بضع سنين رأى فيها الفتى الموجودات المحدودة، فى مسقط رأسه بعزبة الكيلو فى المنيا، قبل أن ينطفئ نور عينيه للأبد، ويضرب القدر من حوله سوراً من العتمة، بضع سنين لم تكن كافية لاكتناز النور، فما بالكم بإشعاله؟! مشوار طويل لم يكن مُعبّداً، خاضه وسار فيه «طه حسين» على الأشواك، ليصل إلى ما وصل إليه من مكانة رفيعة.

«ضوء عينيك أم هما نجمتان.. كلهم لا يرى.. وأنت ترانى.. ضوء عينيك أم حوار المرايا.. أم هما طائران يحترقان.. ارم نظارتيك ما أنت أعمى.. إنما نحن جوقة العميان»، هكذا رثى الشاعر نزار قبانى الدكتور طه حسين بعد وفاته عام 1973.

يأبى «الفتى» الاستسلام لمحبسه، فها هو يلقى السمع إلى المتاح من الحكايات الشعبية والأشعار فى قريته، ويكمل ليله مُؤرقاً بـ«الخيالات» التى لم يُطلع عليها رفاقه فى الكُتاب، قبل أن يلتحق بالأزهر، الذى تضيق نفسه بمحدودية العلوم فيه، فتنصرف ثائرة على جمود الدروس، مدفوعة بحب المغامرة إلى الالتحاق بالجامعة للحصول على علومها، فيكون أول المنتسبين إلى الجامعة الوليدة فى 1908، ثم أول الحاصلين على درجة الدكتوراه منها.

تتوسم فيه الجامعة الجدية، فتبتعثه إلى فرنسا لينهل معارف جديدة من بلاد النور، وهناك يجد ويجتهد فى تحصيل أكبر قدر من العلوم، ويلتقى رفيقة الدرب «سوزان» زوجته فيما بعد، ويستكمل إشباع حاجاته «فحاجة من ذاق المعرفة أشد الحاجات إلحاحاً وأعظمها إغراء بالتزيد منها والإمعان فيها» يحصل طه حسين على الدكتوراه من فرنسا، ليعود بعدها إلى مصر مسلحاً بمنهج علمى للتجديد، ويُعين أستاذاً فى الجامعة المصرية.

يبدأ «العميد» فصلاً جديداً من مسيرته فى الكفاح، ليس مع آفته هذه المرة، وإنما مع آفات المغرضين، إذ تصل الخلافات إلى ذروتها بعد نشر كتابه «فى الشعر الجاهلى» عام 1926، حتى خضع للمحاكمة بسببه، بما طرحه خلاله من منهج، إذ بدأ طه حسين فى إرساء مشروعه الفكرى من دون نفى للقديم، لتبدأ سلسلة من المعارك الفكرية تتوالى فى أعقاب «فى الشعر الجاهلى» وهى المعركة التى لم تحسم إلى يومنا هذا، عايش خلالها الرجل النبيل سنوات من النضال والمعاناة، داخل الجامعة التى أقيل من عمادتها فى 1932، فأطلقت عليه الصحافة عن استحقاق لقب عميد الأدب العربى، دون اعتراض من أحد.

إقالته من الجامعة لم تثنه عن مواصلة نضاله النبيل، لتنتقل المعركة إلى صفحات الصحافة، وينشر العديد من المقالات التى يوضح فيها منهجه التنويرى، قبل أن يعود محمولاً على الأعناق إلى الجامعة حيث مكانه العزيز فى 1934. أدوار متعددة اضطلع بها الدكتور طه حسين فى الجامعة وفى وزارة المعارف، بعد تعيينه وزيراً للمعارف فى 1950، وهى المرحلة التى شهدت تحولات كبرى فى تاريخ هذا البلد، إذ حمل على أكتافه قضية نشر التعليم لعلاج آفة الجهل فى المجتمع، وصك شعاره «التعليم كالماء والهواء» الذى ظل يردده حتى أطلق عليه أصحاب المصالح «وزير الماء والهواء» دون أن يأبه بهم، وبذل فى هذه الفترة جهوداً جليلة لبناء المدارس فى الأقاليم من أجل نشر المعرفة والعلم.

مسيرة كفاح امتدت لـ84 عاماً هى سنين عمر صاحبنا، وبعد نصف قرن على رحيله، ما زالت آثار العميد وإرثه حاضرة فى مختلف جوانب حياتنا، فهو صاحب مشروع فكرى ومنجز حضارى يستعصى على المبصرين.. ولا يسعنا فى هذا اليوم وتلك الذكرى عبر صفحات «الوطن» إلا أن ننحى إجلالاً وتقديراً لصنيع طه حسين، صانع النور، وأحد أنبل من أنجبتهم مصر.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: طه حسين الهجرة الجماعية طه حسین

إقرأ أيضاً:

الزناتي: جمال سليمان علامة مضيئة في الفن العربي ونموذجاً مشرفاً للفنان المثقف الواعي

أعرب حسين الزناتى وكيل نقابة الصحفيين رئيس لجنة الشئون العربية والخارجية بالنقابة عن تقديره الشديد للتاريخ الفنى للفنان جمال سليمان، والذى يعد نموذجاً مشرفاً للفنان العربى المثقف الواعى الذى لايعمل إلا فى إطار رسالة تمنح المتلقى نموذجاً إيجابياً عن دور الفن والفنان المحترف القادر على أداء الأدوار مهما تنوعت بأداء عال، ومقدرة مميزة . 

وأشار الزناتى فى بداية اللقاء الذى أعدته لجنة الشئون العربية للفنان جمال سليمان ، اليوم السبت بنقابة الصحفيين  فى حوار مفتوح معه إلى أن هذه التجربة الحيايتة لسليمان، جعلته يمتلك أدوات الكثير من الشخصيات الحية، الموجود على الأرض ، التى عاش بينها، فلم تكن حياته مرفهة، بل عايش أبناء الشعب من الطبقة المتوسطة، والأقل حيث ولد في حي باب سريجة بالعاصمة دمشق لعائلة مكونة من تسعة أشقاء، وعمل في طفولته بأكثر من مهنة من بينها الحدادة والنجارة والديكور والطباعة وهو في سن صغير بناءاً على طلب والده، اعتقاداً منه بأن العمل سيجعله رجلاً، وفي سن الرابعة عشرة اتجهت ميوله نحو المسرح ومارس العمل فيه كممثل هاوٍ، ثم انتسب إلى نقابة الفنانيين السوريين عام 1981.
وأكد الزناتى أن هذه التجربة أثرت فى شخصية وحياة جمال سليمان فيما بعد ليكون أكثر اقتراباً من الجمهور، منذ أن بدأ مشواره عام 1974 واشترك مع فرقة من الممثلين الهواة التى  تدعى (فرقة شباب القنيطرة) وعمل بها وشارك في مهرجان مسرح الهواة المسرحية ثلاث دورات في مهرجان مسرح الهواة الذي كانت تقيمه وزارة الثقافة السورية في السبعينات، ودخل المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق وتخرج من المعهد وفى عام 1985 بدأ أولى تجاربه على خشبة المسرح في مسرحية (عزيزى مارات المسكين) 
وبسبب تفوقه الدراسي أرسل في منحة دراسية إلى بريطانيا لمتابعة دراسة هناك نال على الماجستير في الدراسات المسرحية قسم الإخراج المسرحي من جامعة ليدز عام 1988، ثم عاد للعمل كأستاذ لمادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية وكممثل محترف في السينما والتلفزيون ولعب الشخصية الرئيسية في عدد كبير من الأعمال التلفزيونية، التي شكل بعض منها علامات فارقة في رحلة الدراما السورية، غير أفلامه السينمائية، حتى بعد قدومه إلى مصر التى مثلت محطة جديدة مهمة فى تاريخه التمثيلى تألق فيها بشكل غير عادى.
وكانت له أنشطته الانسانية التى جعلته سفيراً  لصندوق الأمم المتحدة للسكان، وبعدها كانت له آراءه السياسية، التى دفع ثمنها لكنه بقى مصراً عليها ، إيماناً بفكرته واعتقاده.

مقالات مشابهة

  • كيف اختزلت حادثة ماغديبورغ مدى الاحتقان الطائفي والعرقي والسياسي الذي ينخر في جسد الوطن العربي؟
  • من الدوحة.. منظمة المجتمع العلمي العربي تحتفي بدور العلم لمواجهة الكوارث
  • صناع الأمل تسجل إقبالاً كبيراً من مختلف أنحاء الوطن العربي
  • الزناتي: جمال سليمان علامة مضيئة في الفن العربي ونموذجاً مشرفاً للفنان المثقف الواعي
  • مبادرة سعودية لدعم صناع المحتوى في الوطن العربي بـ 100 مليون ريال
  • تفاصيل جلسة جروس "العاجلة" مع حسين لبيب
  • سوريا.. حنين لا يغادر محبيها
  • الإتحاد العربي يشيد بمؤسسات الدولة في نجاح الملتقى السابع للإستثمار الرياضي
  • الاتحاد العربي يشيد بمؤسسات الدولة في نجاح الملتقى السابع للاستثمار الرياضي
  • السكرتير العام المساعد بأسوان يستمع لمطالب أهالى قرى جرف حسين وبشاير الخير