هذه الصفحات المشرقة من حياة فقيدنا الكريم، لعل لهم فيها دروساً فى الصبر والكفاح والمحاولة وإرادة الحياة والعمل لخير الوطن والأمة، والوقوف إلى جانب المكافحين من أبناء شعبنا العظيم، أكرم الله جواره وجزاه عن وطنه وأمته وإنسانيته خير الجزاء.

* وزير التربية والتعليم الأسبق

الأهرام 31 أكتوبر 1973

---------------------------------------------

 

د. زكي نجيب محمود: كان عصر طه حسين

سيقول التاريخ الأدبى عن السنين الخمسين التى توسّطت هذا القرن العشرين: لقد كانت عصر طه حسين.

فما أزن كاتباً خلال هذه السنوات الخمسين -من العقد الثانى إلى العقد السابع- قد كتب شيئاً دون أن يهمس له فى صدره صوت يقول: ماذا عسى أن يكون وقع هذا عند طه حسين إذا قرأه؟ أترى هل يصادف عنده السخط أم الرضا؟ وهكذا كان المعيار المستكن فى صدور الكاتبين، كأن لهم فى حياتهم الأدبية ضميراً يوجّه ويشير.

ورد عند أندريه جيد قوله: «لتكن حياتك ثائرة مثيرة، ولا تجعلها هامدة ساكنة»، وأحسب أن نداءً كهذا قد ألقاه عصرنا على طه حسين، فجاءت حياته فى دنيا الفكر والأدب ثائرة مثيرة، لم تعرف سكوناً ولا هموداً، جعل أمامه منذ بداية الشوط هدفاً، فكان جيلاً وعراً، حصر همه فى بلوغ القمة، فلم يشغله دون ذلك ما يلاقيه على طريق الصعود من عقبات، إنه لم ينشط بهذا النشاط الجم الذى ملأ به حياتنا حركة وفاعلية، لو ينشط به تفريغاً لطاقة تزخم شعاب نفسه وعقله، ثم لا يأبه بعد ذلك كيف جاء تفريغها وأين؟ بل جعل لنفسه الهدف منذ أول السفر، فكان هدفه ذاك هو الهادى على الطريق.

وما هدفه ذلك نقلة ينقلنا بها من عصر السذاجة فى النظر والتصديق، إلى عصر يسوده العقل بدقة منهجه، شأنه فى ذلك شأن قادة الفكر على طول التاريخ، فليست الرسالة عند هؤلاء جميعاً هى أن يزيدوا المعرفة معرفة من جنسها، بل رسالتهم أن يغيروا من نوع المعركة، فينقلونها إلى «كيف» جديد، هكذا كانت رسالة سقراط، رسالة الجاحظ، رسالة أبى العلاء، رسالة ديكارت.. وسائر الأمة الذين كانوا ينقلون الفكر من طراز قديم إلى طراز آخر يتلوه على سلم الصعود.

لئن كانت أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وعقولنا جميعاً -أعنى أبناء الأمة العربية فى مرحلتها الفكرية الراهنة- مشدودة إلى غاية مرجوة، فغايتنا فى دنيا الفن والثقافة هى أن نجمع مجدنا الموروث إلى النتاج الإنسانى الحديث، ولقد تجسّدت فى شخص طه حسين، هذه الغاية المأمولة، حتى ليمكن أن يعد مثالاً قائماً لما ينبغى أن يكون عليه هذا الجمع بين قديم وجديد، فاستمع إلى كلمات بيركليز فى خطابه الجنائزى المشهور، الذى ألقاه تكريماً إن سقط من أبناء أثينا فى ساحة الحرب، وحدّد به بعض معالم الشخصية اليونانية -وعنها تفرّغت فى ما بعد الثقافة الأوروبية- تجدها معالم واضحة فى شخصية أديبنا الراحل، قال بيركليز فى خطابه ذاك: «إننا نحب الجمال فى غير إسراف، ونحب الحكمة دون أن تُفقدنا شهامة الرجال، إن أحداً منا لا يستسلم لأحد فى أمر يمس استقلاله الروحى وإبداعه المثمر، وإننا لنعتمد على أنفسنا اعتماداً كاملاً»، وهكذا كان طه حسين.

ولكنه إلى جانب ذلك، أو قل إنه قبل ذلك وفوق ذلك، عربى حتى النخاع، فهو ممن عايش أسلافنا معايشة خيل إليه وإلينا أنه إنما يعيش مع إخوة له معاصرين، يكتب عنهم وكأنه يبادلهم الحديث، ومن ثم استطاع أن يجعل من نفسه زميلاً لهم، لا تابعاً ينظر إليهم ذاهلاً مشدوهاً.

كان لنا طه حسين بشخصه عصر تنوير، وكان لنا كذلك عصراً إنسانياً يُعلى من شأن الإنسان، فلقد آمن بالتقدّم وتفاءل بمصير الإنسان، كان لنا أبا العلاء، وكان لنا فولتير فى آن معاً، دعا إلى حرية الفكر بادئاً من طلاقة التعبير ومنتهياً إلى كرامة الإنسان، فلئن كثر حوله من أبناء عصره من قدّم القوالب على دينامية الإنسان، فقد دعانا هو إلى أن تكون الأولوية لفاعلية الإنسان الحرة، وعلى القوالب أن تجىء بعد ذلك لتصوغ لتلك الفاعلية قوانينها، لقد استمد فكره وأدبه وفعله من فطرته، ولم يجعلها اشتقاقاً من قواعد وضعها آخرون، فكان فكره وكان أدبه وكان فعله جميعاً لصيقة به كالشمس وضوئها.

السؤال الحاسم فى تقويمنا لعظيم أدّى رسالته، هو هذا: هل صنعت رسالته من الإنسان إنساناً أفضل؟ وهل ارتفعت بالإنسان من أدنى إلى أعلى، والجواب بالنسبة إلى عظيمنا الراحل هو أنه قد أجاد الصنع وأحسن الأداء.

الأهرام 30 أكتوبر 1973

-------------------------------------- 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: طه حسين الهجرة الجماعية الدکتور طه حسین أن یکون کان لنا

إقرأ أيضاً:

الأدب والعلاج

منذ أول عهدي بالقراءة، وبالكتابة لاحقا (بالطبع بعد فترة طويلة)، تملكني سؤال دائم، حول الأسباب الغامضة التي تدفع البشر -البالغين وغير البالغين، السعداء أم التعساء- فـي كثير من الأحيان، إلى القراءة (أو عدمها أيضا) والكتابة (أو عدمها بالطبع أيضا).

كانت رؤية الأشخاص المنغمسين فـي نصّ ما، أكانوا يضحكون أم يبكون، أو حتى يبكون من الضحك أثناء القراءة، تثيرني فعلا وتجعلني أتساءل عمّا يمكن له أن يكون -فـي ذلك الأمر- غريبا وأكثر جاذبية؟ أي عالم هو عالم الحروف هذا الذي يتملك الشخص الذي يتردد عليه، ليجذبه بقوة ويجعله ينغمس فـيه إلى درجة أنه لا يعد يرى شيئا حوله؟

فالتساؤل عمّا إذا كان الأدب بمثابة علاج ما، فهذا يعني تساؤلا (شكوكيا!) حول تاريخ حضارتنا وحلقاتها وانعطافاتها، وحتى دينيا (اقرأ باسم ربك الذي خلق...). ربما من هنا، علينا أن نقرأ وأن نعيد قراءة «فـيدر» لــ(أفلاطون) كما الدراسة الجميلة التي خصها له الفـيلسوف الفرنسي جاك دريدا فـي كتابة «صيدلية أفلاطون»، كي نقيس غموض وثراء الأسئلة التي تثيرها الكتابة، والتي وصفها سقراط (الذي لم يكتب، للمفارقة) بــ«الفارماكون». أهي علاج أم سمّ؟ للوهلة الأولى، تتناقض أسطورة تيوت بين الكلمات الحيّة للملك والكلمة المكتوبة، التي فـي نظره ليست ذاكرة حيّة وحاضرة، بل ذكرى. لقد أثار العلاج استياء الملك الذي نوى أن يحرمه من أهليته ليفضل عليها عبارته.

ومع ذلك فقد أثبت التاريخ، بعد أكثر من خمسة وعشرين قرنا، قوة الكلمة المكتوبة. فالكتابة حارسة الذاكرة، وهي أضواؤها كما ترحلاتها، إذ إنها تتبع وتشهد على الأوهام البشرية، على خيالات الناس، على أخطائهم، على تطلعاتهم الباطلة أو المجنونة، على رغباتهم، على معتقداتهم، على أهوائهم، على عواطفهم.

من المثير للفزع أن تمثيلاتهم للعالم تلتقط أحيانًا حقيقة عميقة تتجاوز الزمن لتغذي الأعمال اللاحقة. تشهد الكتابة أيضا على «عبقريتهم»، واكتشافاتهم، ورغبتهم فـي السلطة، وغطرستهم وعدم وعيهم، وتساؤلاتهم التي لا تكلّ وعدم ثقتهم فـي مواجهة اللغة التي، بينما هي تخونهم، تكشفهم لأنفسهم وللآخرين. كذلك نجدها -الكتابة- تقدم أخيرا، وصفا لتجاربهم، ما يسمح للجميع بالتعرف على أنفسهم أو أن يكتشفوها، وأن يواجهوا جهلهم، وأن يرتووا من الفكر الإبداعي، لتغيير أنفسهم ببطء.

الكتابة، مرآة الإنسانية، هي المكان الذي يتم فـيه التعبير عن جميع عائلات الروح وما يسمى عادة بالوعي العالمي وقدرة هذا الوعي على خلق نفسه، والتطور وتغيير العالم وهو يتحدث. فهي تسجل كلّ التقدم البشري، كل التراجعات، كل التردد، كل الأوهام، كل الجنون، كل الإنجازات، كل التحولات، كل شيء كتب هناك. فمن دون كتابة، فـي الواقع، لن تكون هناك حضارة ممكنة، ولا علم ممكن، ولا ذاكرة ممكنة، ولا وعي ممكن بالزمن التاريخي، ولا إمكانية انتقال إلى ما بعد الموت، وبالتالي لا تطور، فربما يكون الشيء الوحيد الذي يميز البشر عن الحيوانات هو هذا الأمر فقط، قدرتهم على التطور مع تطوير وعيهم النقدي من خلال الاتصال بالنصوص والكتابة، خطوة بخطوة، كلمة بكلمة، لأن تقدم هذا الوعي اليائس، يفقد نفسه فـي العدم الذي خرج منه بأعجوبة، بقوة الرغبة وحدها.

الكتاب ينفتح على العالم، والعقل الذي يدخل من النافذة يخلق مساحة يعبر فـيها الصوت. كثيرا ما نقول عن الكاتب أن لديه «فضاء»، «عالما».

ألا يعني هذا أن هناك شيئًا كونيا، ربما، على الأقل؟ فـي الواقع، يجذب النص، من خلال تأثير المرآة الغريبة (إلى حدّ ما)، القراء الذين يتعرفون على أنفسهم فـيه. لديهم شعور بأن هناك من يتحدث معهم عنهم (وهو ما يحبونه أحيانًا، ولكن ليس دائمًا). ثمة خطوة تُتخذ حين ينتقل الكلام إلى الكتابة، ومن ثم إلى النشر. فالكاتب -سواء كان شاعراً أو مفكراً، لا يستبعد أحدهما الآخر- يفضح نفسه ولكنه يخاطب القارئ أيضاً من دون أن يعرف من سيقرأه. إنه يخاطر بشيء لم يكن يعرف عنه شيئًا فـي البداية. قد لا يشكل ذلك كل شيء، فـيما لو أردنا أن نكون صادقين.

لأن الكاتب إذا ما قام بعملية النشر، فذلك أيضًا لأن الأدب بدأ بتعديل حياته. فهو يعلم أن كتابًا واحدًا فقط يمكنه أحيانًا أن يغير الحياة، ويغير النظرة، ويفتح الآفاق، ويحشد الطاقات المجهولة، ويؤثر فـي اتجاه خطوات الإنسان. ربما يريد ببساطة أن يكون هذه القناة التي تمرّ وتعبر باتجاه الآخرين، بطريقته الخاصة. وذلك لأن القراءة، مهما بدت منعزلة، تجلب اللقاءات.

من خلال الهروب من الحياة اليومية، أحيانًا نجد أنفسنا هناك... لنخرج مختلفـين، ومغتنين، ومُنطلقين من جديد فـي طاقتنا الإبداعية.

أعود وأطرح السؤال: هل الأدب (الكتابة) هو علاج أم سمّ؟ قد يثير السؤال مفاجأة ما. من الذي يسمم نفسه من أجل المتعة؟ سنقول المخدرات أيضًا. هل ذلك لكي ننام أم لكي نستيقظ؟ هل لكي نشعر بالاطمئنان؟ بالقلق؟ بالانزعاج؟ لنطرح تساؤلا؟ صحيح أنه لا يوجد علاج حقيقي غير ضار.

الدواء ليس منتجا استهلاكيا. إنه منتج فعّال، يعدل الجسد، ويمكنه أيضًا التأثير على العقل وربما على الجسد، إذ إن كل اللغة جزء منه. حتى أن هناك أدوية تهدف إلى إسكات الانزعاج. ففـي حين أن الإنسانية عاشت قرونًا بدون مضادات الاكتئاب، أصبحت هذه المنتجات جذابة للغاية لدرجة أن الطب المعاصر يستخدمها كما لو أنه سيشفـي مرضاه. هل فعلا هي أدوية للشفاء أم لإسكاتهم عن القول (وربما الكتابة؟).

وعلى العكس من ذلك، هناك أيضًا تخصصات خالية من أي جزئيات نشطة، ولا يمكن التعامل معها إلا باسمها، وهو ما قد يرضي بشكل من الأشكال. لذا هل الأدب دواء وهمي؟ هل أنه الدواء الأكثر فعالية على الإطلاق؟ قد يتوجب علينا لاحقا أن نسأل أنفسنا عمّا يعالجه ومن يعالجه. الكاتب أم القارئ؟ أمن المحتمل أن يجتمع الاثنان فـي مكان لا يعرفه سوى عدد قليل من الآخرين؟ ... للحديث صلة.

مقالات مشابهة

  • قراءة في كتاب «العقل والفلسفة والإيمان في مواجهة الإلحاد» للدكتور أمان قحيف باتحاد الكتاب وسط الدلتا
  • سعود الحوسني يكتب: أدبنا العربي مرآة هويتنا وذاكرتنا الحية
  • الأدب والعلاج
  • وسط منافسة قوية.. جامعة أسوان تختار عميدًا جديدًا لكلية الزراعة
  • عميد سوري منشق يفصح عن أسباب سقوط نظام الأسد خلال 11 يوماً فقط
  • الأوساط الثقافية تنعى عميد أدب الأطفال بالعراق
  • حكيمي عميد PSG يتدخل لاحتواء أزمة هتافات عنصرية في مباراة باريس وليون
  • عميد بلدية زليتن: الدبيبة لم يوفِ بوعده باستكمال مشروع شبكة الرشح
  • تدشين منتدى الأدب والفكر العربي للطلاب المثقفين والمبدعين بسوهاج
  • «تعليم سوهاج» تستعد لتدشين منتدى الأدب والفكر العربي للطلاب المثقفين والمبدعين