لن أتخلى عنك يا غزة.. ديربي غنائي مغربي حزين لأجل فلسطين
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
الرباط- جلس هشام في المقهى البسيط ذي الكراسي الحديدية الباردة المتهالكة، ينتظر أذان المغرب ليؤدي الصلاة بالمسجد القريب ويعود إلى مكانه فيطلب فنجان القهوة في انتظار صلاة العشاء.
هذا روتينه اليومي الذي اعتاده وهو الحرفي البسيط الذي يقضي نهاره في العمل الشاق، ويخصص فترة ما بين المغرب والعشاء لبعض الترفيه مع الأصدقاء قبل العودة للبيت، وما تغير اليوم فقط لمسة الحزن التي تغطي وجهه، وصمته الطويل الذي لم يعهده منه أحد.
رفض هشام لعب الورق مع أصدقائه بهذا المقهى الذي يبدو وكأنه مكان مهجور لقلة رواده، ورفض متابعة مباريات دوري أبطال أوروبا، وفضل الجلوس وارتشاف فنجان القهوة في صمت، متأملا الرائح والغادي في هذا الجو البارد.
"كيف لي أن ألعب الورق، أو أشاهد المباريات وإخواننا يذبحون في غزة؟"، هكذا يجيب عبد الله عند سؤاله عن سبب تغير أحواله، مضيفا "لم تعد لي أي رغبة في الحصول على أي نوع من أنواع الترفيه، أحس بأنني أخون مأساة الأشقاء في غزة المذبوحة".
ولا يكاد يختلف حال هشام، العاشق المجنون لفريق برشلونة الإسباني، عن أحوال كثير من رواد المقاهي هذه الأيام، إذ لا يكاد يخلو حديث بين اثنين من مستجدات غزة، سواء تعلق الأمر بمجازر الاحتلال المستمرة في القطاع المحاصر، أو المواقف المخزية للأنظمة العربية والغربية مما يجري.
وليس مستغربا البتة أن ترى العشاق المهووسين بكرة القدم يسارعون بين الشوطين لمطالبة النادل بالانتقال إلى قناة الجزيرة -التي عادت بقوة إلى المقاهي- أو أية قنوات إخبارية أخرى، وذلك لمتابعة آخر المستجدات في فلسطين.
بل إن كثيرين لا يكادون يضعون الهواتف من أيديهم فيتابعون بين الفينة والأخرى تطورات العدوان الإسرائيلي -المدعوم غربيا- على غزة، عبر منصات التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك الذي يعد المنصة الأكثر تداولا بين المغاربة.
"لحبيبة يا فلسطين""حرص عشاق كرة القدم على متابعة مباريات الفرق التي يعشقون لا يجعلهم ينسون قضية المسلمين الأهم وهي قضية فلسطين الحاضرة دوما في قلوبهم"، يشرح محمد بلعودي الصحفي الرياضي المغربي مضيفا بأن فلسطين بالنسبة للجميع هي "قضية لن تموت".
وتابع بلعودي بأن البعض اعتاد أن يَسم عشاق الكرة ومشجعي الفرق الرياضية، بأوصاف متعددة بينها الشغب والسطحية وضعف الانتماء للقضايا الكبرى، لكن ما لبثت الأحداث تبرهن على عكس ذلك، وأكبر دليل ما أبدعه عشاق فريق الرجاء البيضاوي والوداد البيضاوي، من أناشيد في دعم غزة، وعشق فلسطين.
وكما عادت قناة الجزيرة، ومعها القنوات الإخبارية الرصينة، إلى المقاهي الشعبية بعد طول غياب، عاد عشاق الكرة المستديرة ليتذكروا أغنية "رجاوي فلسطيني" بعد اندلاع "طوفان الأقصى"، وهي أغنية أبدعها "صوت المكانة (الساعة)" (La Voce Della Magana) ألتراس فريق الرجاء البيضاوي المغربي في 2019 وحظيت بانتشار كاسح محليا وعربيا.
أغنية جددت بها جماهير الرجاء قبل أيام -داخل ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء بعد بداية العدوان الإسرائيلي الأخير- دعمها لغزة وللقضية الفلسطينية، حيث ارتجت جنبات الملعب بهذا النشيد الذي ردده الآلاف خلال مباراة مع فريق المغرب التطواني ضمن مسابقة البطولة الوطنية لفرق الدوري الأول.
هتفت آلاف الحناجر بـ"ما نسمح فيك (لن أتخلى عنك) يا غزة، مالكري (بالرغم) عليّ بعيدة، يا رفح ورام الله، أمتنا راها مريضة، مرضوها بالمشاكل، وفساد الحكومات، والعربي عايش في الويل، والمستقبل كله ظلمات".
وما تلبث الدموع أن تنزل من مآقي من يستمع -عبر منصات الإنترنت- لعشرات الآلاف وهم يرددون هذا النشيد في هذه الأجواء وفي هذه الظروف، أما حال من هم داخل الملعب فلا يكاد يوصف.
يقول عبد الجليل البوجدايني مدير موقع أنصار الرجاء الرياضي "ديما ديما رجاء"، إن نجاح "رجاوي فلسطيني" وملامستها لقلوب الناس داخل وخارج المغرب نابع من الروح الصادقة التي تحملها.
وتابع بأن الأمر يتعلق بإحساس دائم بالمسؤولية الأخلاقية تجاه غزة وقضية فلسطين لطالما عبر عنه هذا الجمهور العاشق للكرة، وليس مرهونا فقط بوقت القصف والاعتداء والعدوان، "إنه التزام أخلاقي دائم".
هذه الأغنية التي تبدأ بمخاطبة فلسطين بـ"يا اللي عليك القلب حزين، هذه سنين تدمع العين، لحبيبة يا فلسطين، آه يا وين العرب نايمين، آه يا زينة البلدان، قاومي ربي يحميك"، كلماتها ولحنها من إبداع المجموعة الموسيقية لألتراس الرجاء البيضاوي.
ويشرح البوجدايني بأن التأليف والتلحين وإن كان من صنع أفراد، إلا أنه بمنطق الألتراس، كل شيء ينسب للجماعة، ومن ثم يصعب على أي مشجع أن يدلي باسمه كصاحب كلمات أو لحن، احتراما لهذه الروح الجماعية التي تميز عشاق الرجاء، وفكر الألتراس بشكل عام.
ويؤكد الصحفي الرياضي محمد بلعودي من جانبه أن عقيدة المشجعين واضحة ولا تشوبها شائبة من حيث إن قضية فلسطين ليست "ترفيها سياسيا"، بل هي قضية أرض وعرض، وقضية حق وباطل، وقضية شعب يسعى للحرية وتحرير الأرض، ضد عدو يسعى بكل الطرق لقتل هذه الرغبة.
قيم ومشاعر حملتها "رجاوي فلسطيني" لذلك -يتابع بلعودي- تيسر لها هذا الانتشار الكبير إذ وجد فيها الناس تعبيرا عفويا صادقا عن مشاعر يكنونها لغزة، ولفلسطين القضية، مثلها في ذلك مثل "التيفو" الشهير للنادي نفسه والذي حمل شعار "حتى النصر"، ويتوسطه "حنظلة"، الرمز الشهير لرسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي.
كما أن فريق الرجاء البيضاوي لكرة السلة حمل لافتة داعمة لغزة من أرض كازابلانكا، وذلك خلال مباراة له هذا الأسبوع. وتقول اللافتة التي زينتها رموز الكوفية الفلسطينية والعلم الفلسطيني "من كازا (الدار البيضاء) الخضرا إلى غزة الحرة".
وكأن "ألتراس الوينرز" عشاق الوداد البيضاوي، الفريق المنافس للرجاء حيث تصنع مباريات "الديربي" المحلي بينهما الحدث دائما في المغرب، لم يريدوا لألتراس النسور أن "يستفردوا" بدعم غزة بالكلمات والألحان، فأبدعوا بعد اندلاع طوفان الأقصى أغنية "فلسطين أرض الصمود"، وأهدوها لغزة وفلسطين.
ويوضح بلعودي أن أغنية ألتراس الوينرز هي تعبير متجدد لارتباط وثيق للشباب مع القضية الفلسطينية التي هي ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هي القضية المركزية للمسلمين جميعا.
ويشرح بأن إبداعات الشباب المغربي والعربي تؤكد أن شباب الأمة رغم معاناتهم من مشاكلهم اليومية، ما فتئوا يبرهنون للجميع أن مشاعرهم إزاء فلسطين ثابتة وراسخة، ويعبرون عن ذلك بكل وسيلة ممكنة، سواء تعلق الأمر بأغانٍ، أو لافتات، أو شعارات خلال المناسبات الرياضية، أو حتى من خلال المشاركة في وقفات ضد جرائم الاحتلال.
"نصلي جميعا"تبدأ الأغنية الحماسية لألتراس الوينرز بتقرير أن "فلسطين، أرض المسلمين"، وتخاطب صلاح الدين الأيوبي قائلة "آه يا صلاح الدين، على طريقك سايرين، نموتوا حنايا (نحن) وتحيا فلسطين".
وتزيد "جنين والخليل وغزة، إن شاء الله نحرروك يا أقصى، القدس يا لحبيبة، عليك طالت الغيبة، يا رب احفظها لينا، نصليو فيها مجموعين".
أمنية بصلاة جماعية في القدس الحبيبة التي "طالت عليها الغيبة"، لينسجم بذلك عشاق الوداد البيضاوي، مع عشاق الرجاء البيضاوي الذين عبروا عن يقينهم بتحرر الأقصى، ورغبتهم في شد الرحال إلى هناك قائلين "رجاوي فلسطيني، حبيت نمشي شكون يديني (من يأخذني)".
ولعلها أمنية تتحقق، فيستعيد هشام ابتسامته، وكذلك عشاق الكرة، وذلك بعد أن يستعيد إخوانهم في غزة وفلسطين أرضهم وحريتهم وبعضا من ابتسامتهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الرجاء البیضاوی
إقرأ أيضاً:
عمّال البناء في رمضان.. إرادة لا تنكسر لأجل لقمة العيش
تحت شمس الظهيرة وبين أسقف بنايات عالية تُكتب قصة صيامٍ مختلفة في قلب مواقع البناء، من هنا يتحوّل عرق الجبين إلى شاهد على الإرادة، والقماش المبلل لتفادي وهج الظهيرة، يقف عمال البناء يصارعون الجوع والعطش وذكريات الأوطان البعيدة، ساعات الصيام في رمضان تقاس بعدد الأحجار التي ينهون تصفيفها قبل أذان المغرب، يجتمعون من مختلف الجنسيات على موائد إفطار بلا زخارف، تُضاء بضحكات تُخفي دموع الغربة، ووجبات يطبخونها بأيديهم، وأحيانا تصلهم مبادرات مجتمعية.
خلال الأسطر القادمة تغوص "عُمان" في عالم لا يعرف الموائد الفاخرة، ولا الفوانيس والإضاءات الرمضانية المضيئة، عالم تُختزل فيه روح الشهر الفضيل في قطرة ماء وصمود يومي يُعيد تعريف معنى "الروح الرمضانية".
مع أول خيوط الفجر، يتناول محمد حنيف علي سحوره بسرعة قبل أن يبدأ يومه، بينما ينتظر أذان الفجر لبدء الصوم، يعد نفسه لساعات من العمل الشاق تحت أشعة الشمس، قال "أبدأ عملي الساعة السادسة والنصف صباحا وأنتهي عند الساعة الخامسة مساءً وأحيانًا الساعة الرابعة والنصف، وأشعر بالتعب في حدود الساعة الثانية ظهرًا وأن طاقتي قاربت على الانتهاء" هكذا بدأ حديثه محمد حنيف - عامل بناء وهو يمسح عرقه الممزوج بغبار الأسمنت.
وتنهد وأكمل مبتسمًا "تم تقليل عدد ساعات العمل من عشر ساعات إلى تسع ساعات فقط ولدينا استراحة ساعة واحدة خلال فترة العمل".
ويضيف محمد عبد الحسين: نصرُّ على الصوم رغم مواجهة بعض التحديات، وعند الإفطار أشعر أن تعبي ذهب برضا الله وهذا يكفيني".
أما علم عبدالعلي فحوَّل موقع البناء إلى مائدة أمل، عند الساعة الخامسة عصرا يُنهي علم عمله في البناء لكن يومه لم ينتهِ بعد، بينما يسرع زملاؤه للاستحمام وأخذ قسط من الراحة استعدادًا لتناول الإفطار، يذهب علم الذي يرتدي حذاءً مهترئا لإعداد بعض الوجبات البسيطة ليشعر زملاؤه بالدفء الأسري، حيث حوَّل علم عبدالعلي زاوية في موقع العمل إلى "مطبخ مؤقت" عبارة عن صندوق خشبي يضم موقدا صغيرا وأواني قديمة وبعض البهارات، ورغم التعب ينعش علم المكان برائحة الأرز والعدس لأنها الوجبات المفضلة لزملائه.
ويعلّق محمد عبد الحسين قائلا: "نجتمع على الفطور نضحك ونتبادل الأحاديث وبينما يوزع علم الطعام أشعر أنني وسط عائلتي، حيث إن طعم الأكل ليس مهما، بل دفء علم عبدالعلي الذي يطعمنا كأبنائه له شعور مختلف". ويتوقف للحظة ويشرح بكلمات أكثر بساطة وهو يمسح وجهه المغبّر بكم قميصه "لم يغيّر علم عبدالعلي موقع البناء إلى مائدة طعام فحسب، بل صنع ألفة بين عمّال من مختلف الدول، فأطباقه البسيطة تُذيب حدود الغربة، وتثبت أن روح شهر رمضان المبارك قادرة على إيجاد الفرح حتى بين أعمدة الحديد والإسمنت".
وكان إقبال أبو البشر يقف بعيدا ويلف رأسه بقطعة قماش مبللة بالماء واقترب وقال: "الصوم وقت العمل تحت الشمس معجزة، ورمضان هذا العام جاء كريما حتى بطقسه فالجو لطيف ليلا ومعتدلا نهارا، ولا أخفي شعوري بحرارة الشمس فوق رأسي بعض الأوقات مثل اليوم!".
وعن سؤالنا لماذا تضع قطعة القماش المبلولة على رأسك قال "منذ أولى ساعات العمل أغمس قطعة القماش في دلو ماء وألفها حول رأسي وكل ساعة أُعيد تبليلها لأنها تحميني من حرارة الشمس وتقلل شعور العطش والجفاف لديّ". ويستكمل بعد تبليله لقطعة القماش "عند الإفطار أول جرعة ماء تذوّب التعب، نحن هنا نعمل من أجل أسرنا البعيدة التي تنتظر منا مصروفا شهريا لمتطلباتهم واحتياجاتهم".
ويختتم محمد حنيف قائلا: "سلطنة عمان بلد كريم والعمانيون شعب طيب ومبتسم دائما، في بعض الأحيان تصلنا وجبات ساخنة من متبرعين، ولكننا نعتمد على زميلنا علم عبدالعلي في إعداد الفطور بوجبات بسيطة نتشاركها معا، وينتهي يومنا بعد رجوعنا من صلاة التراويح مشيا على الأقدام، ونستعد ليوم عمل جديد".