ابرز المحطات فى حياة «أسطورة الصحافة المصرية»
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
كانت مقالاته تهز الحكومات وتسقط الوزارات ولا يخاف ولا يتراجع، وكلما سقط على الأرض قام يحمل قلمه ويحارب بنفس القوة ونفس الإصرار. تتلمذ على يديه عمالقة الصحافة والسياسة والأدب مثل حسنين هيكل، مصطفى وعلي أمين، كامل الشناوي، إحسان عبد القدوس، أحمد رجب وغيرهم من النجوم فى سماء الصحافة المصرية والعربية.
انه الكاتب الصحفى المبدع محمد التابعى رائد الصحافة الحديثة الذى لقب بأمير الصحافة «طائر الصحافة المغرد»، «أسطورة الصحافة المصرية»، «أمير الصحافة»، و دونجوان الصحافة.
إسمه بالكامل «محمد التابعي محمد وهبة»، وقد ولد فى ١٨ مايو عام ١٨٩٦علي شاطئ بحيرة المنزلة أما أسرته فهي من مدينة المنصورة.
توفى والده وهو في السابعة من عمره والتحق محمد التابعي بالمدرسة الأميرية الابتدائية في المنصورة، وحصل علي الابتدائية عام ١٩١٢م وكان ضعيفاً جداً في مادة الخط العربي.. هبط إلي القاهرة والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية ثم انتقل التابعي إلي مدرسة داخلية في محرم بك في الإسكندرية وحصل علي التوجيهية عام ١٩١٧م والتحق بحقوق القاهرة حصل التابعي علي ليسانس الحقوق في عام ١٩٢٣م.
وحينما كان يعمل موظفاً في إدارة التموين بمدينة السويس تولي الإشراف علي توزيع مواد التموين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي إلي أن انتقل إلي القاهرة وعمل موظفاً في قلم الترجمة بمجلس النواب، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياته.
وظهرت ميوله الصحفية بقوة وبوضوح أثناء دراسة التابعي في كلية الحقوق، عام ١٩٢١ وحين نشرت جريدة «الإجيبشن ميل» مقالاً يهاجم فيه المظاهرات الوطنية للطلبة، كتب طالب الحقوق آنذاك - التابعي - مقالاً باللغة الإنجليزية يرد فيه علي ما نشرته الجريدة، ثم أتبعه بمقال آخر يعرض فيه لمواقف الموظفين الإنجليز في الإدارة المصرية،
ثم طلب منه رئيس التحرير أن يكتب رؤية نقدية بالإنجليزية حول مسرحية «غادة الكاميليا» التي كان يقدمها مسرح رمسيس وكتب التابعي مقالاً ينتقد فيه عميد المسرح العربي «يوسف وهبي» بطريقة ساخرة، وراح بعد ذلك يكتب في جرائد «السياسة» و«أبوالهول»، و«النظام» و«الأهرام»، بتوقيع «حندس» وتميزت أفكاره بالوضوح ولغته بالسهولة حتي قيل عنه إنه بدأ مدرسة مسرحية أسلوبية جديدة، ووصفه يوسف وهبي قائلاً عنه «الناقد الذي يسقيني السم في برشامة»، ثم كتب التابعي نقداً لتمثيل «روزاليوسف» وعزيز عيد وكان يوقع هذه المقالات بالإنجليزية بحروف «م.ت.م» أي محمد التابعي محمد.
ولغت نظر«روزاليوسف» مقاله في نقد غادة الكاميليا لأنه لم يجد ما يأخذه علي «روزاليوسف» إلا أن كعب حذائها كان مزوداً بقطعة من الكاوتش، فيما وصف جورج أبيض بأنه فوق النقد، ووصف بشارة واكيم قائلاً «إن المسرح المصري يفخر به».
وعندما ولدت فكرة مجلة «روزاليوسف»ظهرت فى ثوب مجلة فنية وظهرت المجلة يوم الأحد ٢٥ أكتوبر عام ١٩٢٥. ودعت «روزاليوسف» محمد التابعي للعمل معها في المجلة واستجاب وحرص التابعي أن يكتب في السياسة. وبدأ بباب نسائي يحرره هو بتوقيع «الآنسة حكمت» ثم باب «حواري» وبعض الموضوعات الأخري. وكان التابعي لايزال يعمل في قلم الترجمة في «البرلمان» ويكتب نقداً فنياً لجريدة «الأهرام» بتوقيع «حندس» .
وبعد نقل مقر مجل «روزاليوسف» من ١٠ شارع جلال -قسم الأزبكية ثم ترك التابعي «روزا» ليقيم لنفسه مجتمعاً خاصاً به يسميه «آخر ساعة» وأخذ معه في هجرته كل العناصر الرئيسية ومنهم «صاروخان» ومصطفي أمين، وسعيد عبده، فوضعت «روزا» محمود عزمي رئيساً للتحرير وأصبح العقاد الذي انتقل من جريدة «الجهاد» لتوفيق دياب إلي «روزا» من أعمدة المجلة ثم هجر مصطفي أمين «آخر ساعة» ليعمل في «دار الهلال»،
لكن «آخر ساعة» قد واجهت أزمة مالية فباعها التابعي لمصطفي أمين وكانت «آخر ساعة» قد ظهرت للوجود في ١٤ يوليو من عام ١٩٣٤ وكان التابعي قد اختار هذا التاريخ الذي يوافق يوم الثورة الفرنسية التي تحمل الشعارات الثلاثة «الحرية - الإخاء - المساواة».
حارب التابعي السفارة البريطانية والسراي الملكية بضراوة كما حارب وزارة محمد محمود «وزارة اليد الحديدية» وحارب وزارة «إسماعيل صدقي» و حينما تسلم محمد محمود وزارته في ٢٨ أكتوبر ١٩٢٩، أعلن أنه سيحكم البلد بيد من حديد، فسخر منه التابعي قائلاً: «إن يده من صفيح لا من حديد» فأصدر محمد محمود قرارًا بمصادرة المجلة، فنشر التابعي في العدد التالي في الصفحة الأولي بعنوان «عطلها بأه» وفعلاً قام محمد محمود بتعطيلها ومصادرتها.
سعى التابعى لتكوين أول نقابة للصحفيين، وكان من أعضائها المؤسسين، إذ صدر قرار وزارى فى مارس 1941 بتشكيل مجلس مؤقت لإدارة النقابة برئاسة محمود أبو الفتح وعضوية إبراهيم عبد القادر المازنى، وجبرائيل تقلا، وفارس نمر، ومحمد التابعى، وعبد القادر حمزة، وادجار جلاد، وحافظ محمود ومحمد خالد، ومصطفى أمين، وفكرى أباظة وخليل ثابت.
وكان من أشهر مؤلفاته، «من أسرار الساسة والسياسة»: وهى السيرة الذاتية لأحمد باشا حسنين، «أسمهان تروى قصتها»، «بعض من عرفت»: وهى مجموعة قصص من واقع الحياة، «لماذا أقتل»، «مذكرات موظف مصري».
رحل التابعى عن عمر يناهز 81 عامًا بسبب إصابته بجلطة، تأخرت جنازته يومين حتى يتم تجهيز جنازة تليق بأكبر صحفي مصري، وأعلنت رئاسة الجمهورية بيانًا في الصحف يقول: "قرر الرئيس أنور السادات حينما علم بوفاة الكاتب الصحفي محمد التابعي أن تكون جنازة الصحفي محمد التابعي من ميزانية رئاسة الجمهورية، كما أرسل السادات مبعوثًا خاصًّا إلى أرملة الفقيد للتكفل بكل ما تقتضيه الجنازة،
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المنصورة أسطورة الحرب العالمية الصحافة المصرية طالب الحقوق محمد التابعي مدرسة السعيدية الثانوية مدرسة داخلية ا باللغة محمد محمود آخر ساعة
إقرأ أيضاً:
الكاتب إبراهيم الخليل: الأدب لم يكن محايدًا في الحروب وكان تابعًا للسياسي عند كثيرين
الرواية قصيدة القرن الحادي والعشرين
يعنيني المكان والواقع بتفاصيله أكثر من الجوائز
ما جرى في الرقة ينافي الجانب الإنساني والواقع.. ولا اسم له في قاموس البشرية
العمل الخالي من المرأة كالنهر بلا ماء
تجربة النقد في سوريا متواضعة ولم تواكب النص على عكس المغرب العربي
"سيناريوهات الجسد" استكمال لمشروع التجديد
السينما حوّلت روايتي "الضباع" من النخبوية إلى الشعبوية
قامة أدبية من روافد الفرات الذي لا ينضب إبداعه، تدفّق رقراقًا سلسبيلًا عذبًا سهل التناول إلى جانب باقي الروافد الإبداعية التي أنجبتها مدينة الرقة الضاربة في الحضارة، إنه الأديب إبراهيم الخليل الذي استطاع أن يهزم مرارة الحرب التي مرت على البلاد وبالأخص مدينته التي نالها الكثير من الخراب وتلونت فوق سمائها رايات المخربين الذين حاولوا محو بعض من حضارة عمرها مئات السنين.
الأديب إبراهيم الخليل كان شاهدا، وصمد بسنواته الثمانين بعد أن قدم للمكتبة العربية العديد من الروايات التي حملت النبض الراقي بكل تفاصيله الجميلة.
صحيفة "عمان" وفي بحثها عن المبدعين التقت الروائي إبراهيم الخليل الذي فتح قلبه لها رغم ما يعانيه من مرض.
بقاؤك في الرقة، وما نالها من خراب، هل بقيتَ لتكون شاهدًا على ما حلّ بها من خراب، أم أن الأمر لا يحتمل أن تكتب عنه؟
بقائي في الرقة اختياري لأكون شاهدا على ما يجري من عنف وقسوة، وممارسات غير إنسانية، وكأن في ذلك أشياء تعزز ما أكتبه، وخاصة في الجنس الجديد العابر للأشكال الذي يحتاج إلى أدوات جديدة وعالم جديد.
عانيتَ في المحنة السورية، وحزنتَ لما حلّ في مكتبتك، ما شعورك وقد رأيتَ كتبك تحترق، وكيف تصوّر مغول العصر، وهل ذكّركَ ذلك بأحداث مشابهة؟
شعرت بمعنى الخراب، ومعنى أن يكون الكتاب هدفًا، إن الكتاب هو الأصابع التي احترقت، وهي تحاول أن تكون شاهدة على ما جرى.
تحول الحبر لدينا إلى حريق كبير، وتحولت الكتب إلى مادة محترقة، في رمادها كمٌّ هائلٌ من الجهد والمعرفة.
لقد مر التتار من قبل بالرقة، وقرأت عن ذلك، لكن التتار اليوم أشد همجية وقسوة، وكان الكتاب من ضحاياهم، إضافة لما أملكه من كتب نادرة ولوحات ثمينة، إنها جنى العمر ذهبت هباءً على يد المتوحشين الجدد.
ذكرني هذا بما حلّ في بغداد وحبر كتبها الذي لوّن ماء دجلة باللون الأزرق.
هل يستطيع أن يكون الأدب شاهدا على التحولات التي عصفت بالبلاد؟
بالتأكيد، وإلا ما معنى ما جرى، الأدب كان شاهدا، ولكن عند قلة صادقة، وكان تابعا للسياسي وخاضعا للرقابة عند كثيرين، بحيث كتبوا ما يريده السياسي، وبما يناسب التاريخ الذي يصنعه الأفراد، ومع ذلك فالحرب سترفد التوجه الأدبي لفترة طويلة كما رأينا في آداب الأمم التي تعرضت لمثل هذه الحروب والنكبات، ولا مجال إلا للكتابة عن ذلك، والكتابة مرة أخرى تعني إعادة صياغة الإنسان من جديد ليكون أكثر إنسانية وإحساسا بما يجري في هذا العالم الذي أصبح قرية كبيرة، ونحن نصرُّ على ذلك.
هنا أسأل، هل واكب الأدب ما يدور في عالمنا العربي من أزمات وحروب؟
الأدب لم يكن محايدًا في نقل ذلك، وخاصة الأدب الذي عالج مشكلة السجون السياسية.
أتابع ما يجري خلال الأزمة، وأنا مع تصوير ما جرى، وما يجري، ومن لم يتعلم من الحرب فلن يتعلم أبدا، وأخزّن في الذاكرة لعل ذلك التخزين يجد فرصة للظهور يوما.
مقولتك: "يجب أن يفصل الكاتب بين أدبه وموقفه السياسي" أليس من حق الكاتب أن يعيش ما يمر به؟
هناك إحراج في السياسي والأدبي، هذا الإحراج يكون الكاتب معه أحيانا معبّرًا عن أيدلوجية يشارك فيها، وأحيانا يعبر عن جانب أبعد من ذلك هو الجانب الإنساني، فنحن مجموعة أقوامية مختلفة المشارب والأهواء والمعيشة، نتكامل بتوحدنا وتشكيل لوحة جميلة كقوس قزح متعدد الألوان يبشّر بمطر خصيب.
وأنت تتابع المشهد الثقافي السوري، هل كان ذلك المشهد فاعلا أو منفعلا خلال الأزمة السورية؟
تابعت هذا المشهد وعشته، ولم أغادر المكان، ورأيت كل شيء، الاضطهاد باسم الدين وباسم أشياء أخرى، وحتى الآن يحاول إعطاء بعض الإشارات، ومع ذلك لا يمكن الحكم عليه والكتابة عنه إلا بعد حين، الكتابة السريعة عنه انطباعات آنية لا تصوّر الحقيقة، نحتاج إلى أقلام صادقة ومحايدة حتى لا نقع في فخ الترويج لجهة أو فكرة معينة، يجب البعد عن الأيدلوجيات، ونختار الإنسانية، فهي ملجؤنا الأخير.
أجل، فالكتابة عن الحرب تحتاج إلى زمن على مرورها، ونرى في تجربة السوفييت مثالا على ذلك في الحرب العالمية، ونحن نريد لهذه الحرب ألّا تمر دون أن نتعلم منها، فالتعلم ضرورة واجبة خاصة في بلاد الشام والبلاد المشابهة لها.
هل لديك موانع من الكتابة عمّا جرى في الرقة، أم أن للعمر دلالاته؟
ليس لدي موانع للكتابة، وما جرى في الرقة من أمور تنافي الجانب الإنساني والواقع، وفي الحقيقة كان ما يجري لا اسم له في قاموس التاريخ البشري لشدة ما يحمله من سطوة وعنف، وتخريب للبشر والشجر والحجر.
أما العمر فهو وازع يدفعك إلى أن تكون صادقا فيما تكتب، وحكيما فيما تنقل.
المكان ثيمة أدبية، ماذا تعني لك المدن؟
الرقة هي المكان، وأحيانا يكون المكان هو الحامل الأساسي للنص بحيث يقوده إلى مصيره، والمكان واللغة والسرد أعمدة النص، وشرطه الأساسي لكي يحقق نصا أدبيا يحمل إرث المكان، وفي الرقة نحن بحاجة إلى هذا الإرث، بل والكشف عنه لأنه غنيّ ومعبّر بكل ما فيه من سطوة وحضور في حياة الناس وتطلعاتهم إلى حياة أجمل، وفي زمن يحاول الكاتب فيه القبض على الجمال للدفاع عن الجمال في مواجهة القبح، ومن هنا ليس المكان فقط ما نريده ككتاب بل نريد إعادة اكتشافه من جديد؛ لأنه هويتنا الأساسية خاصة، ونحن على الأطراف المهمشة التي تدخل حديثا المشهد الثقافي بكل ما فيه من زخم، وبكل ما في هذا المكان من إرث.
إضافة إلى ذلك فالمكان مفردة تعطي قوة وخصوصية للنص في منطقة عاشت مهملة ومهمشة في الشمال السوري، والمكان يكسبها شيئا من الهوية لتستطيع الدخول إلى المشهد الثقافي بقوة، وتنزع عن المكان صفة التغييب، وتعطيه حق المشاركة في صنع الأحداث والتاريخ، حتى لا نكون غائبين عنهما.
وكانت دمشق هي المدينة الثانية في حياتي، وظهرت في كتاباتي بجوار مدينة الرقة، ولا عجب في هذا فقد عشت فيها فترة، وتعلمت فيها وتعلمت منها سبل الحياة الجديدة، ثم عدت إلى الرقة حاضنتي التي لا أستغني عنها حتى في أيام الحرب.
ودائما للمدن عاشقوها، وأنا من عشاق الرقة وحضورها في كتاباتي يعطيني حالة متفردة بعيدا عن الفكر البري والنظر للأشياء بعين واحدة.
الكاتب ابن بيئته، ومن خلالها ينفذ الكاتب نحو التفرد ونيل الجوائز، وقد كتبتَ عن البيئة البدوية والصحراوية، هل يعد هذا من باب الوفاء للبيئة، وهل استطعت تقديم عالم البداوة المشوق للقارئ؟
ليس من باب الوفاء، بل من باب الإخلاص للمكان، ومحاولة الكشف عن الأقوامية التي يعيشها، وهو تصالح واندماج مع جانب كبير وواسع وإنساني، وقد كتبت هذا ضمن مشروع أنا اخترته، وهذا المشروع أقوامي، فكتبت عن العرب والأرمن والكرد والبدو، وأعتبر هذا التنوع خصيصة من خصائص أدبي تحمل رسالة أكثر من التعبير فقط، فنحن عبارة عن فسيفساء، لو سقط جزء منها لتشوهت.
وما قدمته يهم القارئ الذي يعيش الواقع، وليس من أجل الجوائز، أو التفرد، فالمكان يعنيني وتفاصيله أكثر مما تهمني الجائزة، وإذا كان هناك تفرد في الكتابة، فليس همه الجائزة بقدر ما يهتم بالواقع الذي أجده رابطا بيني وبينه جعلني أعشق المكان، ولا أغادره رغم الإغراءات الأخرى التي تتيحها الغربة علما بأن لدي فيزا دائمة إلى أمريكا التي زرتها في برنامج "فول برايت" ولكنني لم أغادر بيئتي.
هناك من استنكر عليك الواقعية، ومن التقط هنّات سردية في "حارة البدو"، أليس من حق الكاتب أن يكتب بما يليق بعوالمه، أم أن هذا النقد هو من "عداوة الكار"؟
مسألة النقد مسألة متشعبة وذات شجون، ويطول الحديث عنها، ولكنني أقول: تجربة النقد في بلادنا متواضعة رغم الإرث الباذخ في الكتابة على عكس المغرب العربي الذي جاور أوروبا، وأتقن النقد أكثر من بقية الأجناس الأدبية، وهذا حكم الواقع الذي يريد للكتابة هذا المسار رغم الأصوات الجديدة، وإن المصطلح النقدي عندنا لا زال بسيطا لم يواكب النص، ولم يعبر عنه بحرفة وشفافية، ومع ذلك لا نلوم من يعيش على قدر فهمه المحدود، والكتابة عن الواقع ليست سهلة، تحتاج إلى شجاعة، وأدوات فاعلة، لا إلى فهم بسيط مسطح، والمشكلة أن الواقع عند بعضهم ملكية خاصة، والكتابة عنه فضيحة، علينا ألا نعيش على الفضيحة، لكن نصورها إن وجدت.
قدمتَ في كتابك "سيناريوهات الجسد: نصوص عابرة للأشكال" على أنه أشكال مبتكرة قلت عنها إنها ما بعد الحداثة، ماذا أردتَ أن تقول من خلال هذه السيناريوهات، وماذا تقصد بعبارة ما بعد الحداثة؟
"سيناريوهات الجسد" هو استكمال لمشروع التجديد، والمقصود بالسيناريوهات هو لغة الجـسد، خاصة عند المتصوفة، ونحتاج إلى عالم جديد ووعي جديد ولغة أخرى، تخدم هذا المنحى التجريدي لكي يكون ذلك الأمر واقعيا، ومن عناصر ذلك: تجاور المتغايرات وتفجير اللغة والاعتماد على التناص، والإشارة الصوفية والتنوع وهو كل شيء لا ينحاز إلى شيء، إنما الأدب هو الهم الأكبر له، فنحن في الأساس هو من فجر اللغة على يد السيوطي وابن جني، وتوقف ذلك الجهد الرائع.
أما ما بعد الحداثة فهي محاولة لتطوير تجربة الجديد؛ لأن هذا الجديد ينبع من واقع عرف الابتكار، وخاصة في الأدب، والبحث عن عالم جديد، ونحن تعلمنا من إرثنا في ألف ليلة وليلة هذا النزوع الجميل الذي نريده جديدا، ففي ألف ليلة وليلة كل أجناس التجريب، واستخدام الغرائبية التي شاعت فيما بعد في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
لماذا توجهت إلى الكتابة الصوفية، وبمَ أفادك هذا التوجه؟
الصوفية في الإسلام وفي التراث الأدبي من أكثر الجوانب التي ظلمت؛ لأن فيها التجديد الذي نحتاجه، ومع ذلك لم تقف عنده، ولم تتعامل معه بما يليق به، بل العكس قدمت النص الجديد، والشهداء الجدد كالحلاج والسهروردي، وهي جانب يغذي نزعة التجديد عندي، وكان لها اهتمام كبير عند الأدباء الكبار مثل آني شيميل وسواها.
بدأتَ بالشعر ثم القصة وجددتَ فيها، ثم تخصصتَ بالرواية، لماذا هذا التنوع، وهل هجرتك القوافي لتتجه نحو السرد؟
التنوع يأتي من التجريب، وكان الشعر يليق بالمكان الريفي، وبعد أن عشت فترة في دمشق اتجهت إلى الرواية، فالمكان المركب يحتاج إلى أدب مركب، أي إلى الرواية، وهي قصيدة القرن الحادي والعشرين، وهي اختياري الأخير.
لك تجربة شعرية، وتشاركتَ مع أحد الشعراء بديوان شعري، حدثنا عن هذه التجربة؟
كان هذا في البداية الأولى، وتحقق في ديوان يعتمد على التجديد، وهو مشترك بين شاعرين، وهذا الاشتراك بين أديبين قديم، نجده عند محمود درويش ومعين بسيسو في قصيدة بيروت، وعند العجيلي مع أنور قصيباتي في رواية ألوان الحب الثلاثة، وعند جبرا إبراهيم جبرا مع عبد الرحمن منيف.
هذا يبشر بمنهج جديد في الأدب، والأدب حركة، والحركة ولود، والصمت عاقر.
تم تحويل روايتك "الضباع" إلى فيلم سينمائي، هل كان الفيلم مخلصا للرواية؟
حوّل الرواية إلى فيلم المخرج مصطفى الراشد، وحمل الفيلم عنوان "خط المطر"، وهو من الأعمال التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وقد كانت بحاجة إلى دعم مالي أكثر، لذلك تم اختصار بعض المشاهد خاصة (لعبة السكارات) التي تعبر عن التراث اللامادي في حياة منطقة البليخ، ومع ذلك تظل هذه التجربة مهمة، وتشير إلى الشمال المهمش في عالم يحكمه المركز.
وأنا مع الرواية حين تتحول إلى السينما، فهذا التحول يجعل الرواية مرئية، وتكسب جمهورا جديدا يضاف إلى جمهورها القارئ، وهي تخفف النبرة السياسية في الرواية المعبرة عن الخيبة بالوحدة بين مصر وسوريا، تحولت الرواية من النخبوية، إلى الشعبوية السينمائية، بعد أن تم إسقاط ماهو سياسي منها.
حضرتْ المرأة في كتاباتك، كيف تنظر لها؟
كتبت عن المرأة المقيمة والعابرة كالمرأة الغجرية في رواية "الهدس"، وفي مختلف حالاتها وأعمالها، فالعمل الخالي منها يكون نهرا بلا ماء، فكانت حاضرة في كتاباتي، وهذا الحضور أعطى العمل جمالية يحتاجها مع إثراء ضروري للنص، ومكمل لشروطه في الشخصيات.
عندما تذكر الرقة يذكر العجيلي، هل تشعر بالغبن أنت وباقي أدباء الرقة الذين تتوارى أسماؤهم خلف اسم العجيلي كونه أضحى عنوانًا للمدينة، أم أنه مدعاة للفخر، وأنتم امتداد له؟
لسنا امتدادا لأحد، وإنما نعبر عن مرحلة غير مرحلة العجيلي الذي امتازت كتابته بالغيبية والعشائرية والتخلف، وكل ما سبق لا يليق بالجيل الجديد.
لا أشعر بالغبن، فأنا عبرت عن الرقة في عالمها الجديد، وليس العالم البعيد المتخلف، ولا تجد أي أديب "رقاوي" تأثر بالعجيلي من بعيد أو قريب، أو توارى خلف اسمه، أو كتب على نمطه.
العجيلي أضحى قيمة أدبية لدارسي الأدب في بداياته، هناك أجيال تخطته في الناحية الفنية الأديبة والأشكال الثقافية. ومع ذلك لا ننكر وجوده، وإلا لكان هذا الرأي تعسفا.
كيف يمكن أن تنجح الكتابة الروائية في الأطراف وبعيدا عن المركز؟
حين تنفرد، وتقرأ بشكل جيد، فالقراءة جانب مهم للقراءة، وهي المعين المفيد عليها، وبعيدا عن التأثر الطاغي، والكاتب الحقيقي هو الذي يعطي صورة صادقة ومتوازنة عن واقعه، ولا يستعير أصابع الآخرين في كتاباته.
الرقة حاضرة ومدينة عامرة بالثقافة، وفيها من الأصوات الأدبية الكثير، لكن حضورها خافت، فلماذا؟
الرقة عاصمة القصة القصية باعتراف الجميع، وهي حاضرة ثقافية ومدينة ولود، وقدمت أسماء كبيرة أعادت الألق للمشهد الثقافي، لكن بعضهم رحل، وآخر هاجر خلال الأزمة، وثالث ترك الكتابة، ولم يبق فيها اليوم إلا العدد القليل.
وفي مخزونها الكثير مما يحتاجه الكاتب، ووظفه بعضهم في الرواية الجديدة، وفي النزوع إلى التجريب، وكشف الأعماق البشرية التي يعنى بها الأدب.
وغاب فيها الأدب النسوي، وهذه مسألة عامة في سوريا، وإن كان الخفوت من نصيب أكثر الأسماء الرقاوية فهذا يعود لبعد المكان "الرقاوي" عن المركز وتضييق الرقابة عيها، ومع ذلك تعد اليوم وسائل التواصل الحديثة وسيلة فعالة لإثبات حضورهم.
الأديب الأجنبي يكتب بصراحة وبدون مواربة، وأحيانا عن نفسه وبيئته متجاوزا المحرمات في الأدب، هل لامست هذا البوح. أم أن العربي محكوم بمجتمعه وأهله، ولا يكتب إلا في السياق العام؟
يختلف الأديب في الغرب عنا، فهو غير ملزم بالقيود الاجتماعية ولا تحكمه نظم معينة، ولا يخشى الرقابة على عكس ما نحن فيه، حيث تحيط بنا المدينة والعشيرة والأصدقاء والقيود الكثيرة، و في عدد من الأعمال حولت البوح الذي تقصده، ومن خلال الجمالية والكشف الجديد لأترك لتلك الأعمال القبول اللائق بها، وأن تكون خارج مرمى الرقابة في الطريق إليها. وكنت دائما أبحث عن الجديد في التراث والحياة لكي أكون مواكبا لما أحمله في داخلي من أعمال أخرى.
غالبا ما يعمد الأديب إلى تجسيد السيرة الذاتية عبر أعماله بشكل أو بآخر، هل فكرتَ بفعل ذلك، أم أن الأمر لا يستحق؟
يعد الكتاب صورة للكاتب في الفهم ومعاملة الواقع لأن الكاتب هو الذي يصنع الكتابة، فهي صناعة أحيانا، أما القارئ فهو شاهد آخر، أو مبدع بشكل ما، وقد يكون رأيه يغاير رأي الكاتب، وكتب السيرة خاصة تكون للسياسيين والقادة ومن شابههم، أو من الأدباء الذين لهم مخالطة بهم، ولا تعنيني كتابة السيرة بقدر ما يهمني تقديم أعمال قادرة على أن يستلهم منها القارئ ما يفيده ويمنحه صورة صادقة عن سيرتي وهو الذي يحكم عليها.
هل قلتَ ما تريد في ظل وجود الرقيب؟
قلت بعض ما أريد، فعالمنا ليس عالما مفتوحا بل تحكمه مسألة مهمة هي السياسي والأيدلوجي، هما يريدان تبعية الأدب لهما، وليس شريكا لهما في بناء العالم الجديد بكل أدواته التي تؤسس لرؤية أجمل، ومحاربة القبح في حياتنا. والرقابة تحد من الإبداع.
بقيتَ في الرقة بعيدا عن أضواء العاصمة وشهرتها، فهل ندمتَ على ذلك؟
سكني في الرقة اختياري، مع أن دمشق قدمت لي الكثير من أشكال الحياة العصرية، ولم أندم على اختياري لأن الرقة تظل المدينة والأنثى والنهر والنص، وهل يوجد أجمل من ذلك؟
ماذا جنيتَ من الكتابة؟
الإحساس بالواقع، وبكل ما فيه من أحزان وأفراح، فهو عالمنا، ولا يمكن إلغاؤه، والكتابة تشعرك بالوجود، وتحقيق الذات والاكتشاف حتى لا يضيع هذا الإرث الناجز في متاهات النسيان.
من هو ملهمك أو شجعك على الكتابة؟
تحمل الكتابة قيمتها في داخلها، وهذا أكبر تشجيع وأكبر انحياز للإنسانية؛ لأن أهم ميزات الكاتب الصدق، فالنفاق لا يليق به، ولا يليق بالكتابة.
ألهمني المكان والتراث لأن فيهما القيمة الحقيقية للإنسان، ومن لم يتسلح بذلك يعِشْ على الهامش.
المكان أوحى لي بالكثير، وهو مصدري الأساسي، وبيئتي غنية بالتراث اللامادي، ومن الطبيعي استلهامه أو استحضاره، أو الإشارة إليه لكشفه وإكمال نواقص المشهد الثقافي.
ما طقوس الكتابة لديكَ؟
حين أكتب الرواية أقرأ الشعر، وحين أكتب الشعر أقرأ الرواية، وحين لا أكتب شيئا أقرأ للقراءة، وأستحضر حياة الناس، فكل عجوز "رقاوية" هي صندوق للحكاية، فيه ذخائر جميلة، وفيه محفوظات مهمة.
ماذا تقول عن هؤلاء الأدباء الرقيين ؟
*عبد السلام العجيلي: كتب الكلاسيكية المبشرة بسكون الواقع وجموده.
*خليل جاسم الحميدي: كان وفيا للقصة القصيرة، ومجددا فيها.
*عمر الحمود: كاتب متابع موهوب، يكتب القصة والرواية والنقد، وأثبت حضوره بأسلوبه الخاص.
*إبراهيم الجرادي: شاعر الكلمة الجديدة، والريبورتاج الشعري.
*أحمد الحافظ: ينهج نهج الحداثة بدراية وخبرة.
*باسم القاسم: شاعر يقارب الحداثة، ولا زال.
*سعيد سراج: مجتهد في محاولاته، وهذا يحسب له كشاعر صورة، وليس مفردة.
*خليل إبراهيم الخليل: شاعر نهَجَ نهْجَ القدامى بروح عصرية.
*عبدالله أبو هيف: خلق جسرا للعبور بين النقد والقصة القصيرة.
*حمدي موصلي: كاتب مسرحي ومخرج، يمثّل هوية الرقة المسرحية.