عميد الأدب العربي بأقلام كبار الكتاب.. طه حسين صومعة العقل
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
أمضيت ساعة ممتعة مع الدكتور طه حسين قبل أن يسافر إلى أوروبا. إن الجو فى مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير.. إن المكتبة أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل!
محمد حسنين هيكل: صومعة العقلغرفة لا تبين جدرانها لأن رفوف الكتب ارتفعت إلى السقف، غرفة فيها آثار أشبه ما تكون باللمسات السحرية. تمثال هنا للدكتور طه حسين.
وقال لى طه حسين: هل تحب أن تسمع شيئاً ليس فيه أخبار.. وليس فيه سياسة!
قلت بحماس: جداً!
قال: إذن فاجلس وشاركنا فى الحديث، وجلست ولكنى لم أشارك فى الحديث لقد اكتفيت بالسماع!
كان موضوع المناقشة هو الحب فى الدين الإسلامى والحب فى الدين المسيحى. وكانت المناقشة بمزيج عجيب من الفرنسية الفصحى والعربية الفصحى، فقد كان الأبوان الدومنيكان.. من المستشرقين أيضاً! واستمعت فى شغف إلى طه حسين وهو يدلل كيف أن الإسلام اهتم بالقلب قدر اهتمامه بالعقل!
وثم سمعته يقول إنه لا فرق بين الإسلام والمسيحية تجاه الحب. ثم يخرج من هذا إلى أن القرآن والإنجيل تعبير عن إشعاع واحد مقدس.. ثم يستشهد بالآية الكريمة: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ويقول بعدها: اختلاف العقائد إلى درجة التعصب فى رأيى اختراع من صنع رجال الدين.. فى كل دين.. له هدف واحد.. أن يكون وسيلة رزق لهم! وانتقل الحديث بعدها إلى الشيخ بخيت.. وقال الدكتور طه ضاحكاً: ربما كان شيخ الأزهر يريد أن يجعل من الشيخ بخيت وزيراً! ثم روى لنا كيف أن الأزهر ثار مرة على الأستاذ أمين الخولى، كمثل ثورته اليوم على الشيخ بخيت.. وكان هناك اتجاه إلى محاكمته.
وقال طه حسين: إن المرحوم أنطون الجميل لقيه ذات يوم وقال له: من رأيى أن تقابل إبراهيم عبدالهادى -كان يومها رئيساً للديوان الملكى- وتقول له: فى عهد الملك فؤاد حوكم الشيخ على عبدالرازق بسبب بحثه عن الإسلام وأصول الحكم.. والشيخ على عبدالرازق اليوم وزير فى الوزارة. فهل تريدون بمحاكمة الشيخ أمين الخولى.. أن تجعلوا منه وزيراً.
وضحك الدكتور طه حسين وقال: قابلت إبراهيم عبدالهادى وقتها وشرحت له رأى أنطون الجميل.. ويظهر أنه عز عليهم أن يجعلوا أمين الخولى وزيراً.. فإنه لم يقدم إلى المحاكمة بعدها! واستأذن الأبوان الدومنيكان فى الانصراف. كان على أحدهما أن يلحق بطائرة مسافرة إلى أفغانستان.
لقد سمع أن فى كابول مخطوطاً عربياً أثرياً وهو يريد أن يراجع بعض ما فيه.. هل سمع شيخ الأزهر وعلماؤه.. الجالسون هنا فى صحن الأزهر يحاكمون الآراء ويعتقلونها.. ويلفون حبل المشنقة حول رقبتها؟ ليتهم يسمعون.. وليتهم يعون الدرس.. ولو حتى من الآباء الدومنيكان!
11 يوليو 1955- أخبار اليوم
--------------------------------------------
د. عائشة عبدالرحمن: نشيعه اليوم إلى مثواهنشيعه فى خشوع: فقيد أمة وعميد أدبها، وعلماً شامخاً من أساتذة الجيل، وبقية غالية من رواد اليقظة الذين سهروا العمر الطويل ليضيئوا لنا المنارات على درب الوجود والمعرفة.. ويتركنا من بعده، حزانى مضاعفى اليتم، وكأننا نعود فنشيع معه مَن رحلوا عنا قبله من أساتذة كبار، كانوا لنا آباء أصدقاء، وقادة معلمين، أعطوا وجودنا كله قيمة ومعنى، ورأوا فينا، نحن تلاميذهم، امتداد حياتهم وحصاد عمرهم وغاية وجودهم، فكانت رسالتهم أن يعيشوا لنا، ويجاهدوا لكى يعطونا من أنفسهم زاد عقولنا وشخصياتنا، وأقصى أمانيهم أن يقدموا منا إلى الأمة من يتلقى عنهم الأمانة الصعبة، ويقوى على حملها من بعدهم حتى يؤديها إلى جيل خالف..
نشيعه اليوم إلى مثواه، تونسه أرواح صحبه الكرام من أساتذة جيلنا الذين سبقوه إلى الملأ الأعلى: أحمد لطفى السيد، ومصطفى عبدالرازق، وأمين الخولى.. وتحف به فى موكب الرحيل، قلوب أفواج من خاصة تلاميذه فى المشرق والمغرب، يضنيهم حسرة اليتم، ويطوون برحيله أنضر عهود شبابهم حيث صحبوه فى الجامعة، ومعهم ألوف لا يحصون عدداً من قرائه الذين نهلوا من فيض عطائه، وصحبوه فيما قدم إلى المكتبة العربية من ذخائر فكره الخصب السخى، ووجدانه المرهف الملهم.. وتتلقى فيه أمته العزاء، وفى مثله يجل الخطب ويعز الصبر والعزاء، فهل يمنحها التجلد يوم رحيله، أنه قد أدى فيها رسالته، وآن له أن يستريح بعد طول نصب وبذل ومجاهدة، وأن ينام بعد طول سهر وسهاد؟
كل نفس ذائقة الموت، ويعيش فقيدنا الراحل فى ضمير أمته مدداً لحياتها، ويبقى عطاء تراثه ذخيرة للأجيال الخالفة، وتلك هى عبرة الموت والحياة: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ». سلام عليه فى رحاب الخلد، ورحمة الله لنا فيما نقاسى وما نكابد من حزن راسخ مُر، من شهود مواكب الرحيل على فراق الأحباب..
«الأهرام» - 31 أكتوبر 1973
-----------------------------------------
علي عبدالرازق: طه حسين وديمقراطية التعليممع هذه اللحظات التى تعيشها مصر وهى تودع ابناً من أبرِّ أبنائها، وعلماً من أعلام نهضتها، أستاذ الجيل طه حسين. أرى من حق ذكراه الكريمة علىّ وعلى وزارة التربية والتعليم، كلمة وفاء وعرفان لروحه الطاهرة، ولقلبه الكبير، ولهذه الآفاق المتعددة الرحيبة التى ارتادها، ولهذه المآثر العظيمة التى قدمها لوطنه ولأمته والدنيا كلها.
كانت حياته -طيّب الله ثراه- سجلاً حافلاً، أفادت منه أجيال وستفيد منه أجيال وأجيال، وسوف تكشف الدراسة المتأنية المتعمقة عن جوانب متعددة من الجوانب العظيمة والإشراق. وحسبى الآن لمحات لأبنائى الشباب عماد الحاضر وأمل المستقبل. كان رحمه الله ظاهرة فذة، تلقته الحياة عابسة له كأقسى ما تعبس لطفل، وودعته حزينة عليه أشد ما تحزن على إنسان. وإن نظرة إليه فى طفولته، ونظرة أخرى إليه فى قمة عظمته لتدلان على حياة أدنى إلى المعجزات منها إلى ما ألف الناس. دخل غمار الحياة مجّداً، مكافحاً، وقد استعاض عن فقد البصر بنور البصيرة، وحوّل الضعف قوةً والعجز مقدرةً، وأراد الحياة فى إصرار، فواتاه القدر واستجاب له، وبعد دراسات متواصلة فى مصر، ثم فى فرنسا أصبح أستاذاً بكلية الآداب، ثم عميداً لها، ثم وزيراً للمعارف وأخيراً رئيساً للمجمع اللغوى.
إن رحلة عمره قد تعد فى مقياس الزمن بعشرات السنين، ولكنها فى مقياس الحقيقة آماد طِوال، لأنها عمّرت بما جعلها خصبة، مباركة حافلة بالحيوية والإنتاج فى مختلف مجالاته، وإن ميدان الأدب ليذكر له أنه كان فى طليعة الرواد الذين حاربوا الجمود على القديم، وفتحوا العيون على روائع الأدب العالمى، وعلى مناهج الدراسة الأدبية الحديثة، ويذكر له مع ذلك أنه لم يتنكر للقديم بسبب قدمه، ولم يستهوه الجديد لأنه جديد، ولكنه وصل نضارة الجديد وإشراقه، وهكذا كان ثائراً ولكن عن بصيرة، ومتحرراً ولكن فى وعى، ومجدداً فى قوة وعن مقدرة، وكان يسانده فى ذلك كله إيمان عميق بالعقل، وبما يهدى إليه، وإنكار قوى لمن يقلدون أو يجمدون على ما لديهم دون تمحيص، وله آثاره الخصبة فى عالم الأدب، دراسة وتأليفاً ونقداً وتصويراً وقصصاً، وكلها من دعائم المكتبة الأدبية فى هذا العصر، وتذكر له الجامعة أنه ممن دعموا كيانها فى مستهل حياتها، أما وزارة التربية والتعليم فلا تنسى ولن تنسى أبداً كفاحه لنشر التعليم بين طبقات الشعب، ونقله إلى المحرومين منه فى القرى والكفور والأكواخ، ولا تزال تردد كلماته الخالدة «العلم كالماء والهواء ينبغى أن ينال منه الجميع». كان الراحل الكريم فيها وزيراً ثائراً، وكان ملهماً فيما نادى به من القضاء على أرستقراطية التعليم، وعلى الازدواجية بين أنواعه، وكأنما كان يحس مولد الثورة التى حققت ما نادى به من آراء، وبنت عليها، الكثير.
ولقد وُلد الفقيد بين المعذبين فى الأرض، وقضى حياته إنساناً رحب الأفق يقف إلى جانب هؤلاء المحرومين ويدافع عنهم، أينما كانوا من الأرض، وكأنما كان يطوى ببصيرته حجب الزمن، وكأنما يحس أن هذه الصرخات الثائرة ستنجلى عن عهد جديد، ويعيش فيه الناس سواسية، لا استعلاء ولا استغلال ولا استعباد. ويشاء القدر أن يرحل الفقيد الكريم وعلى فمه ابتسامة، ولعلها ابتسامة الرضا عن وطنه، لأنه فارقه وقد انتصر على اليأس والخوف والتردد، وانطلق قوياً عملاقاً على طريق النصر الذى لاحت بشائره فى الأفق القريب، ولعلها كذلك ابتسامة الرضا عن بلاده التى عاشت تعتز به وتقدره، وظهر ذلك فيما منحته من أسمى الأوسمة وأسناها، منحته أعلى جائزة وهى جائزة الدولة التقديرية، وحَبَته أرفع وسام وهو قلادة النيل، بل لعلها ابتسامة الرضا عن التقدير العالمى لإنتاجه الذى تُرجِم كثير منه إلى اللغات الأجنبية، وعن جائزة الأمم المتحدة التى لا تظفر بها إلا الشخصيات العالمية الفذة.
لعل أفضل هذه الأوسمة كلها تلك الأوسمة التى تتمثل فيمن درسوا على يديه، ومَن تأدبوا بأدبه، ومَن أفادوا من آرائه، ومَن نالهم خيرٌ من جهوده، ففتحت لهم أبواباً للعلم، وسعدوا بابتسامة الحياة بعد تجهّم واكتئاب، وكلها أوسمة تملأ النفس برضا والقلب طمأنينة. فإلى أبنائى الشباب هذه الصفحات المشرقة من حياة فقيدنا الكريم، لعل لهم فيها دروساً فى الصبر والكفاح والمحاولة وإرادة الحياة والعمل لخير الوطن والأمة، والوقوف إلى جانب المكافحين من أبناء شعبنا العظيم، أكرم الله جواره وجزاه عن وطنه وأمته وإنسانيته خير الجزاء.
* وزير التربية والتعليم الأسبق
الأهرام 31 أكتوبر 1973
---------------------------------------------
د. زكي نجيب محمود: كان عصر طه حسين
سيقول التاريخ الأدبى عن السنين الخمسين التى توسّطت هذا القرن العشرين: لقد كانت عصر طه حسين.
فما أزن كاتباً خلال هذه السنوات الخمسين -من العقد الثانى إلى العقد السابع- قد كتب شيئاً دون أن يهمس له فى صدره صوت يقول: ماذا عسى أن يكون وقع هذا عند طه حسين إذا قرأه؟ أترى هل يصادف عنده السخط أم الرضا؟ وهكذا كان المعيار المستكن فى صدور الكاتبين، كأن لهم فى حياتهم الأدبية ضميراً يوجّه ويشير.
ورد عند أندريه جيد قوله: «لتكن حياتك ثائرة مثيرة، ولا تجعلها هامدة ساكنة»، وأحسب أن نداءً كهذا قد ألقاه عصرنا على طه حسين، فجاءت حياته فى دنيا الفكر والأدب ثائرة مثيرة، لم تعرف سكوناً ولا هموداً، جعل أمامه منذ بداية الشوط هدفاً، فكان جيلاً وعراً، حصر همه فى بلوغ القمة، فلم يشغله دون ذلك ما يلاقيه على طريق الصعود من عقبات، إنه لم ينشط بهذا النشاط الجم الذى ملأ به حياتنا حركة وفاعلية، لو ينشط به تفريغاً لطاقة تزخم شعاب نفسه وعقله، ثم لا يأبه بعد ذلك كيف جاء تفريغها وأين؟ بل جعل لنفسه الهدف منذ أول السفر، فكان هدفه ذاك هو الهادى على الطريق.
وما هدفه ذلك نقلة ينقلنا بها من عصر السذاجة فى النظر والتصديق، إلى عصر يسوده العقل بدقة منهجه، شأنه فى ذلك شأن قادة الفكر على طول التاريخ، فليست الرسالة عند هؤلاء جميعاً هى أن يزيدوا المعرفة معرفة من جنسها، بل رسالتهم أن يغيروا من نوع المعركة، فينقلونها إلى «كيف» جديد، هكذا كانت رسالة سقراط، رسالة الجاحظ، رسالة أبى العلاء، رسالة ديكارت.. وسائر الأمة الذين كانوا ينقلون الفكر من طراز قديم إلى طراز آخر يتلوه على سلم الصعود.
لئن كانت أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وعقولنا جميعاً -أعنى أبناء الأمة العربية فى مرحلتها الفكرية الراهنة- مشدودة إلى غاية مرجوة، فغايتنا فى دنيا الفن والثقافة هى أن نجمع مجدنا الموروث إلى النتاج الإنسانى الحديث، ولقد تجسّدت فى شخص طه حسين، هذه الغاية المأمولة، حتى ليمكن أن يعد مثالاً قائماً لما ينبغى أن يكون عليه هذا الجمع بين قديم وجديد، فاستمع إلى كلمات بيركليز فى خطابه الجنائزى المشهور، الذى ألقاه تكريماً إن سقط من أبناء أثينا فى ساحة الحرب، وحدّد به بعض معالم الشخصية اليونانية -وعنها تفرّغت فى ما بعد الثقافة الأوروبية- تجدها معالم واضحة فى شخصية أديبنا الراحل، قال بيركليز فى خطابه ذاك: «إننا نحب الجمال فى غير إسراف، ونحب الحكمة دون أن تُفقدنا شهامة الرجال، إن أحداً منا لا يستسلم لأحد فى أمر يمس استقلاله الروحى وإبداعه المثمر، وإننا لنعتمد على أنفسنا اعتماداً كاملاً»، وهكذا كان طه حسين.
ولكنه إلى جانب ذلك، أو قل إنه قبل ذلك وفوق ذلك، عربى حتى النخاع، فهو ممن عايش أسلافنا معايشة خيل إليه وإلينا أنه إنما يعيش مع إخوة له معاصرين، يكتب عنهم وكأنه يبادلهم الحديث، ومن ثم استطاع أن يجعل من نفسه زميلاً لهم، لا تابعاً ينظر إليهم ذاهلاً مشدوهاً.
كان لنا طه حسين بشخصه عصر تنوير، وكان لنا كذلك عصراً إنسانياً يُعلى من شأن الإنسان، فلقد آمن بالتقدّم وتفاءل بمصير الإنسان، كان لنا أبا العلاء، وكان لنا فولتير فى آن معاً، دعا إلى حرية الفكر بادئاً من طلاقة التعبير ومنتهياً إلى كرامة الإنسان، فلئن كثر حوله من أبناء عصره من قدّم القوالب على دينامية الإنسان، فقد دعانا هو إلى أن تكون الأولوية لفاعلية الإنسان الحرة، وعلى القوالب أن تجىء بعد ذلك لتصوغ لتلك الفاعلية قوانينها، لقد استمد فكره وأدبه وفعله من فطرته، ولم يجعلها اشتقاقاً من قواعد وضعها آخرون، فكان فكره وكان أدبه وكان فعله جميعاً لصيقة به كالشمس وضوئها.
السؤال الحاسم فى تقويمنا لعظيم أدّى رسالته، هو هذا: هل صنعت رسالته من الإنسان إنساناً أفضل؟ وهل ارتفعت بالإنسان من أدنى إلى أعلى، والجواب بالنسبة إلى عظيمنا الراحل هو أنه قد أجاد الصنع وأحسن الأداء.
الأهرام 30 أكتوبر 1973
--------------------------------------
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: طه حسين الهجرة الجماعية الدکتور طه حسین أن یکون کان لنا
إقرأ أيضاً:
العرب وثقافة التنوير
مصطلح التنوير في الحياة العربية لم يكن معروفا حتى نهايات القرن التاسع عشر، فالحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي اصطلح الأوروبيون على تسميته بالتنوير أو الاستنارة لم يكن شائعا في حياتنا الثقافية العربية حتى نهايات القرن التاسع عشر، وربما كان مستهجنا أو شيئا خارجا عن المألوف، لذا كانت الحياة الثقافية العربية تتسم بالجمود والاستغراق في الواقع، بكل ما يتعلق بمفردات الحياة سواء في جوانبها السياسية أو الاجتماعية، ولم يعرف العرب التنوير كنتاج للحراك السياسي والاجتماعي والفكري، وربما حدث على استحياء نتيجة للاحتكاك مع مجتمعات أوروبية سبقتنا، حدث كل هذا خلال القرن التاسع عشر نتيجة لاصطدام العرب بالثقافة الأوروبية مع مقدم الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨، حينما فوجئ المصريون باجتياح نابليون لبلادهم مستخدما أسلحة ومدافع حديثة لم يكن لهم معرفة بها، وخصوصا حينما استقدمت الحملة معها مئات العلماء في شتى مجالات العلوم والمعارف، وأسسوا ما عرف بالمجمع العلمي المصري على نفس نمط المجمع العلمي الفرنسي، وكان اجتياح نابليون للمدن والقرى المصرية بمثابة اجتياح للحضارة المصرية، ولم تنتهج الحملة وهي تجتاح مصر سلوكا دينيا، فلم تستقدم معها علماء دين بل استقدمت علماء في شتى المعارف العلمية والفنية، ولم يكن من بينهم رجال دين، وهو ما طبع الحملة بطابع علماني وفكري، بعكس ما حدث في الجزائر حينما استقدم الفرنسيون علماء دين وقساوسة راحوا يعملون على نشر المسيحية.
إذا كان الجزائريون قد نجحوا في عدم الاستسلام لرجال الدين، والتمسك بعقيدتهم الإسلامية، إلا أن الوطن الجزائري برمته وقع فريسة للاحتلال، لكن لم ينجح الفرنسيون في نشر عقيدتهم الدينية، بل نجحوا في احتلال الجزائر، بينما في مصر سعى الفرنسيون جاهدين إلى عدم ترك انطباع عند المصريين بأنهم يستهدفون الإسلام، بل راح بونابرت ورجاله يعبرون في مناسبات عديدة على احترامهم للإسلام وتقديرهم لرجال الأزهر ومحاولة التقرب منهم، ورغم ذلك فقد قاد علماء الأزهر حركة المقاومة من منطلق ديني وليس سياسي، لذا كثرت الثورات التي اتسمت بطابع شعبي، وخصوصا بعد أن انهزمت قوات المماليك وهربوا من المواجهة ولجأوا إلى الصعيد، وبعضهم فر إلى بلاد الشام، ووجد المصريون أنفسهم وجها لوجه أمام قوات نابليون دون إمكانات عسكرية، وهو ما دفعهم إلى استخدام إمكاناتهم التقليدية كالعصي والحجارة، وإقامة المتاريس على مداخل الشوارع ومداهمة الفرنسيين في الحارات وعلى أسطح البيوت.
لم تستمر الحملة أكثر من ثلاث سنوات ( ١٧٩٨-١٨٠١)، لكنها حققت نتائج إيجابية ربما لم يتنبه لها الفرنسيون أو حتى المصريون، فقد تفتحت أعين المصريين على مفهوم الوطن، بعد أن شعروا بأن المماليك قد هربوا خوفا من مواجهة الفرنسيين، وظهر مصطلح (أبناء البلد) في مواجهة (الغرباء) كما لفتت الحملة نظر المصريين إلى النهضة الحديثة التي وصل إليها الفرنسيون، وراح علماء الأزهر يحاولون التعرف على القواعد التي أدت إلى وصول الفرنسيين إلى هذا المستوى من المعارف العلمية والعسكرية، وهي قواعد راح يتطلع إليها المصريون في محاولة لمعرفة الثورة الفرنسية وفلاسفتها وقضايا أخرى من قبيل الحرية والدستور وإعمال العقل وقواعد بناء الأمم، وأدرك المستنيرون من علماء الأزهر الفجوة الكبيرة بين الثقافتين المصرية والفرنسية، وهو ما حرك فيهم الرغبة في التعرف على فلسفة الدول في إقامة الحضارات، وخصوصا فيما يتعلق بقضية العقل والحرية والحياة النيابية، جميعها بمثابة قوام الحضارة الفرنسية، كان بعض الأزهريين كالشيخ حسن العطار على دراية بالثورة الفرنسية وأدبياتها وفلاسفتها، وشاعت الرغبة في التعرف على أدبيات الثورة ومنجزاتها، وهو ما أحدث حراكا فكريا لم يتنبه الفرنسيون إلى مخاطره.
لم يدرك الفرنسيون أن التاريخ له دهاء يفوق دهاء الفرنسيين! فقد خرجت الحملة من مصر غير مأسوف عليها، لكنها تركت خبرة كبيرة فيما يتعلق ببناء الدول وحقوق المواطنين وفلسفة القانون وثقافة المقاومة، والتأسيس لفكرة الوطن والمواطنة، بعد أن كان المصريون يعتبرون أنفسهم مجرد رعايا للسلطان العثماني، لذا كان خروج الحملة الفرنسية من مصر ١٨٠١، دافعا للمصريين لكي يختاروا حاكمهم بأنفسهم بدلا من فرض حكامهم بفرمان من السلطان العثماني، وقد بدا ذلك واضحا في إجماع المصريين على اختيار محمد علي حاكما عليهم ١٨٠٥، وكان الرجل ملما بالتجربة الفرنسية مدركا أهمية العلم في حياة الشعوب، لذا أسس لمشروع تنموي كبير في الزراعة والصناعة والتجارة والجيش والتعليم، وقد استعان بالخبرة الفرنسية، ووجه بأن تكون أول بعثاته التعليمية إلى فرنسا، ووقع اختياره على أحد الشباب من خريجي الأزهر (رفاعة الطهطاوي) لكي يكون موجها ومرشدا لهذه البعثة، التي لم يُكتب لأي واحد منها النبوغ، لكن رفاعة الطهطاوي قد راح يدرس التجربة الفرنسية من كل جوانبها، وخصوصا فيما يتعلق بالحرية وتعليم المرأة والقواعد القانونية التي اعتمد عليها الفرنسيون في تشييد دولتهم، لذا كانت كل كتاباته بمثابة نافذة للوعي والتنوير، وقد أشاع بكتاباته في هذه المجالات روحا متقدة تركت أثرا عظيما على الحياة المصرية وربما على العربية أيضا.
توقف كثير من الكتاب والمفكرين العرب عند تجربة الحملة الفرنسية باعتبارها بداية لحركة تنويرية ليس في مصر فقط وإنما امتد أثرها إلى معظم الأقطار العربية، حينما وفد إلى مصر كثير من المفكرين العرب الذين حملوا مشعل التنوير الذي كان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده نتاجا طبيعيا له، وقد لعب كل منهما دورا كبيرا في إدخال كثير من المفاهيم الجديدة في الواقع السياسي العربي، رغم ما بينهما من اختلاف حول الوسيلة التي يتحقق بها التنوير، وهل هي الثورة الشاملة التي تستند إلى الدين كما كان يراها الأفغاني؟ أم تنهج سلوكا سلميا تدريجيا كما كان يرى محمد عبده، وكلاهما كان يسترشد بما سبق وقال به الطهطاوي الذي كان يُعلي من حرية الفكر وفق الرؤية الليبرالية، كما تعرف عليها من الفرنسيين، وكلاهما يعوّل كثيرا على أهمية الإصلاح السياسي، من خلال نشر الفكر الديمقراطي وتطبيق النظم النيابية، لكن كليهما كان يقول بأهمية العلم كوسيلة لتحقيق النهضة، ليس في مصر فقط وإنما في كل الأقطار العربية، وهكذا انتشرت هذه الأفكار في بعض الأقطار العربية حينما ظهر شبل شميل في الشام، وراح يؤلف الكتب ويكتب في الصحافة، من قبيل مجلة المقتطف في الأول من مايو ١٨٧٦، وقد أحدثت ردود أفعال كبيرة في مختلف الأقطار العربية.
تباينت وسائل تحقيق النهضة العربية ما بين القائلين بضرورة الاعتماد على الدين، وما بين القائلين بضرورة الاعتماد على الفكر الليبرالي وخصوصا في شقه السياسي، لكن كليهما راح يُعلي من قيمة العقل، وضرورة الاعتماد عليه في كل ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والسياسية وتحرير الفكر من القيود وتجاوز فكر العامة الذين يرفضون حقائق العلم، ويعبر الأفغاني عن هذا قائلا: (العقل لا يوافق الجماهير، ولا يفهم حقائق العلم إلا نخبة من المتنورين والجماهير بطبيعتها تحب التحليق في الآفاق المظلمة التي لا قبل للعلماء برؤيتها وارتيادها)، ورغم كل هذه الاختلافات الفكرية لكن الاستعمار الغربي للعالم العربي كان بمثابة الشرارة التي انتقلت منها حركة التنوير، التي قادها نخبة من المفكرين العرب من خلال مشاركتهم في الحياة العامة والكتابة في الصحافة، وجميعهم لم يجدوا في الدين عائقا لتحقيق النهضة ونشر ثقافة التنوير، باستثناء بعض المسيحيين في الشام من قبيل أديب إسحاق وشبل شميل، حيث لم تحظ كتاباتهم بقبول من معظم المثقفين العرب، وهكذا شاعت كتابات الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وخيري الدين التونسي وعبد الله النديم وقاسم أمين. كانت أفكار رفاعة الطهطاوي بمثابة الشرارة التي امتدت إلى نهاية القرن التاسع عشر، بعد أن وجدت صداها في كتابات الكثيرين من المفكرين الشوام الذين وفدوا على مصر بعد تعرضهم لمذابح ١٨٦٠م، كان من بينهم يعقوب صروف وفارس نمر، حينما أنشآ مجلة المقتطف ١٨٧٦-١٩٥٢، وقد عُنيت بنشر المعارف العلمية، كما ظهر فرح أنطون الذي انبهر بفكر ابن رشد، وتبعه شبل شميل الذي استغرق في دراسة نظرية التطور لدارون، كما ظهر يعقوب صنوع الذي يعد أول من رفع شعار القومية العربية، وجميعهم قالوا بضرورة إعمال العقل وعدم التفرقة بين المواطنين على أساس الدين، كما أعلوا من قيم العقل، يستوي في ذلك ما قال به الطهطاوي في (روضة المدارس) أو مجلة (الجنان) التي أصدرها بطرس البستاني في بيروت ١٨٧٠، أو (النحلة) التي أصدرها لويس صابونجي، وجميعها كان لها تأثير عظيم على العقل العربي، لذا تقدم التيار العقلاني لكي يكون قائدا نحو التنوير، ويعد رفاعة رافع الطهطاوي الأب المؤسس لكل هذه التيارات حتى نهاية القرن التاسع عشر، وربما إلى منتصف القرن العشرين.
نحن في حاجة إلى أن نعتصم بالعلم، ونُعلي من قيم العقل، وأن يكون هو الحكم على كل ما يطرأ على حياتنا من قضايا فكرية واجتماعية أو حتى سياسية، لكي يكون العقل مرشدنا إلى المصلحة، مصلحة الأوطان ومصلحة المجتمع.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري