الدعم الشعبي للفلسطينيين والسياسي لإسرائيل
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
الحاصل أن إسرائيل المؤيّدة من الغرب لن تتوقف عن تحقيق أهدافها في غزة والانتقام من حماس
زاد الدعم الشعبي المؤيد لحق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس، وعدم اختزال مقاومتهم في حماس والوجه القاتم الذي أرادت إسرائيل إلصاقه بها، وبدأت حملات دعم معنوية تنتشر، شرقا وغربا، بينما لا يزال الدعم السياسي مستمرا لإسرائيل في دول غربية عديدة، ووصل إلى حد التطابق مع روايتها لأسباب الحرب على قطاع غزة وتوسيع نطاق التدمير فيه، بشرا وحجرا.
تعالت بعض الأصوات الشعبية في الولايات المتحدة وأوروبا لحث النخب السياسية على النظر بإنصاف لجوهر الأزمة، إلا أن الممانعة جاءت صارمة، وبموجب تكرار الحديث عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس تم هدم جزء من القوام الرئيسي لمنظومة القيم الإنسانية التي شيدها الغرب على مدار عقود طويلة، لأن هذا الحق أصبح يستثني الفلسطينيين منه.
حصلت إسرائيل على مجموعة كبيرة من المواقف السياسية والعسكرية الغربية، منحتها حججا قوية للتمادي في تصرفاتها ضد سكان غزة، بذريعة أنها تريد اقتلاع القوة المسلحة لحركة حماس فوق الأرض وتحتها.
لم يعلم الكثير من الساسة في الغرب أن الضوء الأخضر الذي قدموه إلى إسرائيل يمكن أن يؤدي إلى نتيجة عكسية على المستوى الشعبي، فالرفض الذي عبرت عنه تظاهرات عدة وفي دول مختلفة كان أحد تجليات الدعم الغربي المُفرط لإسرائيل.
يعتقد من يقومون بالتظاهر في الشوارع أن هذا الفعل يكفي لتغيير المواقف السياسية، ويتجاهل أصحابه أن التظاهر نفسه قاصر على دعم إسرائيل، ومن خرجوا في شوارع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا تم التصدي لهم، ولم تسمح بعض الدول بخروجهم أصلا، وهي إشارة على أن الدعم الشعبي لا يغير المواقف السياسية.
خرجت الحرب على غزة من نطاق الحسابات الإنسانية ورؤية القانون الدولي والشرعيات الأممية التي حصل عليها الشعب الفلسطيني عن مدى عقود، ودخلت في مربع الدفاع عن مصالح الدول الغربية، فإسرائيل أشبه برأس حربة، وأن التخلي عنها أو الضغط عليها تحت وقع الحماس الشعبي مستحيل حدوثه، فالضربة التي وجهتها حركة حماس في السابع من أكتوبر الجاري لم توجه إلى جيش إسرائيل فقط، بل ضربت معها قلب وعقل الكثير من الدول الغربية.
يمكن للتظاهرات أن تحقق نتائج سياسية جيدة في حالات أخرى، لكن في حالة إسرائيل تؤدي إلى نتائج عكسية، لأن الاستجابة لها والرضوخ لمطالبها بوقف الحرب، أو حتى الضغط بقوة لإدخال المساعدات الإنسانية يفرّغ العلاقة مع إسرائيل من مضمونها القائم على عدم وضع حد لدعمها في المواقف المصيرية، والتي إذا انكسرت فيها الدولة اليهودية ستصل تداعياتها إلى الغرب.
أخذت المعركة بين إسرائيل والفلسطينيين بعدا دينيا ظاهرا هذه المرة، ممثلا في التوراتي الذي يخيم ضمنيا على خطاب المسؤولين والنخب السياسية والإعلامية في الأول، والقرآني الواضح في تصريحات قادة حركة حماس ومن يؤيدونها.
فاق الدعم الغربي نظيره الذي قُدم إلى إسرائيل في حرب أكتوبر 1973 مع مصر، لأن الحرب الأولى كانت دوافعها معروفة في استرداد سيناء المحتلة، بينما الحرب الثانية الراهنة لها آفاق تتجاوز صد العدوان عن غزة وفك الحصار المفروض عليها، أو حتى وضع حل الدولتين على الطاولة وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وتصل إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
بصرف النظر عن مدى واقعية هذا الهدف، فالدول الغربية تعلم أن ترديده يحيي نفسا عربيا وإسلاميا اندثر منذ عقود طويلة، ويمكن أن يفتح الباب لطموحات تهدد المصالح الغربية في المنطقة والعالم، بالتالي فوقوف غالبية القادة علنا بجوار إسرائيل هو رسالة تحمل نوعا من الدفاع عن النفس لا تخطئها عين وقطع الطريق على تكرار “المغامرة” التي قامت بها حماس وتسببت في جرح غائر لدى إسرائيل وحلفائها.
تشير هذه المعطيات إلى الحد من التعويل على دور التظاهرات الشعبية في التأثير على القيادات الغربية، ولن ينسى العالم مئات الآلاف الذين خرجوا في لندن للتنديد بالغزو الأميركي للعراق منذ نحو عقدين وأخفق صوتهم في هز شعرة في حكومة لندن أو أي من الحكومات المؤيدة للحرب، فقرارها اتخذ بلا رجعة، وقد تكون بريطانيا اعترفت بالخطأ لاحقا، لكنها في خضم الحرب اندفعت وراء الحليف الأميركي.
يمكن أن نرى مقاطع من هذا المشهد تتكرر في الحرب الإسرائيلية على غزة في المستقبل، لأن حجم الدمار كبير، والتداعيات واسعة النطاق، وأي محاسبة داخل إسرائيل أو خارجها لن تعيد ضحايا غزة إلى الحياة، أو تجلب معها اعتذارا لما ارتكب من جرائم، وبالطبع لن تعيد العجلة إلى الوراء، فما كان قبل عملية طوفان الأقصى لن يكون شبيها بما بعدها.
من المفيد أن يكون هناك دعم شعبي للفلسطينيين لرفع روحهم المعنوية وليشعروا أنهم جزء من العالم الذي غابت عنه معايير الحق والعدالة والقانون، وبقيت فيه معايير الظلم والبغي والعدوان، وأكثر من ذلك قد تكون المسألة خيالية، لأن حرب غزة ربما تتحول إلى حرب إقليمية، كل طرف فيها على قناعة بأنه يملك الحق في الوصول إلى أهدافه كاملة بالوسائل التي يراها مناسبة.
من المفيد أيضا أن يرى الفلسطينيون وغيرهم المواقف الغربية على وجهها الصحيح ليعلموا كيف يدار العالم، ويتيقنوا من مكانة إسرائيل فيه، فمع أنها تبدو عبئا على كاهل بعض الدول، إلا أن دعمها لم يتزحزح، حاليا على الأقل، ما يؤكد أهميتها، وأنها ليست دولة احتلال تقليدي أو مركزا متقدما للغرب في منطقة الشرق الأوسط، فقد زرعت خصيصا لتبقى منغصا لمن يمثلون خطرا على الغرب.
الحاصل أن إسرائيل المؤيّدة من الغرب لن تتوقف عن تحقيق أهدافها في غزة والانتقام من حماس دون التدقيق في الخطوة التالية، فالخطاب الغربي لم يهتز بموت طفل أو امرأة فلسطينية، ومرتاح للرواية الإسرائيلية الخاصة بضحايا حماس في اليوم الأول لطوفان الأقصى، ولا يعبأ بالصور والفيديوهات التي تحوي مشاهد مفزعة في غزة.
تكشف هذه المخاتلة عن جزء معتبر من الموقف الغربي، فهو لن يتأثر بتظاهرات شعبية تخرج من هنا أو هناك، فوقع الصدمة عليه لا يزال قويا، بما يفرض توفير أقصى درجات الدعم لإسرائيل، وعدم الاعتداد بضغوط شعبية من الداخل، أو سياسية من الخارج، فالمعادلة محسومة في الانحياز لإسرائيل إلى أن تصل إلى نقطة مريحة لها.
لا يعني هذا أن التظاهرات فقدت مفعولها السياسي في الغرب عموما، لكن من يرى تأثيراتها في قضايا محلية داخل فرنسا والولايات المتحدة تحديدا وطريقة التعامل مع المتظاهرين يعلم أن روافدها الإيجابية في القضايا الخارجية أشد صعوبة.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة إسرائیل فی الدفاع عن
إقرأ أيضاً:
إبادة دارفور التي لم تنته مطلقا
ها هو فصل جديد من الأهوال تتكشف صفحاته في منطقة دارفور بالسودان، منطقتي.
ففي الثالث عشر من أبريل، استولت قوات الدعم السريع ـ وهي جماعة مسلحة مدعوة من دولة عربية ـ على مخيم زمزم وهو أكبر ملاذ للنازحين في السودان. وبوصفي نازحة وناجية من الإبادة الجماعية، فقد تشبثت بهاتفي أشاهد الفظائع عبر مقاطع فيديو مشوهة، محاولة أن أساعد من بعيد في إجلاء الناجين وتدبير الطعام لهم والماء والدواء، وتعقب الموتى منهم أو الأحياء.
على مدى سنتين، ظلت قوات الدعم السريع في حرب مع القوات المسلحة السودانية، أي الجيش السوداني الرسمي المدعوم من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وإيران وروسيا.
عادت العاصمة السودانية الخرطوم ـ بعد خضوعها طوال شهور للنهب والعنف الجنسي في ظل احتلال من قوات الدعم السريع ـ إلى سيطرة القوات المسلحة السودانية، لكن في موطني، أي شمالي دارفور، توشك الفاشر على الوقوع في أيدي الميلشيات شبه العسكرية.
وفي حين تواصل الجماعتان القتال، والفوز بالأرض وخسارتها، يبدو أن الثابت الوحيد هو أن المدنيين السودانيين يتحملون عناء الانتهاكات.
والناس من أبناء دارفور يتذكرون جيدًا هجمات مطلع القرن الحالي المعترف في عام 2003 بكونها إبادة جماعية والتي تحقق فيها المحكمة الجنائية الدولية. ولقد حذر خبير منع الإبادة الجماعية الأممي والولايات المتحدة من أن الإبادة الجماعية جارية تارة أخرى.
وفي رأيي أن إبادة دارفور الجماعية لم تنته قط. ولو أن التطهير العرقي الذي جرى في الجنينة سنة 2023 وحصار الفاشر وإحراق عشرات القرى خلال الأشهر القليلة المنصرمة ليس بالدليل الكافي على ذلك، فمن المؤكد أن أهوال مخيم زمزم دليل كافٍ. لقد باتت حياتنا نحن السودانيين ووجودنا نفسه مهددين.
فقد أدى أسبوع من القصف وإطلاق النيران في زمزم إلى مصرع أكثر من أربعمائة شخص، من الأطفال وعمال الإغاثة، وقادة المجتمع، ومن أقاربي. فاضطر مئات آلاف المقيمين في المخيم إلى الهرب بأنفسهم. وترددت أخبار تفيد أن أطفالًا صغارًا ماتوا من الظمأ وهم يحاولون الفرار. تهدمت العيادات، وترددت أخبار عن وفاة متطوعين في المطابخ الجماعية، وأطباء، وتفيد بأن الجرحى ينزفون دون أن يمد أحد لهم يد العون. وتظهر في الصور المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يبدو أنه عمليات إعدام لمدنيين. ومن عداد المفقودين في مخيم زمزم ثمان وخمسون امرأة وفتاة من أقاربي وعائلتي الكبيرة يقول شهود عيان إن قوات الدعم السريع اختطفتهن. كما اختفى بعض من لم يتمكنوا من الهرب، ومن هؤلاء اثنان من أعمامي.
في زمزم عملت، ودرّست، وبكيت، وفرحت. فعلى مدى سنين، كان المخيم مأوى وأملا للناجين من إبادة دارفور الجماعية. وقد نشأ المخيم من عدم، حتى أصبح مجتمعًا مزدهرًا أعادت فيه العائلات النازحة تأسيس حياتها وعملت من أجل أن توفر لأبنائها مستقبلا أفضل. وشأن كثير من الشباب، تقدمت لمد يد العون، بالتدريس في مخيم زمزم في عامي 2013 و2017. أقمنا المخيم والاقتصاد وسددنا الفجوات الناجمة عن إجلاء جماعات المساعدة الدولية من المنطقة بعد عقود من الحرمان والتشريد والعزلة الاقتصادية والسياسية.
والآن أبيد كل ذلك. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن زمزم يحترق، في صدى مؤلم للماضي حينما حركت صور مماثلة العالم إلى العمل في دارفور. في غضون أيام من فبراير، أوقفت منظمتا أطباء بلا حدود وبرنامج الغذاء العالمي عملياتهما في المخيم بسبب الخطر.
وفي ظل إعاقة قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية وصول المساعدات في جميع أنحاء دارفور وعرقلتهم أو نهبهم لها، ضربت مجاعة من صنع الإنسان مخيم زمزم بشدة. وكانت منظمة أطباء بلا حدود في العام الماضي قد حذرت من وفاة طفل كل ساعتين بسبب سوء التغذية هناك. وذكرت منظمة «أنقذوا الأطفال» في ديسمبر أن العائلات تتغذى على علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من انتشار العنف في الأشهر الأخيرة، استمر الناس في اللجوء إلى زمزم، لكونه أكثر أمنا من أي مكان آخر.
وقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة أن ما يصل إلى أربعمائة ألف شخص اضطروا إلى الفرار من زمزم في ثنايا هجوم قوات الدعم السريع. وقد تم تسكينهم في أرض قاحلة تقع شمالي الفاشر وليس في متناولهم فيها غير قدر محدود للغاية من الطعام والماء. وانهار الناجون المنهكون المتجهون سائرين على الأقدام إلى «طويلة»، وهي بلدة على بعد نحو ستة وثلاثين ميلًا غرب زمزم. وفي مكان قريب، تعرض أبو شوك، وهو مخيم آخر للنازحين، لهجمات متكررة من قوات الدعم السريع. وتعرض العشرات للقتل. فهذا ليس محض تهجير، ولكن إبادة.
وتعد أفعال قوات الدعم السريع جزءًا من حملة إرهاب أشمل. فالجماعة متهمة باستخدام القتل خارج نطاق القضاء والعنف الجنسي والتجويع المتعمد بوصفها أسلحةً حربيةً ضد المدنيين. ولقد مارست قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية الوحشية بلا هوادة ضد المدنيين في صراعهما على السلطة. وقد ترقى فظائعهما إلى مستوى جرائم الحرب، وفقًا لما قالته بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الجهود الإنسانية وجهود السلام والدبلوماسية الدولية التي تركز على إنهاء الصراع لم تقم فقط بإقصاء المدنيين، وإنما ركزت أيضا وباستمرار على الأطراف المتحاربة. وقد عجز الجنرالات الذين تركزت عليهم تلك الجهود المرة تلو الأخرى عن إنهاء الحرب. فلا بد من محاسبتهم قبل أن تحل علينا مذبحة أخرى.
قبل سنوات، عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، قدت مسيرة سلام عبر السودان لترويج مسؤولية جماعية عن السلام. كانت آمال الناس بسيطة ولكنها عميقة: فقد كانوا يريدون الطعام على موائدهم، والمدارس، والصحة الجيدة، والفرصة لرؤية أطفالهم يكبرون. واليوم، تبدو تلك الأحلام أبعد منالا من أي وقت مضى.
وأكبر أمل للسودان الآن إنما يكمن في الأفراد المهتمين، وفي الناجين الشجعان الباقين على الأرض، وفي الجماعات السودانية من قبيل (الشبكة الإنسانية لنازحي الداخل) التي حافظت على حياة مخيمات من قبيل زمزم. وبرغم أن جمع التبرعات ضروري لإنقاذ الأرواح، فكل تمويل العالم لن يكفي لإنهاء هذه الحرب إذا استمرت دول غنية في دعم الأطراف المتحاربة.
ولا بديل عن أن يفرض قادة العالم ضغطا على القادة العسكريين وداعميهم من أجل السماح بإيصال المساعدات والموافقة على وقف فوري لإطلاق النار في المناطق الأكثر تضررًا، فدونما عمل فوري، يشمل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، من أجل حماية المدنيين وخلق عملية مفتوحة تعطي الأولوية لإسهام المدنيين في جهود السلام وموافقتهم عليها، سوف يستمر محونا سياسيًا وعمليًا. ولو أننا حاضرون على الطاولة، فلا ينبغي أن نكون محض رموز أو أفكار ثانوية. وإنما يجب أن نقود الجهود التي ستحدد كيف نعيش بقية حياتنا.
وإلى أعمامي وأبناء عمومتي الذين ما زالوا محبوسين في زمزم، أقول: ألمكم ليس خفيًا. وشجاعتكم غير منسية. ولقد خذلكم العالم اليوم، ولكننا سنناضل لكيلا يخذلكم في الغد. وفي مواجهة عنف الإبادة الجماعية، يكون أملنا في حد ذاته فعلًا وتحديًا.