من الجزائر سابقا إلى فلسطين لاحقا.. قصة مقاومة الشعوب للاحتلال واحدة (1من2)
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين.. بدءا من معركة بدر وأحد والأحزاب والقدس وحطين في الأولين إلى الأوراس وكابول وغزة العزة في الآخرين.. ولن يتوقف جهاد الدفع مادام قانون الوحوش المسلحة بحق الفيتو الظالم هو المنطق المطبق تحديدا على المسلمين!؟
ولكن سنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وإن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل هذا الخلل في المعايير والدمار المبين.
وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني / نوفمبر 1954 وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا بدايتها ولا نعرف نهايتها... نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين.. وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين..
وفيما نستعرضه بهذه المناسبة من بعض فصول هذا الكتاب الصادر في الذكرى العشرين لاستقلال الجزائر (أي قبل 41 سنة) ومما يعطي المصداقية لمحتواه ويزيده توثيقا هو التقديم له من أحد قادة الثورة الجزائرية الكبار وعميد عقدائها السعيد محمدي المكنى (بسي ناصر) أول وزير للمجاهدين في حكومة الاستقلال ونائب رئيس الجمهورية حتى انقلاب 19 يونيو 1965 الذي نتجت عنه كل الحكومات المتداولة على الدولة الجزائرية حتى الآن.
يستعد الجزائريون هذه الأيام إذن دولة وشعبا لإحياء الذكرى السنوية لثورة الفاتح من تشرين الثاني / نوفمبر، التي أنهت احتلالا استييطانيا بغيضا جثا على قلب شعب في أمة كادت أن تصبح أندلسا ثانية في تاريخ المسلمين لولا همم الرجال المخلصين الذين كافحوا بالمستطاع وضحوا بأغلى ما بملكون قرابة قرن ونصف، وخلف كفاحهم الملايين من الشهداء الأبرياء من خيرة أبناء الأمة الأوفياء كما تشهد عليهم جماجمهم المعروضة في متاحف الأعداء المتحالفين والمتوارثين للاغتصاب والظلم والاستلاب خلفا عن سلف !!
وتأتي ذكرى هذا العام كما قلنا مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته..
لقد عايشت الثورة الجزائرية، كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش التحرير حتى توقيف القتال وتقرير المصير وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة والمؤلمة بورودها وأشواكها وأفراحها بانتصاراتها واقراحها بالإحباطات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين..
ومن مميزاتها أن يوم الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يدل على أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما هو واقع الحال وأنه لا يوجد استقلال دائم ولا احتلال دائم ولكن توجد خيانة مستمرة ويوجد وعي دائم و جهاد قائم وإن ذهب الجهاد (بأوسع معانيه الفقهية والنفسية والسلمية والحربية) جاء الرقاد وعم الفساد وضاعت البلاد.
ولذا رأيت أنه من المناسب أن أعيد النظر في ذاكرة الثورة الجزائرية، وسيرتها، وأهم المحطات التي قطعتها وصولا إلى التحرير والاستقلال، على ما هو عليه من عدم الاكتمال مقارنة بضخامة التضحيات بالنسبة للشعوب الأخرى الشقيقة والصديقة..
لقد أصدرت الطبعة الأولى من كتاب "جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا"، كما قلت في عام 1982، وأعدت طباعته عدة مرات واليوم مع تطورات الثورة الفلسطينية المعاصرة، وخصوصا في حلقتها الأخيرة "طوفان الأقصى"، أرى أنه من المناسب إعادة فتح دفاتر أختها الكبرى الثورة الجزائرية، للاستئناس بحقائقها كرا وفرا انتصارا وإخفاقا لأن العدو واحد وإن تعددت أسماؤه وصفاته بين الفاعلين الحقيقين ونواب الفاعل الموسميين المحليين لأن الزمان إذا كان غير الزمان كما أسلفنا فإن الإنسان (بخيره وشره وأمانته وخيانته) هو الإنسان.
الشعوب بتاريخها
إن شعبا بدون تاريخ هو شعب فاقد للذاكرة، يعيش على هامش التاريخ كالنباتات الطفيلية العارضة التي تنبت في رمال الصحاري دون جذور ضاربة في الأرض، فتظل معرضة للزوال في كل حين، دون أن تترك أثرا يذكّر الأحياء بها في الوجود..
على أن الفرق بين عالم البشر وعالم الشجر يكمن في أن الأول هو الذي يقوي جذوره ويمدها طواعية ويحافظ عليها بإرادته الواعية، بينما الثاني تبقيه جذوره القوية الممتدة في أعماق الأرض وتحافظ عليه في مواجهة الهزات العنيفة التي تعصف بكيانه على مر الفصول وتبدل الأحوال الجوية المتقلبة.!!
وعليه فإن التاريخ ليس بضاعة تستورد مثل المواد الاستهلاكية، وإنما هو فيض غزير متجدد الأخذ والعطاء تصنعه الأمم والشعوب خلفا عن سلف، لتجدد به كيانها كتجدد الهواء النقي في رئتي الكائن الحي من أبنائها.
إن شعبا بدون تاريخ هو شعب فاقد للذاكرة، يعيش على هامش التاريخ كالنباتات الطفيلية العارضة التي تنبت في رمال الصحاري دون جذور ضاربة في الأرض، فتظل معرضة للزوال في كل حين، دون أن تترك أثرا يذكّر الأحياء بها في الوجود..ومن هنا وجدنا الشعوب الواعية تعتني بتاريخها كاعتنائها بمقومات وجودها المادي، فتقويه وتضيف إليه أمجادا على أمجاد ليظل عملاقا يتزايد ضخامة وعمقا جيلا بعد جيل... على اعتبار أنه هو الوجود المعنوي الخلاق للشعوب، ومبعث العزة لديها والفخار، ومصنع الرجال الذين يواصلون عملية المد الحضاري لضمان الاستمرارية الفعالة لهذا التاريخ، لأن أجيال الأخلاف إذا توقفت عن صنع التاريخ الذي بدأه الأسلاف والسير به في الاتجاه الأقوى والأسلم فإنها ستتحول إلى أجيال مستهلكة للتاريخ، والشيء المستهلك معرض حتما للنفاد والزوال..
وفي هذا يقول الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي "إنّ كلّ جزائري يحمل هذا التاريخ في أعماقه، إذ أنه هو الذي مكننا من أن نفلت من المصير الذي آل إليه الهنود الحمر في أمريكا والسكان الأصليون في استراليا. وهو الذي سيظل أفضل ضمانة لدوام أمتنا. ونحن إذا ما اضطلعنا به أحسن اضطلاع، سيكون بدوره في عوننا من أجل الحفاظ على مستقبلنا".
ويقول الكاتب والمؤرخ الجزائري رمضان حمود: "إن التاريخ محيي الأمم، ولكنها إن شربته في كأس غيرها قتلها" وهو ما يؤكده الرئيس هواري بومدين أيضا إذ يقول: "إنّ الشعب الذي ينسى تاريخه غير جدير بالاحترام، لأنه بسلوكه هذا يدخل في نفق محو الذاكرة، ويعرّض نفسه بالتالي لأخطار جسيمة".
وعن أهمية هذا التاريخ الذي نؤكد على التذكير به واستحضاره، في كل حين لأخذ العبرة وشحذ همم الناشئة قصد ربط حاضر الخلف بأمجاد السلف، وهو ما نتوخاه من هذا الكتاب، يقول الكاتب والمؤرخ الجزائري محمد الهادي الحسني: "إن أعداءنا يريدون الثأر لهزيمتهم النكراء بأن يضربوا بكل وسيلة سورا من النسيان بيننا وبين أمجادنا، فننسى هذا التاريخ وأبطاله، ونشك فيه وفيهم، وإن أعداءنا يعرفون أننا ما غلبناهم إلا بعقيدتنا الإسلامية ووحدتنا الوطنية، ولذا فهم لا يألون جهدا في محو هذه العقيدة وتمزيق هذه الوحدة، فإن مكناهم من ذلك فقد خنّا أمانة المجاهدين والشهداء" .
وإن هذا التاريخ الذي لا ينبغي أن ننساه أبدا، كما يقول هذا المؤرخ هو ما يعترف به الأعداء أنفسهم من جرائم في حق الشعب الجزائري حيث يقول "أليكسيس دي طوكفيل" (Alexis de Tocqueville) في كتابه "دِراسة عن الجزائر" "Travail sur l'Agérie" الذي يدافع فيه عن الشناعة والمجازر التي قام بها جيش دولته "المتحضرة" إثر غزوها للجزائر سنة 1830 واصفا ذلك بقوله: "لقد سمعت مرّات عديدة في فرنسا أناسًا أحترمهم ولا أوافقهم، يستنكرون إحراق المحاصيد وإفراغ المطامير والاستيلاء على رجال بدون سلاح وعلى نساء وعلى أطفال؛ لكنّ هذه الأعمال ضروريّة لأيّ شعب يريد محاربة العرب... إنّ قانون الحرب يرخّص لنا تدمير البلد...".
كما يقول صنوه في التنظير للاحتلال "لوسيان فرانسوا دي مونطانياك" (Lieutenant-colonel François de Montagnac) في كتابه "رسائل عسكريّ في الجزائر من 1837 ـ 1845" ( Lettres d’un soldat-Algérie 1837 -1845 ) "(( لقد صرّح المارشال "بيجو" أمام الضّبّاط المجتمعين "إنّ الحرب الّتي نشنّها ليست حربًا بالبنادق فقط، ولن نستطيع أن نتغلّب نهائيًّا على العرب، إلاّ عندما ننتزع منهم الموارد الّتي يمنحهم إيّاها التّراب"؛ كما قال هذا السفاح أيضا قبل قتله في معركة سيدي براهيم سنة 1847 في رسالة لأحد أصدقائه قائلا "هكذا، يا صَديقي، ينبغي أن تُقام ا لحرب ضدّ العرب: يجب قتل كلّ ذكَر عمره أكثر من 15 سنة والقبض على كلّ النّساء وكلّ الأطفال ونقلهم على متن سفن إلى جُزُر "ماركيز" (îles Marquises) أو إلى أماكن أخرى؛ بكلمة واحدة يجب قتل كلّ من لا يركع أمام أرجُلنا مثل الكلاب".
ويفتخر المارشال "سانت أرنو" (Saint-Arnaud) كذلك بأنّه ترك في مروره عبر بلاد القبائل "حريقًا واسعًا بحيث أُحرِقت كلّ القرى (وعددها 200 تقريبًا): أحرِقت حدائقها وَقُطِعت أشجار الزّيتون فيها" .
وهو ما طبقه "بيليسي دي رينو" (Pélissier de Reynaud) الّذي ذكر أنّ كثيرًا من الفرسان كانوا حاملين لرُؤوس الموتى في أطراف رِماحهم ..
كما يروي سانت أرنو في رسالة مؤرّخة في 13 أكتوبر 1837، بأنّ الحرب التي وقعت ضد سكان قسنطينة عند احتلالها سنة 1837 لم تترك شخصًا حيًّا ولم تُبقِ على أسير .
وبتلك الروح الإجرامية ذاتها تمّ تقتيل قبيلة أولاد رِياح في جبال الظّهرة (شرق مدينة مستغانم). حيث أوى السُّكّان إلى مغارات خوفًا من وحشيّة جيوش العقيد «جان جاك بيليسيي» (Jean-Jacques Pélissier) إلاّ أنّ هذا الأخير أمر بإشعال النّار في كلّ مخارج المغارة حتىّ مات بالاختناق ألف شخص (رجالاً ونساءً وأطفالاً) .
ويجدر بالذكر أن حكومة باريس لم تعاقب هذا السفاح بل رَقَّته إلى منصب سفير في بريطانيا العظمى، ثمّ إلى حاكم عامّ للجزائر (من سنة 1861 إلى سنة 1864).
وكمـا يقول "دي مونطانياك" يوم 20 ديسمبر 1844: "إنّ رأس عربي مقطوع له تأثير أكثر من موت خمسين شخصًا؛ ولقد فهمت هذا منذ زمان ولذلك كان من النادر أن يفلت أحد من يدي" .
ويذكر "موريس هيريسون" (Maurice Hérisson) أن: "آذان العرب كانت قيمة، كلّ زَوج منها تساوي عشرة فرنكات؛ أمّا النّساء فإنّهنّ بقين صيدًا مفضَّلاً" .
ويفّصل "دي مونطانياك" (de Montagnac) هذا الموضوع الحساس المتعلق بانتهاك أعراضنا فيقول: "البعض من النّساء يبقى كرهائن والبَعض يُبَدّل بهنّ أحصنة والبَعض الآخر يُباع بالمُزايدة مثل الحيوانات"، ولم يكتف قادة الغزو بانتهاك حرمات الأحياء من الأحرار في الجزائر بل لاحقوهم حتّى في المقابر حيث كانت عظامهم تحرَق ليصنع منها فحم العظام أو كانت تستعمل لتصفية السُّكَّر".
هذا نموذج من مفاخر "التحضر الفرنسي" بأنواره الأوروبية لعقول وكهوف بلداننا العربية والإسلامية، نذكر هذا للتذكير بالتاريخ (ذاكرة الشعوب حتى لا تنسى) مع اعتقادنا أن التاريخ الحقيقي المنشود والمفصل للاحتلال عامة وللثورة بصفة خاصة لم يحن بعد أوانه ويتعين أن تتظافر جهود عدة أطراف في إنجازه... فيجمع مادته صانعوه (من الأحياء) والباحثون النزهاء، ويدقق تلك المعطيات الخبراء والمحققون، ويحررها الكتّاب المتخصّصون ويراجعها المؤرخون الأكاديميون المعتمدون، ويقرّها السياسيون المنتخبون...
وإننا إذا نظرنا إلى هذه العناصر جميعها فلا نجدها متوفرة بالقدر الكافي، في واقعنا الراهن، مما حال ويحول دون كتابة تاريخ للثورة، يتسم بقدر من النزاهة والموضوعية والشمولية والمصداقية والثبات، بما يحصنّه من عمليات "الإصلاح" وإعادة "الهيكلة" مع كل عهدة رئاسية في هذا الوطن، على غرار «تعديل» الدساتير حسب المقاس و"إصلاح" المنظومات التربوية والقضائية حسب مزاج كل من تضعه الأقدار في موضع صانع القرار !!
وفضلا عن ذلك، فإن هناك أسبابا أخرى تتفاوت في الأهمية ما تزال تحول دون تحقيق هذا الهدف، يمكن أن نجملها فيما يلي:
1 ـ إن كتابة تاريخ ثورة شعبية عارمة في حجم وعمق واتساع وإشعاع الثورة الجزائرية هو موضوع في غاية الحساسية، لكون ميدانه مرتبطا بأحداث صنعها أشخاص ما زال العديد منهم على قيد الحياة، بعضهم أحرار يحكمون، وبعضهم "محكومون" ينتظرون!!
2 ـ انعدام الموضوعية العلمية والشجاعة الأدبية اللاّزمة لدى بعض الكتاب الذين قد يوكل إليهم «تأليف» هذا التاريخ الوطني الذي يجب أن يؤرّخ لثورة شعب ووطن، وليس لبطولات وزعامات "أفراد" أو "جهات" هنا اوهناك ؟!
3 ـ انعدام الحرية والحصانة القانونية التي تحمي الباحثين الأكفاء والكتّاب النزهاء من بطش "الأبطال" المزيّفين، في ظل غياب القانون، الذي خلق ظاهرة "كتّاب" منحازين لغير الحقيقة، وبالتالي مزوّرين للتاريخ، على غرار ظاهرة "القضاة" المزورين لشهادات ووثائق العضوية في الثورة التحريرية...!! فمن يدافع عن التاريخ وينصفه إذا كان الخصم هو الحكم في الوقت ذاته؟!
4 ـ إن تاريخ أية ثورة مهما يكن ناصعا ومشرقا في مجمله لابد أن تشوبه شوائب وتتخلّله بعض السلبيات والمثالب، سواء كانت ذاتية بسبب النزوات البشرية لبعض الزعامات، أو كانت موضوعية بسبب اجتهادات خاطئة لبعض القادة عن إخلاص وحسن نية، أو من باب اختيار أخفّ الضررين لصالح انتصار الثورة ووحدة الوطن...
فهذه النماذج من الحالات كلّها عرفتها سنوات الجمر على امتدادها في الداخل والخارج، عبر مختلف مراحلها وتطوراتها، قصد التكيّف -كرا وفرّا ـ مع مخططات العدو الذي ما فتئ يمارس ضد الثورة ورجالها المخلصين كل أنواع الغدر والتشكيك والخداع والتلغيم الذي ما زال حتى هذه اللحظة يتغذى بعض شبابنا من ثماره المسمومة القاتلة للروح قبل الجسد!!
إن تاريخ أية ثورة مهما يكن ناصعا ومشرقا في مجمله لابد أن تشوبه شوائب وتتخلّله بعض السلبيات والمثالب، سواء كانت ذاتية بسبب النزوات البشرية لبعض الزعامات، أو كانت موضوعية بسبب اجتهادات خاطئة لبعض القادة عن إخلاص وحسن نية، أو من باب اختيار أخفّ الضررين لصالح انتصار الثورة ووحدة الوطن...ولذلك فإنني أعتقد أن هذا التاريخ التفصيلي والكامل للثورة غير ممكن الخوض فيه في الوقت الحاضر للأسباب المذكورة، وعلى الرغم من أن الأعداء يوجهون الاهتمام إليه، وقد بدأوا فيه بالفعل، ويشهد على ذلك مئات الكتب التي حبّروها على الضفة الأخرى (و التي بلغت حتى الآن أكثر من ألفي كتاب ) وصدّروها لنا بلسانهم (شكلا ومضمونا) لتشكيكنا في أمجادنا وتسوية مجرميهم بضحايانا وإجهاض نشوتنا بانتصارنا، ولكننا في المقابل نجد الأعداء على العكس من ذلك يريدون أن ننسى القيم والمبادئ ونتذكر الاستثناءات ونغرق في متاهاتها، ونحن على العكس من ذلك وبمنطق نوفمبر ذاته نريد من خلال هذا الكتاب أن نؤجل الاستثناءات، ونركّز على القيم والمبادئ الظاهرة الواضحة التي أتت أكلها، تاركين التفصيل للباحثين والمؤرخين المعنيين!.
ولعلّه من حسن حظ الوطن والتاريخ في الوقت ذاته أن من خصائص ومميزات ثورة جهاد الجزائر الفريدة من نوعها والعظيمة في حجمها والنادرة في عمقها... أنها أنجبت من أبنائها وقود لهيبها وصانعي أمجادها وكاتبي ومسجلي جوانب من تاريخها في عصر الصوت والصورة الصادقة ممن جمع بين شرف البطولة والإنجاز المادي والمعنوي العيني في الميدان، وفضيلة الوعي والإرادة والهمة والصدق والمعرفة لإتمام المهمة والحرص على الشهادة والتوثيق لهذه الملاحم في سجل التاريخ العلمي والقانوني والتنظيمي للأمة والثورة والوطن.
ونعترف أن هذا لم يتم من المعنيين بالأمر كما ينبغي، سواء كان ذلك عن تقصير منهم أو قصور، أو الاتكال على شهادات الأعداء أنفسهم فيما يتاجرون به من أفلام ومجلات متخصصة وندوات (وطنية)، وجهوية، وقارية، والاكتفاء بترديد ما تبلغه هذه الأجهزة والمؤسسات بلغتها الخاصة، وقراءتها الخاصة عن مفاخر أمجادها وليس عن أمجاد ومفاخر غيرها بطبيعة الحال... وخاصة إذا كان هذا الغير هو نحن الذين ما تزال تعتبرنا فرنسا في قرارة نفسها وأحلام نومها ويقظتها تابعين لها، كما عبر عن هذا الشعور أحد رؤسائها الموتورين في أول زيارة رسمية له للجزائر المستقلة سنة 1974 م وهو (فاليري جيسكار ديستان) حيث قال في مذكراته ج2 /ص15 "ما كنت أتمنى التوجه إلى هذا البلد، ذلك لأنني لم أقتنع في قرارة نفسي بمغادرة الفرنسيين" هذا البلد الذي هزمها شعبه الأصيل شر هزيمة معنوية ومادية، وأخرجها من بعض الحقول لتحتفظ له بالكثير من الحقد والكره في النفوس والعقول!
وهو ما يتماشى مع ما صرّح به ميشال دوبري (رئيس وزراء فرنسا) في المجلس الوطني أمام أعضاء البرلمان يوم 20 مارس سنة 1962 (أي اليوم الثاني من الإعلان الرسمي عن توقيف الحرب الضروس التي بدأوها في الجزائر سنة 1830) فقال بالحرف الواحد: "إن التطورات في الأراضي المستعمرة تتطلب منا أن نواصل ـ بطرق جديدة ـ المهمة التي بدأنا ها منذ 132 سنة".
وأيا كان السبب المقدم من البعض لتبرير الإحجام عن تخليد المآثر والمفاخر وعدم تجريم مرتكبي المجازر في حق أبنائه، فإن شعبا مثل هذا الذي يتهاون في تخليد أمجاده أو يقبل بتمجيد مجازر أعدائه في أرضه وعرضه تحت مرمى ومسمع من بعض الحاكمين والمحكومين من أهله... فإنه سيعرض أمجاده ومكاسبه الحقيقية إلى خطر التزييف والتزوير، وقطع فيض الاستمرارية المنشودة، وفقدان عرى التواصل بين الآباء والأبناء، فضلا عن التواصل بين الأجداد والأحفاد!؟؟!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تاريخ الجزائر فلسطين فلسطين الجزائر تاريخ استعمار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة الجزائریة هذا التاریخ فی الوقت إذا کان من الن وهو ما
إقرأ أيضاً:
على من نطلق الرصاص
عنوان فيلم في سبعينات القرن الماضي وفيه رمزية.. رمزية العنوان أين تقع مسؤولية الجريمة وعلى من تقع؟
المجتمع مليء بالكيانات.. هل كلها مسؤولة عن الجريمة أم بعض منها؟
اليوم نتكلم عما يحدث في غزة.. من المسؤول عما آلت إليه الأمور؟ هل العدو الإسرائيلي وحده؟ ولو كان وحده لانتهت المعركة منذ زمن وعاد يجر أذيال الخيبة والعار كما حدث في المعارك السابقة القصيرة جدا مقارنه بهذه المرحلة؟
هل أمريكا والغرب هم المسؤولون عن هذا؟ بالتأكيد لهم يد طولى في استمرار الدعم اللا محدود للكيان سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا أو لوجيستيا..
هل العرب؟ طبعا العرب كحكومات قامت بما لم يحدث في التاريخ الحديث، التزمت الصمت تجاه مجزره تتم يوميا في إخوانهم وأهلهم في فلسطين.
حديث جل الحكومات العربية للاستهلاك المحلي: نشجب وندين ونرفض ونتعاطف، أما الحوار الحقيقي فيدل على موافقة أكيدة لمشروع إنهاء حماس والمقاومة الفلسطينية، والإعداد لمجتمع جديد خال من المقاومين..
وماذا عن الشعوب العربية؟ هل تتحرك؟ للأسف لا، وكأنها أصابها شلل فلا نجد مظاهرات إلا في الغرب ولا نجد اعتصامات ولا أي مظهر من مظاهر الاستنكار لما يحدث في فلسطين أو في غزة. وهذا شيء يدعو للتساؤل: أين أنتم؟ هل الحكام كبّلوكم وسيطروا عليكم تماما فأصبحتم لا قيمة لكم ولا تمثلون أي ضغط على حكوماتكم؟ هل أنتم اعتدتم المشاهد المؤلمة فلم تعودوا تتألمون؟ هل أهل غزة يستحقون فقط مصمصة الشفاه والحزن الداخلي على ما وصلوا من حال؟
هل أصابت الشعوب البلادة فلا هي مستعدة لاي تضحية كما يضحي الفلسطينيون بأنفسهم؟ ولأجل من؟ لأجل أمتهم التي نامت، ويوم ينتهي العدو من أهل غزة سيدور عليكم إن آجلا أو عاجلا. هل أنتم مستعدون؟
وماذا عن الجماعات الإسلامية؟ هل أنتم تدركون أن حماس تُقتل لأنها تنتمي اليكم ونأ المقصود هو أنتم بالأساس؟ هل أصبحت الجماعات الإسلامية براجماتية أو جماعات مصالح لا تستطيع أن تحرك الشعوب؟ هل أصابها الوهن كما أصاب الشعوب؟
قال رسول الله صل الله عليه وسلم، ما رواه ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" (رواه أحمد).
هل الكيانات المعارضة في الدول العربية هي كيانات كرتونيه لا تقدم ولا تؤخر فلا فائدة منها؟ هل المنظمات الدولية ظهرت على حقيقتها وأنها لم تنشأ للدفاع عن الشعوب الفقيرة أو البلاد المستعمَرة والضعيفة، ولكنها في حقيقتها ادوات للقوي الكبري تستخدمها فقط حين الحاجة، فتستصدر قرارات مثلا لصالح أوكرانيا ضد روسيا ولا تفعل شيئا للشعب العربي الفلسطيني؟
من المسؤول عن تردي الأوضاع العالمية والتي تنبئ بمزيد من الانحدار وإشعال حروب أخرى، أو استمرار ما يحث في فلسطين وبعدها لبنان وبعدها إذا لم يستطيع أحد أن يوقف الإجرام الصهيوني نجد أنفسنا أمام دولة محتلة من النيل إلى الفرات؟
أما آن أن تتحمل كل جهة مسؤوليتها المنوطة بها فتدافع عن الحق والعدل ويدافع الحكام عن أوطانهم وتكون الجيوش مستعدة لمواجهه أي عدو للأمة العربية، تدافع عن أهلها وتمنع المستعمر أن يزيد في استعماره بل وتسعى لطرده من فلسطين وأن وتمنع من يساعد الظالم في ظلمه؟
ويجب أن تفيق الشعوب والجماعات وتصبح قوى فاعله وأدوات ضغط مؤثرة على الحكومات وعلى المجتمعات الإقليمية والدولية، وأن تدعو إلى النفير العام إنقاذا للمسجد الأقصى.
وعلى المنظمات الدولية أن تطهر لوائحها فيكون الناس سواسية كأسنان المشط في نظر القانون العادل الذي لا يحابي أحدا ولا يفرق بين أحد.
هل يمكن أن يحدث كل ذلك في وقت وجيز ينقذ غزة وفلسطين ولبنان والسودان؟