فرنسا والعقدة الإسرائيلية: الفلسفة خلف تخبّط الدبلوماسية
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
حال التخبط الذي تطبع المواقف الفرنسية الرسمية إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة لا تحتاج إلى إمعان في التفصيل والتحليل: تكفي المقارنة بين 1) ارتجال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تلك الفكرة الركيكة حول انخراط التحالف الدولي ضد «داعش» (الأمريكي/ البريطاني أساساً، ومشاركة فرنسا فيه لا تختلف كثيراً عن حضور دولة مثل الفلبين أو البوسنة والهرسك!) في القتال ضدّ «حماس»؛ و2) خطبة وزيرة الخارجية الفرنسية أمام مجلس الأمن الدولي (التي دعت إلى هدنة إنسانية تمهد لوقف إطلاق النار)؛ و3) بيان رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن أمام الجمعية الوطنية/ البرلمان (هدنة إنسانية أيضاً).
وللمرء أن يضيف وجهة رابعة إلى هذا التخبط، في مساعي قصر الإليزيه للتخفيف من سخف فكرة ماكرون، ثمّ تصريحات الرئيس نفسه خلال لقاءات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
بيد أنه انحطاط على صعيد دبلوماسي، يتناغم تماماً مع أنساق انحطاط أخرى عديدة شهدتها وتشهدها أصعدة إعلامية رسمية وخاصة، وأخرى قانونية وقضائية وإدارية، وثالثة رقابية وأمنية تختلط فيها دوافع الانحياز للرواية الإسرائيلية وحربها الهمجية ضدّ القطاع وأهله، بحوافز كتم أي صوت مخالف وتأثيم أي موقف متعاطف مع الشعب الفلسطيني حتى في أدنى المستويات الإنسانية.
شهد الفرنسيون اضطرار وزير الداخلية إلى الانحناء أمام رأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ وتراجعه بصدد اتهام لاعب كرة القدم كريم بنزيمة بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين، لاعتبار جوهري قاطع في ناظر شرطي فرنسا الأوّل هو تعاطفه مع الضحية الفلسطينية.
كذلك تابع أحفاد فولتير تفاصيل زيارة العار التي قامت بها ممثلة السلطة الرابعة في هرم الديمقراطية الفرنسية، رئيسة البرلمان الفرنسي يائيل برون بيفيه، إلى غلاف غزّة المحتل، وإعرابها عن دعم «لامحدود» لدولة الاحتلال؛ صحبة وفد لا ينحاز أفراده إلى الاحتلال بصفة مطلقة فقط، بل يلجأ أحدهم (مائير حبيب) إلى تصنيف عنصري منحط للعرب وللفلسطينيين.
ولا عجب في خضمّ هذه الأنساق من التخبط أن تحضر «الفلسفة» الفرنسية، بل لا يصحّ أصلاً ألا تحضر جرياً على عادتها كلما اتصل الأمر بالكيان الصهيوني: صاخبة جوفاء منحازة عمياء؛ على ألسنة رهط الثلاثي المنضوي تحت مسمى»الفلاسفة الجدد» ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار ـ هنري ليفي.
ولأنّ تسعة أعشار أفكارهم بصدد الحرب الإسرائيلية الهمجية ضدّ قطاع غزّة ليست أكثر من تنويعات على حفنة محدودة تماماً من طرائق التعصّب المطلق للاحتلال، فإنّ هذه السطور سوف تكتفي بالتوقف عند فنكلكراوت؛ وليس، أيضا، لأنه كبيرهم الذي يعلّمهم (فلا علم أصلاً، ولا من يتعلّم) بل ببساطة لأنّ مظاهر انحيازه هي الأشدّ اقتراباً من الهستيريا. ثمة، إلى هذا، اعتبار آخر يبرر إفراده عن الثلاثي، مفاده أنه أكثرهم استسهالاً لاجترار المقولات ذاتها، جيئة وذهاباً إذا صحّ التعبير، وبصرف النظر عن ضحالتها تارة أو تسطيحها إلى درجة الإخلال الفاضح تارة أخرى.
شهد الفرنسيون اضطرار وزير الداخلية إلى الانحناء أمام رأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ وتراجعه بصدد اتهام لاعب كرة القدم كريم بنزيمة بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين
وفي حوار مع أسبوعية «ماريان» الفرنسية، استخلص «الفيلسوف» هذا المآل المستعصي، من دون أن يكترث بتصنيفه تحت خانة العقدة غير القابلة للحلّ، أو حتى تلك التي تحتاج إلى سيف الإسكندر الأكبر على غرار العقدة الغوردية: «التعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة مستحيل، والانفصال مستحيل أيضاً». ذلك يعني أنّ سائر قرارات الأمم المتحدة، وجميع ما ينصّ عليه القانون الدولي حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، نافلة بحكم الأمر الواقع كما يشخصه «الفيلسوف» أو هي ببساطة لا قيمة لها ولا جدوى من مرجعيتها ما دامت استحالة التعايش هي المبدأ الناظم. في توسيع لهذه الفكرة/ العقدة: إذا كان المستحيل يسري على التعايش مع الفلسطينيين، فإنّ قواعد الإمكان (والترخيص والشرعية والمساندة) تنطبق على أيّ وكلّ سلوك تعتمده دولة الاحتلال في ممارسة الاستيطان والتمييز العنصري والإبادة والتطهير العرقي وترسيخ منظومات الأبارتيد.
لكنّ «الفيلسوف» خلال الحوار ذاته، يحار في العثور على تفسير ــ فلسفي أو سواه، سيّان ــ لمعطيات هذا المشهد التالي: «لماذا هذا العداء؟ لماذا الشارع العربي، من القاهرة وحتى الدار البيضاء، يمتلك كلّ أسباب التجنيد، ويصرخ بعدائه لهذه الأمّة الصغيرة [دولة الاحتلال]؟ لماذا جماعات الـ Wokes الغربيون ينضوون الآن تحت راية حماس؟ لا جواب عندي». حقاً، لا جواب لدى «الفيلسوف» على أسئلة بالغة البساطة مثل هذه؟ وكيف عثر، بسهولة فاضحة، على إجابات لمطارحات أخرى ضمن الحوار ذاته، من طراز هذا التركيب الاستغفالي الصريح: الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة، أعطى «حماس؛ والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، أعطى «حزب الله»؛ والانسحاب من الضفة الغربية، سوف يعطي الصواريخ والمذابح؛ حيث لا مجال عند «الفيلسوف» لأية وقفة، قانونية أو سياسية أو تاريخية، لمفردة الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا في ظنّه يتوجب أن يبدو الانسحاب الإسرائيلي بمثابة أعطية كريمة؟
وإذْ تسير هذه «الفلسفة» عامدة وعن سابق قصد اختزالي وتصميم تضليلي، خلف التخبط الرسمي كما تجلى في المستويات العليا لهرم السياسة في الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ فإنّ حرص فنكلكراوت على وضع الـ Wokes ضمن أطراف التأييد لـ«حماس» يتجاوز صياغة نسق جديد من الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني، فيبلغ شأو توريط شرائح من اليسار الأمريكي والغربي عموماً، ثمّ زجّ حركات احتجاج السود والأفرو ـ أمريكيين في بوتقة تأثيم ناقدي الاحتلال. فمن المعروف أنّ تيارات الـWokeism صعدت بقوّة في الولايات المتحدة ابتداء من سنة 2010، وتبلورت على نحو أوضح بعد احتجاجات فيرغسون سنة 2014 ونهوض شعار «حياة السود مهمة»؛ والتسمية صارت تشمل إحقاق الحقوق المدنية والجنسية مقابل أنماط التمييز العنصري والجندري، ولم يكن عجيباً أنها اكتسبت طابعاً يسارياً وتقدمياً استوجب محاربتها من أطراف يمينية وعنصرية شتى، ليس في أمريكا وحدها بل في أوروبا والغرب عموماً.
وفي الربط بين الـ Wokes و«حماس» فإنّ فنكلكراوت لا يغرّد خارج سرب فرنسي دشّن تلاوينه يميني متطرف وعنصري وانعزالي وكاره للإسلام والمهاجرين عموماً مثل إريك ويمور؛ وانخرط فيه وزراء تحت إدارة ماكرون، أمثال وزيرة التعليم العالي السابقة فريديريك فيدال، ووزير التربية السابق جان ـ ميشيل بلانكير، ووزيرة التنوّع إليزابيت مورينو.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، في حزيران (يونيو) 2002، عند ذروة البربرية الفاشية الإسرائيلية ضدّ مخيّم جنين، كان إدغار موران (الفيلسوف وعالم الاجتماع المعروف) وسامي نير (الكاتب والوزير السابق) ودانييل سالناف (الكاتبة والأكاديمية)؛ قد وقّعوا في صحيفة «لوموند» الفرنسية، مقالاً مشتركاً بعنوان «إسرائيل وفلسطين: السرطان»؛ انتقدوا فيه سياسات أرييل شارون، واعتبروا أنّ طبيعة السرطان ناجمة عن اعتلال سياسي ـ أمني ينهض على الإخضاع والهيمنة. ولقد سارعت منظمتان مناصرتان للاحتلال إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الثلاثة، ومعهم جان ـ ماري كولومباني رئيس تحرير «لوموند» يومذاك؛ ومرّت المحاكمة بأطوار الحكم والاستئناف والنقض، فانتهت إلى تبرئة الثلاثة. وتلك حال لم ترضِ «الفيلسوف» غنيّ عن القول، فكتب يسخر من الثلاثة ومناصريهم (كان في عدادهم أمثال بول ريكور، ريجيس دوبريه، جان بودريار، جيل مارتينيه، بيير نورا، ألان تورين، جياني فاتيمو، وبيير ـ فيدال ناكيه)؛ لأنهم لم يذكّروه إلا بقول شارل بودلير: «ما يثير السأم في فرنسا أنّ الجميع يتصرّفون مثل فولتير»!.
إذْ توجّب، في ناظره، أن يتصرفوا مثله، أو مثل… بنيامين نتنياهو!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ماكرون فرنسا الاحتلال فرنسا الاحتلال ماكرون مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الشرطة الإسرائيلية تعتقل 6 معارضين خلال احتجاج بالقدس الغربية
اعتقلت الشرطة الإسرائيلية، اليوم الثلاثاء 25 مارس 2025، 6 معارضين لحكومة بنيامين نتنياهو خلال احتجاج نُظّم قبالة الكنيست والمجمع الحكومي الذي يضم رئاسة الوزراء ب القدس الغربية.
وفي ساعات الصباح، وصل المحتجون إلى مدخل الكنيست وأغلقوا أحد الطرق بالجلوس فيه قبل أن تجليهم الشرطة الإسرائيلية بالقوة.
وجاء الاحتجاج فيما يرتقب أن يبحث الكنيست مشروع قانون الميزانية العامة، ما يفرض على جميع المسؤولين والنواب القدوم إليه في حال إجراء تصويت.
وقالت الشرطة الإسرائيلية في بيان أرسلت نسخة منه للأناضول: "خلال الساعة الماضية، بدأ عشرات المشاركين بالاحتجاج والمسيرة التي جرت في القدس، بتعطيل النظام من خلال إغلاق الطرق حول المجمع الحكومي في القدس".
وأضافت أن ذلك جرى "سواء من خلال التظاهر بشكل غير قانوني أو من خلال ركن المركبات بطريقة مخالفة للقانون".
وتابعت الشرطة أن قواتها "تعمل حاليا على إعادة النظام وإخلاء المركبات وسحبها إذا لزم الأمر، وقد حاولت مجموعة من المتظاهرين التدخل في مهمة الشرطة لسحب المركبات".
وأردفت: "ألقت الشرطة القبض على 6 مشتبه بهم بتهمة الإخلال بالنظام وتم نقلهم إلى مركز الشرطة للاستجواب".
ونظم معارضون للحكومة سلسلة واسعة من الاحتجاجات خلال الأيام الماضية في مدينتي القدس الغربية وتل أبيب.
ويحتج المعارضون على إقالة رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك" رونين بار، وحجب الثقة عن المستشارة القانونية للحكومة غالي بهاراف ميارا وتعطيل اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
ونهاية 1 مارس/ آذار 2025 انتهت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل أسرى بين حركة " حماس " وإسرائيل، والذي بدأ سريانه في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، وتنصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من بدء المرحلة الثانية منه.
وأراد نتنياهو - المطلوب للعدالة الدولية - إطلاق سراح مزيد من الأسرى الإسرائيليين من غزة ، دون تنفيذ التزامات المرحلة الثانية، ولا سيما إنهاء حرب الإبادة والانسحاب من القطاع بشكل كامل، بينما تمسكت "حماس" ببدء المرحلة الثانية.
ومنذ استئنافها الإبادة الجماعية في 18 مارس الجاري، قتلت إسرائيل حتى السبت 730 فلسطينيا وأصابت 1367 آخرين، معظمهم أطفال ونساء، وفق وزارة الصحة.
ويمثل هذا التصعيد، الذي قالت تل أبيب إنه يجري بتنسيق كامل مع واشنطن، أكبر خرق لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي امتنعت إسرائيل عن تنفيذ مرحلته الثانية بعد انتهاء الأولى مطلع مارس الجاري.
ورغم التزام حركة "حماس" ببنود الاتفاق، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية، رفض بدء المرحلة الثانية، استجابة لضغوط المتطرفين في حكومته.
وبدعم أمريكي مطلق ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 163 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.
المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية الكنيست يصوت على ميزانية الدولة غير المسبوقة بحجم 620 مليار شيكل أكاديمي إسرائيلي: تل أبيب ترتكب إبادة جماعية بغزة وتصدرها للضفة الجيش الإسرائيلي يعلن قصف أهداف عسكرية في وسط سوريا الأكثر قراءة تفاصيل اجتماع وفد حماس مع وزير خارجية تركيا في أنقرة استشهاد أسير محرر متأثرا بجروحه برصاص الاحتلال في بيت لحم ألوية الناصر تعلن استشهاد قائد وحدة المدفعية وعضو مجلسها العسكري الحكومة تعلن موعد عطلة عيد الفطر وبدء العمل بالتوقيت الصيفي عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025