حال التخبط الذي تطبع المواقف الفرنسية الرسمية إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة لا تحتاج إلى إمعان في التفصيل والتحليل: تكفي المقارنة بين 1) ارتجال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تلك الفكرة الركيكة حول انخراط التحالف الدولي ضد «داعش» (الأمريكي/ البريطاني أساساً، ومشاركة فرنسا فيه لا تختلف كثيراً عن حضور دولة مثل الفلبين أو البوسنة والهرسك!) في القتال ضدّ «حماس»؛ و2) خطبة وزيرة الخارجية الفرنسية أمام مجلس الأمن الدولي (التي دعت إلى هدنة إنسانية تمهد لوقف إطلاق النار)؛ و3) بيان رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن أمام الجمعية الوطنية/ البرلمان (هدنة إنسانية أيضاً).



وللمرء أن يضيف وجهة رابعة إلى هذا التخبط، في مساعي قصر الإليزيه للتخفيف من سخف فكرة ماكرون، ثمّ تصريحات الرئيس نفسه خلال لقاءات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

بيد أنه انحطاط على صعيد دبلوماسي، يتناغم تماماً مع أنساق انحطاط أخرى عديدة شهدتها وتشهدها أصعدة إعلامية رسمية وخاصة، وأخرى قانونية وقضائية وإدارية، وثالثة رقابية وأمنية تختلط فيها دوافع الانحياز للرواية الإسرائيلية وحربها الهمجية ضدّ القطاع وأهله، بحوافز كتم أي صوت مخالف وتأثيم أي موقف متعاطف مع الشعب الفلسطيني حتى في أدنى المستويات الإنسانية. 

شهد الفرنسيون اضطرار وزير الداخلية إلى الانحناء أمام رأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ وتراجعه بصدد اتهام لاعب كرة القدم كريم بنزيمة بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين، لاعتبار جوهري قاطع في ناظر شرطي فرنسا الأوّل هو تعاطفه مع الضحية الفلسطينية.

كذلك تابع أحفاد فولتير تفاصيل زيارة العار التي قامت بها ممثلة السلطة الرابعة في هرم الديمقراطية الفرنسية، رئيسة البرلمان الفرنسي يائيل برون بيفيه، إلى غلاف غزّة المحتل، وإعرابها عن دعم «لامحدود» لدولة الاحتلال؛ صحبة وفد لا ينحاز أفراده إلى الاحتلال بصفة مطلقة فقط، بل يلجأ أحدهم (مائير حبيب) إلى تصنيف عنصري منحط للعرب وللفلسطينيين.

ولا عجب في خضمّ هذه الأنساق من التخبط أن تحضر «الفلسفة» الفرنسية، بل لا يصحّ أصلاً ألا تحضر جرياً على عادتها كلما اتصل الأمر بالكيان الصهيوني: صاخبة جوفاء منحازة عمياء؛ على ألسنة رهط الثلاثي المنضوي تحت مسمى»الفلاسفة الجدد» ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار ـ هنري ليفي.

ولأنّ تسعة أعشار أفكارهم بصدد الحرب الإسرائيلية الهمجية ضدّ قطاع غزّة ليست أكثر من تنويعات على حفنة محدودة تماماً من طرائق التعصّب المطلق للاحتلال، فإنّ هذه السطور سوف تكتفي بالتوقف عند فنكلكراوت؛ وليس، أيضا، لأنه كبيرهم الذي يعلّمهم (فلا علم أصلاً، ولا من يتعلّم) بل ببساطة لأنّ مظاهر انحيازه هي الأشدّ اقتراباً من الهستيريا. ثمة، إلى هذا، اعتبار آخر يبرر إفراده عن الثلاثي، مفاده أنه أكثرهم استسهالاً لاجترار المقولات ذاتها، جيئة وذهاباً إذا صحّ التعبير، وبصرف النظر عن ضحالتها تارة أو تسطيحها إلى درجة الإخلال الفاضح تارة أخرى.

شهد الفرنسيون اضطرار وزير الداخلية إلى الانحناء أمام رأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ وتراجعه بصدد اتهام لاعب كرة القدم كريم بنزيمة بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين
وفي حوار مع أسبوعية «ماريان» الفرنسية، استخلص «الفيلسوف» هذا المآل المستعصي، من دون أن يكترث بتصنيفه تحت خانة العقدة غير القابلة للحلّ، أو حتى تلك التي تحتاج إلى سيف الإسكندر الأكبر على غرار العقدة الغوردية: «التعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة مستحيل، والانفصال مستحيل أيضاً». ذلك يعني أنّ سائر قرارات الأمم المتحدة، وجميع ما ينصّ عليه القانون الدولي حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، نافلة بحكم الأمر الواقع كما يشخصه «الفيلسوف» أو هي ببساطة لا قيمة لها ولا جدوى من مرجعيتها ما دامت استحالة التعايش هي المبدأ الناظم. في توسيع لهذه الفكرة/ العقدة: إذا كان المستحيل يسري على التعايش مع الفلسطينيين، فإنّ قواعد الإمكان (والترخيص والشرعية والمساندة) تنطبق على أيّ وكلّ سلوك تعتمده دولة الاحتلال في ممارسة الاستيطان والتمييز العنصري والإبادة والتطهير العرقي وترسيخ منظومات الأبارتيد.

لكنّ «الفيلسوف» خلال الحوار ذاته، يحار في العثور على تفسير ــ فلسفي أو سواه، سيّان ــ لمعطيات هذا المشهد التالي: «لماذا هذا العداء؟ لماذا الشارع العربي، من القاهرة وحتى الدار البيضاء، يمتلك كلّ أسباب التجنيد، ويصرخ بعدائه لهذه الأمّة الصغيرة [دولة الاحتلال]؟ لماذا جماعات الـ Wokes الغربيون ينضوون الآن تحت راية حماس؟ لا جواب عندي». حقاً، لا جواب لدى «الفيلسوف» على أسئلة بالغة البساطة مثل هذه؟ وكيف عثر، بسهولة فاضحة، على إجابات لمطارحات أخرى ضمن الحوار ذاته، من طراز هذا التركيب الاستغفالي الصريح: الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة، أعطى «حماس؛ والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، أعطى «حزب الله»؛ والانسحاب من الضفة الغربية، سوف يعطي الصواريخ والمذابح؛ حيث لا مجال عند «الفيلسوف» لأية وقفة، قانونية أو سياسية أو تاريخية، لمفردة الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا في ظنّه يتوجب أن يبدو الانسحاب الإسرائيلي بمثابة أعطية كريمة؟
وإذْ تسير هذه «الفلسفة» عامدة وعن سابق قصد اختزالي وتصميم تضليلي، خلف التخبط الرسمي كما تجلى في المستويات العليا لهرم السياسة في الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ فإنّ حرص فنكلكراوت على وضع الـ Wokes ضمن أطراف التأييد لـ«حماس» يتجاوز صياغة نسق جديد من الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني، فيبلغ شأو توريط شرائح من اليسار الأمريكي والغربي عموماً، ثمّ زجّ حركات احتجاج السود والأفرو ـ أمريكيين في بوتقة تأثيم ناقدي الاحتلال. فمن المعروف أنّ تيارات الـWokeism صعدت بقوّة في الولايات المتحدة ابتداء من سنة 2010، وتبلورت على نحو أوضح بعد احتجاجات فيرغسون سنة 2014 ونهوض شعار «حياة السود مهمة»؛ والتسمية صارت تشمل إحقاق الحقوق المدنية والجنسية مقابل أنماط التمييز العنصري والجندري، ولم يكن عجيباً أنها اكتسبت طابعاً يسارياً وتقدمياً استوجب محاربتها من أطراف يمينية وعنصرية شتى، ليس في أمريكا وحدها بل في أوروبا والغرب عموماً.

وفي الربط بين الـ Wokes و«حماس» فإنّ فنكلكراوت لا يغرّد خارج سرب فرنسي دشّن تلاوينه يميني متطرف وعنصري وانعزالي وكاره للإسلام والمهاجرين عموماً مثل إريك ويمور؛ وانخرط فيه وزراء تحت إدارة ماكرون، أمثال وزيرة التعليم العالي السابقة فريديريك فيدال، ووزير التربية السابق جان ـ ميشيل بلانكير، ووزيرة التنوّع إليزابيت مورينو.

ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، في حزيران (يونيو) 2002، عند ذروة البربرية الفاشية الإسرائيلية ضدّ مخيّم جنين، كان إدغار موران (الفيلسوف وعالم الاجتماع المعروف) وسامي نير (الكاتب والوزير السابق) ودانييل سالناف (الكاتبة والأكاديمية)؛ قد وقّعوا في صحيفة «لوموند» الفرنسية، مقالاً مشتركاً بعنوان «إسرائيل وفلسطين: السرطان»؛ انتقدوا فيه سياسات أرييل شارون، واعتبروا أنّ طبيعة السرطان ناجمة عن اعتلال سياسي ـ أمني ينهض على الإخضاع والهيمنة. ولقد سارعت منظمتان مناصرتان للاحتلال إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الثلاثة، ومعهم جان ـ ماري كولومباني رئيس تحرير «لوموند» يومذاك؛ ومرّت المحاكمة بأطوار الحكم والاستئناف والنقض، فانتهت إلى تبرئة الثلاثة. وتلك حال لم ترضِ «الفيلسوف» غنيّ عن القول، فكتب يسخر من الثلاثة ومناصريهم (كان في عدادهم أمثال بول ريكور، ريجيس دوبريه، جان بودريار، جيل مارتينيه، بيير نورا، ألان تورين، جياني فاتيمو، وبيير ـ فيدال ناكيه)؛ لأنهم لم يذكّروه إلا بقول شارل بودلير: «ما يثير السأم في فرنسا أنّ الجميع يتصرّفون مثل فولتير»!.
إذْ توجّب، في ناظره، أن يتصرفوا مثله، أو مثل… بنيامين نتنياهو!

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ماكرون فرنسا الاحتلال فرنسا الاحتلال ماكرون مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

باريس تدعو الجزائر إلى العدول عن قرار طرد موظفين في السفارة الفرنسية

يمن مونيتور/قسم الأخبار

دعا وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو الجزائر إلى التراجع عن قرار طرد موظفين في السفارة الفرنسية لدى الجزائر.

وكانت السلطات الجزائرية قد أعلنت اليوم عن طلبها مغادرة 12 موظفا من سفارة فرنسا للأراضي الجزائرية خلال 48 ساعة، وفقا لما صرح به وزير الخارجية الفرنسي، مشيرا إلى أن هذا القرار جاء ردا على توقيف ثلاثة جزائريين في فرنسا.

وقال بارو في تصريح مكتوب وجه إلى صحافيين: “أطلب من السلطات الجزائرية العدول عن إجراءات الطرد هذه التي لا علاقة لها بالإجراءات القضائية الجارية” في فرنسا. وتابع: “في حال الإبقاء على قرار طرد موظفينا لن يكون لنا خيار آخر سوى الرد فورا”.

وقال مصدر دبلوماسي لوكالة “فرانس برس” إن من بين الأشخاص الذين تنوي الجزائر طردهم، موظفين تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية.

يذكر أن محكمة في باريس وجهت الاتهام إلى ثلاثة رجال أحدهم موظف في إحدى القنصليات الجزائرية في فرنسا، تهمة التوقيف والخطف والاحتجاز التعسفي على ارتباط بمخطط إرهابي على ما أكدت النيابة العامة الوطنية الفرنسية في قضايا مكافحة الإرهاب، حيث احتجت الخارجية الجزائرية بشدة على قرار السلطات القضائية الفرنسية توجيه الاتهام ووضع أحد موظفيها القنصليين الجزائريين العاملين على التراب الفرنسي رهن الحبس المؤقت، وأعلنت أن الأمين العام للوزارة استقبل السفير الفرنسي وأبلغه هذا الاحتجاج.

المصدر: “فرانس برس”/ “فرانس 24.

 

 

 

مقالات مشابهة

  • مصادر للقاهرة الإخبارية: حماس تدرس المقترح الإسرائيلي.. والرد خلال الساعات القادمة
  • مقترح بلا ضمانات… لماذا ترفض المقاومة الفلسطينية المقترحات “الإسرائيلية”؟
  • بعد اعلان حماس فقدان الاتصال بآسري الجندي الأمريكي الإسرائيلي.. من هو عيدان ألكسندر؟
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي: اغتيال أبو حصيرة القيادي في حركة حماس
  • عاجل | الرئاسة الفرنسية: قرار بطرد 12 من موظفي الشبكة القنصلية والدبلوماسية الجزائرية في فرنسا
  • حماس تعلن فقدها الاتصال مع المجموعة الآسرة للجندي الإسرائيلي عيدان ألكسندر
  • حماس: الرد على مقترح التهدئة الإسرائيلي خلال 48 ساعة
  • باريس تدعو الجزائر إلى العدول عن قرار طرد موظفين في السفارة الفرنسية
  • القوات الإسرائيلية تقتحم مستشفى جنين وتعتقل فلسطينيًا .. وحماس: المقاومة مستمرة رغم بطش الاحتلال
  • الجزائر تطرد (12) موظفاً من السفارة الفرنسية