السومرية نيوز – فن وثقافة

عند الحديث عن أبرز الشعراء والفنانين الذين غنوا للقضية الفلسطينية، وسخّروا قلمهم وصوتهم من أجل تحفيز الشعب الفلسطيني على مواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، نجد أن إبراهيم محمد صالح، المعروف فنياً بلقب أبو عرب، هو أول من يتبادر إلى الأذهان.
إذ إن هذا الفنان، ابن قرية الشجرة، كان يعتبر رمزاً من رموز الثورة الفلسطينية، وذاكرة حية للتراث الفلسطيني، من خلال أشعاره وأغانيه التي قدمها على مدى 70 عاماً من عمره.



فقد كانت أغلب حفلاته تُقام في مخيمات اللاجئين خارج فلسطين، حيث كبر بعد أن نزح إليها وعائلته بعد النكبة سنة 1948، وقد قال عن نفسه: "أنا شاعر المخيمات الفلسطينية ومطربها".

أبو عرب.. وُلد بين الفن والثورة
وُلد الشاعر والفنان إبراهيم محمد صالح، أو "أبو عرب"، كما يعرفه الجمهور الفلسطيني، سنة 1913، في شمال فلسطين، بالضبط بين مدينتي طبرية والناصرة، وتحديداً في قرية الشجرة، التي لم يتجاوز عدد سكانها في ذلك الوقت 750 نسمة.

عشق أبو عرب الشعر والغناء الشعبي الفلسطيني، وذلك لأنه كان محاطاً بعائلة فنية جعلته يتشرب كل هذه الفنون على أصولها من الصغر.

فقد كان جده من أمه، وهو الشيخ علي الأحمد، أحد وجهاء قرية الشجرة، وكاتب شعر معروفاً، فيما كان عمه شاعراً شعبياً.
شهد أبو عرب انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 ضد الاحتلال البريطاني، وبداية الاستيطان اليهودي في فلسطين.

وقد كتب جده عن هذه الثورة عدة أشعار، كان يتم استخدامها من أجل الإشادة بالثورة، ولتشجيع مجاهديها، من أجل طرد المحتل البريطاني. مخيمات اللاجئين.. نقطة التحول
كانت نقطة تحول حياة إبراهيم محمد صالح سنة 1948، خلال فترة مقاومة أهل قريته اليهود الذين دخلوا من أجل احتلالها، كما الحال مع الكثير من مدن وقرى فلسطين، التي تُقام عليها أراضي دولة الاحتلال بعد النكبة.

فبعد سقوط قرية الشجرة في يد اليهود، بعد أشهر من المقاومة، اضطره أبو عرب وأسرته الرحيل باتجاه الشمال، وبالضبط قرية كفر كنا، ليكونوا قريبين من والده الذي مكث في المستشفى الإنجليزي في الناصرة بعد إصابته بالرصاص في إحدى معارك الشجرة.

بعد وفاة والده، اضطر إبراهيم محمد صالح للتوجه إلى أحد مخيمات اللاجئين في لبنان، ثم توجه بعد ذلك رفقة عدة عائلات مهجرة إلى سوريا، حيث استقر في مخيم آخر في مدينة حمص.

ومن هناك كانت بدايته الحقيقية، حيث كان يثور بقلمه وصوته ضد الاحتلال وسط اللاجئين، من أجل زرع أمل العودة إلى الوطن في قلوبهم، فبدأ بالغناء في الأعراس رفقة جده وعمه، وقدم الأغاني التراثية والثورية، إلى الأخرى التي كان يكتبها وتعبر عن حنين اللاجئين الدائم إلى فلسطين.

نجم الأغاني الثورية الفلسطينية
زادت نجوميته في عام 1954 بعد أن أصبحت له أغان خاصة به مستوحاة من التراث الفلسطيني، لكنه شهد تطوراً كبيراً في مساره الغنائي سنة 1959، عندما تمت استضافته في إذاعة "صوت العرب" في القاهرة، حيث دعاه ركن فلسطين بالإذاعة إلى تقديم الأغاني الفلسطينية من خلالها.

وخلال ثورة 1965، أصبح أبو عرب الذي حمل هذا اللقب الفني بفضل أغانيه الثورية، شاعراً لكل هتافات هذه الثورة، ومطربها الأول.

أصدر في تلك الفترة عدداً من الأغاني المسجلة لمجموعة من أغانيه التي قام بتوزيعها أيضا مسخراً صوته وإمكاناته الفنية كلها لخدمة القضية الوطنية الفلسطينية.

كما أنه قام بتغيير مفردات بعض الأغاني التراثية القديمة، لتصبح متلائمة مع الثورة، وأعاد غناءها، مثل أغنية "يا ظريف الطول"، وهي من أغاني الأعراس التي تحولت على يده لأنشودة تتغنى بالفدائي الفلسطيني.

وقد أصبحت الأغنية تقول:

"يا ظريف الطول ويا رفيق السلاح

اروي أرضك دم جسمك والجراح

ما بنكل وما بنمل من الكفاح

ما بنموت إلا وقوف بعزنا…"

محطات مهمة في حياة أبو عرب
بعد هذه الثورة، أصبح أبو عرب مغني مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بعد أن أصبح ينتقل بين لبنان والأردن وسوريا، لإحياء حفلات غنائية هناك.

كما أنه أصبح مسؤولاً عن ركن الغناء الشعبي في إذاعة فلسطين في لبنان سنة 1978، وهناك أسس فرقته الغنائية الأولى، التي تحمل اسم "فرقة فلسطين للتراث الشعبي"، وذلك سنة 1980، وكانت مكونة من 14 عازفاً، وقد كانت الفرقة الغنائية الوحيدة في الوطن العربي التي تقدم أغاني للمقاتلين

لكنه في سنة 1982، تعرض وفرقته للحصار في لبنان، بسبب الحصار الإسرائيلي، وبعد أن تقرر خروجهم من البلاد توجّه إلى تونس، فيما عاد وحيداً إلى سوريا بعد ذلك.

بعد 5 سنوات من هذا الحدث، جاء أبو عرب خبر حزين آخر، وهو استشهاد أحد أقاربه، وهو فنان الكاريكاتير المعروف "ناجي العلي"، صاحب الرسمة الشهيرة حنظلة، الشيء الذي جعله يدخل في حالة حزن كبيرة، فقرر تغيير اسم فرقته إلى "فرقة ناجي العلي" تكريماً له.

وقد قدم أبو عرب عدداً كبيراً من الأشعار والأغاني الثورية الفلسطينية خلال مساره الغنائي، الذي وصل إلى 70 سنة، فاق عددها 300 أغنية، و28 شريط كاسيت.

ومن بين أشهر هذه الأغاني نجد: "من سجن عكا"، و"يا موج البحر"، و"هدي يا بحر هدي"، و"أغاني العتابا والمواويل"، و"يا شايلين النعش".

وكانت تمتاز هذه الأغاني بإدخاله كلمات فلسطينية محلية قديمة، وقال أبو عرب في أحد تصريحاته حول هذا الموضوع :"أشعر أنه يجب على الفلسطيني أن يعرف الفلسطيني الآخر من لهجته ومن كلامه، كي يحن عليه ويتعاون معه ويعطف عليه.. يجب أن تظل قلوبنا على بعض، متآزرين يسند أحدنا الآخر ويعينه".

ودع قرية الشجرة ثم رحل إلى مثواه الأخير
بعد أكثر من 64 سنة عن رحيله عن أرضه وبلده قسراً بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتمكن أبو عرب من معانقة فلسطين من جديد سنة 2012، خلال مشاركته في الملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني الخامس والسادس.

فقد تحققت أمنيته بزيارة قريته "الشجرة"، التي وُلد وعاش فيها طفولته، ومنها بدأت تتكون معالم شخصيته، ورسم خطوات حياته.

وبعد سنتين فقط من هذه الزيارة، وبسبب وضعه الصحي، توفي أبو عرب، في سوريا، وقد تم تشييع جثمانه في مخيم العائدين بحمص من مسجد الأمين بعد الصلاة عليه ووري الثرى في مقبرة المخيم.

وبالرغم من رحيله، إلا أن أغاني أبو عرب بقيت صامدة وخالدة أمام الاحتلال، إذ يتم ترديدها في كل مناسبة تستحق الانتفاضة والثورة في وجه العدو.

المصدر: السومرية العراقية

كلمات دلالية: إبراهیم محمد صالح مخیمات اللاجئین أبو عرب بعد أن من أجل

إقرأ أيضاً:

وفاة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات ورحيل هرم شعري ناطق

غيّب الموت أمس الأحد الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم بأحد مستشفيات مدينة الشيخ زايد غرب العاصمة المصرية القاهرة، عن عمر يناهز 85 عاما، بعد صراع مع المرض، وكتب عدد من الأدباء والمثقفين السودانيين ينعونه بنصوص تدخل ضمن أدب الرثاء الذي يُعد من أقدم وأهم الأغراض الأدبية في تاريخ النصوص العربية، فهو فن أدبي يعبّر فيه الكاتب عن حزنه وألمه لفقدان شخص عزيز، مستذكرا مناقب المرثي وخصاله الحميدة.

ويبقى أدب الرثاء العربي شاهدا على عمق المشاعر الإنسانية وقدرة الكلمة على تخليد الذكرى، فهو ليس مجرد تعبير عن الحزن، بل هو احتفاء بالحياة وتأمل في معانيها العميقة.

ومن أبرز من كتب في رثاء الشاعر الراحل محمد المكي إبراهيم الأكاديمي السوداني والكاتب وجدي كامل، والبروفيسور أحمد إبراهيم أبو شوك، فإلى المقالين الرثائيين:

رحيل هرم شعري ناطق ومفعم بالتجاوز
وجدي كامل

 

لم يكونا شاعرين كبيرين فقط، بل صديقين عزيزين جمعت بينهما صداقة ستينية قديمة عميقة، أقام فيها ود المكي قسطا من الزمن، وسكن أحيانا بدار آل عوض الجزولي.

ما بين (الأديب والقانوني السوداني المتوفى نهاية 2023) كمال الجزولي ومحمد المكي إبراهيم أكثر من توأمة، ورباط من صداقة متينة، وذكريات مشتركة، ومحبة مشتركة جمعتهما، وآمال عراض لمستقبل يستحقه هذا الشعب الأبي.

كانت، وحين يغيب محمد المكي في مهاجره المتعددة حسب الوظيفة الدبلوماسية والهجرة الأخيرة لبلاد العم سام تشتعل المراسلات، والاتصالات الهاتفية، وينتظر صديقه كمال قدومه على أحر من الجمر، وما أن يحط الرحال، حتى يقوم كمال بتعطيره على المجالس والجلسات، وينتقلان بعسل المؤانسة من مكان إلى مكان، وتتألق الخرطوم وبيوت المثقفين والفنانين.

الأديب والمحامي السوداني كمال الجزولي تُوفي بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (منتدى دال الثقافي، مواقع التواصل)

سعدت بأن كنت شاهدا على ذلك، وواحدا من أولئك الذين تشرفت بيوتهم بزيارتهما معا، بعد مشاهدة فيلمية مشتركة لفيلمي (جراح الحرية).
كانت تلك واحدة من مرات عديدة، استطعت التعرف فيها على الرجل السهل الممتنع، اللطيف، المبتسم، الهادئ، الدمث الخلق، والمعجون بالتواضع الجم، وحب الآخرين.

حزن محمد المكي أيما حزن على وفاة صديق عمره كمال الجزولي، وكانت زيارته للتعزية بالقاهرة بمجرد وصوله لها. ولكن وحسبما كان قد أسر لي الدكتور ابى كمال الجزولي قبل أيام، وكان العلم قد نما إلي أن شاعرنا قد تُوفي سريريا منذ دخوله مستشفى الفؤاد، بأن ود المكي كان وفي حزنه العميق على غياب صديقه بدا مشغولا في تلك الزيارة بالتعرف من ابى على تفاصيل تحضير جثمان الميت، ودفنه، والإجراءات المتبعة بالقاهرة لتلك الطقوس، وكأنه قد اختار الموت، وكأنه قد عاد ليموت في مكان أقرب لموطنه الذي أحب وعشق.

عاد ليموت ويشيّعه من عرف أفضاله الثقافية والإنسانية علينا بعد أن امتنع الوطن الممزق، المحترق هذه المرة عن الاستقبال، وحيث لم تكن هناك (أمته) التي تشتت في بقاع الأرض ونزحت، ولكن يحمد أن احتفظت بكثافة الوجود بقاهرة المعز.
كم كنت أتمنى أن أكون أحد المودعين لولا العوائق.

ها ذا أنا أشاهد الوجوه وقد تبللت بالدموع، وأسمع العويل، وبكاء من عرفوك.
ها ذا أنا أرى وداعا جليلا، ضخما يليق بمقامك وقامتك يا محمد المكي، يا من أسعدتنا بحياتك، ومساهماتك الشعرية المتميزة، المتفردة.

أقول باسمك وباسم صديقك وكل من رحل عنا في هذه الظروف القاهرة العصيبة سوف تتوقف الحرب، سينتصر الشعب، وسينكسر حائط السجن الرمزي الكبير الذي شيدته مؤسسات القهر والقمع التاريخية والمستحدثة، وستشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمنيا ومدنية.

ستبقى ذكراك خالدة فينا، وفي الأجيال القادمة، ولن تنقطع سقياك لقلوبنا ولذاكرتنا أبدا.

الوداع الوداع، ولا أجد في هذه اللحظات الحزينة أبلغ من مرثيتك لشيخك، وشيخ شعرائنا المحدثين محمد المهدي المجذوب في وداعك المهيب له شعرا عند الرحيل:
من جمالك في الموت
يتخذ الورد زينته
والمواسم حناءها
والعصافير تترك توقيعها في رمالك
برحيلك
ﺃﻇﻠﻤﺖ ﺑﻮﺍﺑﺔ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻔﺮﺍﺩﻳﺲ ﺃﺿﺄﻥ
ﺑﺮﺣﻴﻠﻚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺠﻤﺮ ﻋﻦ ﺻﻨﺪﻝ ﺍﻟﺸﻌﺮ
ﻳﻘﺘﺮﺏ ﺍﻟﻤﻮﺕ
ﻳﺴﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻊ
ﺗﻔﺘﻘﺪ ﺍﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ﺃﻇﻔﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﺮﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺩﻳﻌﺘﻬﺎ (ﻟﺆﻟﺆ ﺍﻟﺸﻌﺮ) ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ
ﻛﺎﻓﺮ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﺷﻌﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻃﻔﻮﻟﺘﻬﺎ
ﻭﺗﻌﻮﺩ إﻟﻴﻚ ﻃﻔﻮﻟﺘﻚ ﺍﻟﺬﺍﻫﺒﺔ

محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات
البروفيسور: أحمد إبراهيم أبوشوك

في تقديمه لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب، إطلالة في عشق الوطن (أم درمان مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2001)، كتب محمد المكي إبراهيم (1939- 2024) عن جيل العطاء الذي ينتسب إلي من خلال شخص زميل دراسته بجامعة الخرطوم وصديق عمره حسن أبشر الطيب قائلا: "ينتمي المؤلف إلى جيل الستينيات في السودان، هو جيل يجمع إلى الريادة الإبداعية المواكبة المستمرة والتجويد المتفوق والاطلاع الغزير… وهذا السفر الذي بين يدي القارئ الآن شاهد على صحة تلك المقولة، فها هي بين أيدينا ما يقرب من 40 مقالة في مختلف شؤون الحياة والثقافة في السودان. تتناول فيما تتناول أعلامه الكبار: الطيب صالح، والمجذوب، وجمال محمد أحمد، والتجاني الماحي، ومحمد إبراهيم أبو سليم. كما تتناول أهل الفن والإبداع فيه: أحمد المصطفى، وعبد العزيز محمد داود، وليلى المغربي. إلى جانب أشهر آثاره الأدبية المعاصرة: "موسم الهجرة إلى الشمال"، وغضبة الهبباي"، و"أمتي".

لكن يصف محمد المكي إبراهيم الوطن في بداية الألف الثالثة بأنه "يمر بأسوأ أيامه، وأشدها بؤسا وسوء حظ، وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت قد اكتملت مسلسل الخروج من السودان هربا من العسف السياسي، والبؤس الاقتصادي، وغياب الحرية، وإظلام الحياة الفكرية وإجدابها. وكانت السلطة في بداية أمرها تريد إفراغ البلد من ذوي الفكر والرأي، فأفرطت في القسوة عليهم، حتى هجروا البلاد بالألوف، ثم توسعت حلقة الرعب وطالت من لا ينتمي لتلك الفئة من المواطنين، فأجفلت العصافير وخرج السودانيون بالملايين ما بين ناشد حرية، وطالب دنيا يصيبها، أو أمن يشتهيه… وفي المنافي الاختيارية التي تقاطر عليها السودانيون تحول السودان في نفوس بنيه المهاجرين إلى ذكرى سيئة ومدعاة للحسرة واليأس والألم، فالأخبار التي تأتي من تلقائه لا تحمل إلى الجماعة المهاجرة سوى أنباء الفقد والفجيعة والتدني المستمر في نوعية الحياة، والتكرار المميت لكل أخطاء الماضي ورزاياه. وأمام أعينهم كانت سمعة السودان المشرقة تتحول إلى صيت سيئ، وكان اسمه الشريف يتمرغ في الوحول".

الآن رحل محمد المكي إبراهيم إلى الدار الآخرة في يوم الأحد الموافق 29 سبتمبر/أيلول 2024 بقاهرة المعز، وفي زمن شتات لم يشهد السودان له مثيلا من قبل، وحال الوطن أسوأ مما كان عليه في بداية الألفية الثالثة، إذ حولت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 واقع أهله إلى جحيم لا يُطاق، بعد أن احتلت قوات الدعم السريع معظم مساكن المواطنين في العاصمة المثلثة وود مدني وغيرها من المدن، ونهبت مقتنياتهم الثمينة، وجعلت حواضن ذكرياتهم وتراثهم أثرا بعد عين، وأجبرتهم على الأمرين، إما النزوح إلى الولايات الآمنة في السودان، أو اللجوء إلى دول الجوار ومهاجر ذوي القربى.

وعن تداعيات الحرب وتعقيدات استمراريتها، تصدق الحقيقة الذهبية التي طرحها الدكتور حسن أبشر الطيب "إن المدفع لا يبنى بيتا، ولا يشفي مريضا، ولا يزرع حقلا، ولا يحصد إلا دمارا. إن الأوطان تُبنى بالمحبة، والتعاطف، وبالاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر، وبالسعي الموصول لتعظيم عناصر الاتفاق، ونبذ مسببات الفرقة، وبالسمو فوق المنافع الذاتية الآنية إلى مصلحة الوطن، بالاحتفاء بكل المبدعين من أبناء الوطن في مختلف الميادين، تقديرا للعبقرية وتجسيدا للقدوة المتميزة، وبالانفتاح الذكي المتبصر على المعطيات والتجارب الإنسانية المعاصرة".

كما يصدق استفهام الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، عندما أنشد قائلا "أخــيــر كــرّاكــة بـتـفــتـح حـفـيـر وتـراقـد الركام *** أم الدبابة البتكشح شخـيـر الـمـوت الزؤام؟ ** درب مـن دم مـاب يـودي حرِب سُبّه حرب حرام *** تـشـيـل وتـشـيـل مـابِ تـدِّي عُـقـب آخــرتا انهزام".

وعندما شعر حسن أبشر الطيب بتعاطف الحركة الديمقراطية السودانية المعارضة لنظام الإنقاذ آنذاك مع بعض أعمال الدمار والتخريب التي كانت تطال خط أنابيب تصدير النفط كتب مقالا بعنوان "هذا كلام أعوج"، ويتمثل اعوجاج ذلك في بُعد نجعته عن القيم العليا التي تطالب الساسة بالعمل من أجل إسعاد الناس أجمعين، ما دامت سعادة الناس تتجسَّد في الحفاظ على مصادر معاشهم اليومي وخروجهم من عنق زجاجة المعاناة، لأن تدميرها يعتبر طغيانا من السياسة على مقدرات الدولة الاقتصادية. فأي سياسي أو عسكري غير عاقل يدمِّر موارد أرزاق الناس ويشردهم من مساكنهم الآمنة، ثم يعدهم بالحكم المدني والديمقراطية، فإنه يضحك على عقولهم في صلف وكبرياء وعدم استحياء، لأن أولويات الحياة الأساسية تقوم على المسكن والمأكل والمشرب والحريات العامة، وما سواها أولويات كمالية مؤجلة لا يستقيم ميسمها إلا باستقامة مَيَاسِم الأولويات الأساسية.

إذا يا سادتي دعونا نجمع القول "أرضا سلاح"؛ لأن إيقاف الحرب لا يعني إعفاء الذين ارتكبوا الجرائم والفظائع في حق الشعب المسكين من العقوبة، ولا يعني إشراك الذين كانوا سببا في الحرب أن يكون جزءا من الحل. لكن إيقاف الحرب يُسهم في إبقاء ما لم يُدمَّر من بنية البلاد التحتية، وفي الحافظ على الوطن من التقسيم وجعله نهبا لمصالح الدول الإقليمية والعالمية، وفي صون أرواح أبنائه وبناته الذين يحلمون بغدٍ أفضل. إيقاف الحرب، يا سادتي، يعني الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإعادة احتكار العنف القانوني لجيش مهني واحد وقوات شرطة مؤهلة، ويعني التخلص من المليشيات المسلحة، والتواضع على نظام حكم يكون تداول السلطة فيه بطرق ديمقراطية سليمة. ولا يتحقق ذلك إلا بتوافق الصف الوطني. والشاهد في ذلك قول الرئيس الرواندي بول كاغامي (Paul Kagame)، الذي انتشل بلاده من ركام الحرب الأهلية الضروس والعداوات العرقية إلى البناء والإعمار، عندما صرّح قائلا "إنّ تقدم بلادنا سببه أنتم أيها الروانديون، خاصة الشباب والنساء منكم، الذين أخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلادهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية […]، فليس ذلك بسبب وجود الفاتيكان، أو الكعبة، أو البيت الأبيض، أو الإليزيه، أو تاج محل" في بلادنا.

مقالات مشابهة

  • يوم دامٍ لقوات الاحتلال.. مقتل وإصابة جنود في كمائن وعمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية في غزة (فيديو)
  • الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم|معلومات عن رائد القصيدة العربية
  • وفاة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات ورحيل هرم شعري ناطق
  • رئيس الوزراء الفلسطيني: دعم السعودية للقضية الفلسطينية سياسيا ودبلوماسيا مستمر منذ عقود
  • محمد المكي إبراهيم .. زاد (الأكتوبريات) وخيار ( الخلاسية)
  • سيبقى شعر محمد المكي إبراهيم الناضح بالحكمة والجمال ما بقيت أمتنا!
  • السودان يودع محمد المكي إبراهيم
  • الموت يغيب الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم
  • فصائل المقاومة الفلسطينية تنعى حسن نصر الله: المدافع عن فلسطين.. صادق القول والفعل
  • فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية