صُدم كثيرٌ من الشعوب العربية بالدعم الغربى المطلق للكيان الغاصب على قاعدة «انصر حليفك ظالمًا وليس مظلومًا»، فبعد أن هدأ الطوفان المدمر هرول الحجاج الغربيون الواحد تلو الآخر صاغرين إلى كعبة نظام الفصل العنصرى والتطهير العرقى لكى ينالوا البركة والرضا السامى، كبار القوم يقدمون قرابين الطاعة على مذبح الهيكل المزعوم من ترسانة أسلحة نوعية فتاكة ومنح مالية سخية ودعم سياسى لا محدود ودعاية إعلامية تغسل عقول مجتمعاتهم، بالإضافة إلى إرهاب وملاحقة وتدمير لكل الأصوات العالمية الخجولة التى قد تدعم حقوق المظلومين، فكل ذلك الزخم العبثى الرهيب يطرح سؤالاً بديهياً مشروعاً لماذا كل هذا الانحياز الغربى المفضوح لدولة فاشية عنصرية تمارس كل أشكال العنف السادى ضد شعب أعزل.
لا شك إن إسرائيل هى هبة الغرب الاستعمارى فلولا الدعم المباشر لم يكن لها أن توجد على الخريطة أصلًا، أو حتى تستمر على قيد الحياة طيلة سبعة عقود فهناك ثمة خلفيات دينية وثقافية وجيوسياسية واقتصادية لانحياز الغرب لربيبتهم المدللة.
فمن الناحية الدينية يؤمن أتباع العقائد البروتستانتية التنبُّؤية بضرورة تجمع الشتات اليهودى فى فلسطين تحديدًا تحقيقاً لنبوة حزقيال 37، ببناء الهيكل من جديد وتقسيم أرض الميعاد حسب أسباطهم الاثنى عشر، إلى أن يأتى المسيح، حينها سيؤمن اليهود به وأخيراً تبشر إسرائيل بالإنجيل للأمم كما يقول أشعياء 66: 19 «وَأَجْعَلُ فِيهِمْ آيَةً، وَأُرْسِلُ مِنْهُمْ نَاجِينَ إِلَى الأُمَمِ، إِلَى تَرْشِيشَ وَفُولَ وَلُودَ النَّازِعِينَ فِى الْقَوْسِ، إِلَى تُوبَالَ وَيَاوَانَ، إِلَى الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ الَّتِى لَمْ تَسْمَعْ خَبَرِى وَلاَ رَأَتْ مَجْدِى، فَيُخْبِرُونَ بِمَجْدِى بَيْنَ الأُمَمِ».
فقد حول المتشدد جورج لويد، رئيس وزراء بريطانيا النص الإنجيلى إلى واقع سياسى ملموس عندما أمر وزير خارجيته أرثر بلفور بتقديم وعد والتزام بإنشاء وطن قومى لليهود على أرض فلسطين. وهناك أيضاً سبب سيكولوجى وهو الشعور بعقدة الذنب بسبب محرقة الهولوكوست التى تم استغلال فظائعها أيما استغلال بالإضافة الى تجلى الوحدة العضوية فى تشابه المنظومة القيمية بينهما فى نظام الحكم الليبرالى والاقتصاد الحر وجموح الحريات التقدمية والتى تنعكس على وضع المرأة والأسرة، وهو ما يخلق تجانساً شعورياً بينهما كذلك فإن الاستثمار اليهودى الذكى فى دوائر المال والأعلام والتشريع يجعلهم رقماً صعباً فى معادلة اتخاذ القرار السياسى وهو ما يفسر ردود عواصم القرار تجاه أحداث غزة المأساوية، فقد سقطت ورقة التوت عن طنطنة حقوق الإنسان التى تستخدم فقط ضد خصومهم وانكشفت عورتهم بعدما ظهر وجههم الاستعمارى البغيض الذى يذكرنا بمذابح إبادة الهنود الحمر وجرائمهم العنصرية ضد الأفارقة.
فقد تنبأ شكسبير مبكرًا بما يحدث فى غزة من جرائم فى رائعته «تاجر البندقية»:
أرجوك تذكر أنك تناقش يهـودياً قد تتوجه إلى الشاطئ وتأمر أمواجه المرتفعة أن تخفض ارتفاعها، يمكنك أيضاً أن تسأل ذئباً لم جعل نعجة تبكى عند افتراسه لحملها
يمكنك فعل كل شىء صعب، لكنك لن تستطيع جعل قلب اليـهودى يلين.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الشعوب العربية
إقرأ أيضاً:
مصير مشترك
لفتني فـي الأيام الأخيرة تداول منشور لأحد الكتاب الخليجيين عن حصرية الاهتمام بالعنف الذي خلفه النظام البائد فـي سوريا، وقراءة ملف السجون الذي يجعلنا نفكر فـي سوريا كما لو أنها رواية ديستوبية لولا أننا قرأنا منذ زمن أدب السجون القادم من سوريا بشكل خاص، كرواية «القوقعة» لمصطفى خليفة مثلا، ومن العالم العربي بشكل عام كرواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون.
لكنني أعتقد بأننا نقع فـي خطأ كبير إذا ما أردنا القول إننا معزولون عن النقاش الذي بدأته النخب السورية فـي اليوم التالي لسقوط النظام، التي تمثل أطيافا مختلفة فـي المجتمع السوري بتعدديته الكبيرة.
أرى أنه من الصائب علينا بصفتنا مثقفـين فـي الخليج أن نشتبك مع تلك الأطروحات وأن نشعر بمسؤوليتنا تجاهها، مسؤولية قادمة من مصيرنا المشترك أولا، ومن رغبتنا فـي أن تتحقق العدالة والسلام لكل إنسان ثانيا.
أحاول هنا ومن خلال هذه المقالة أن أوثق الموقع الذي أقف فـيه كمثقفة إزاء ما يحدث من نقاشات فـي سوريا، عسى أن يدفع ذلك لمزيد من الأطروحات التي تُقيم موقعنا والمسافة التي نقف عليها تجاه التحولات هناك.
انتبهت بشكل خاص للجدل الذي يدور حول علمانية النظام البائد، الأمر الذي يجعل العلمانية نموذجا مجربا فـي الحالة السورية، وهو ما ناقشه العديد من المثقفـين السوريين فـي الأيام السابقة، إما بتفكيك العلاقة بين الديكتاتورية والعلمانية، أو بالرغبة الجامحة نحو إلصاق صفة العلمانية على النظام السابق، التي رأى كثير منهم أن من يقف وراءها هم الإسلاميون الذين يحاولون نزع أي علمنة للدستور السوري، الذي لا يمكن إلا أن يكون مُعلمنًا بالنظر لطوائف ومكونات سوريا، ويكتب الكاتب السوري دارا عبدالله حول هذه المسألة: «أكيد، الأسديّة كتفكير وفكر ومخيال سياسي، يجب أن تُجرّم قانونيًا، الأسديّة كتأييد للإبادة السياسية واستملاك الشعب حتى بأطفاله، والإذابة بالحمض، التظاهر يجب أن يكون ممنوعًا لأي مؤيّد للنزعة الأسدية، الأسدية شرّ مطلق، لا خلاف أبدًا، يجب إبعاد مفهوم العلمانيّة من هذا النقاش فورًا»، وفـي سياق متصل يكتب «الربط بين العلمانية والأسدية خبيث، وغايته إدانة الأولى، أكثر بكثير من التذكير بالثانية».
أتذكر فـي هذا الصدد كتابة مهمة لواحد من أهم الكتاب السوريين بل والعرب أيضا «ياسين الحاج صالح» الذي ناقش وبشكل موسع فـي العديد من أطروحاته مسألة علمانية الدولة السورية، وموقف الإسلاميين منها، وكان قد نبه إلى أن الإسلاميين وحدهم كانوا الأكثر انضباطًا وكفاءة فـي مواجهة النظام السابق عسكريًا، وهو ما جعل الجميع يلتف حولهم لأنهم يحققون للسوريين هدفهم الأساسي وهو إسقاط النظام، بغض النظر عن اتفاقهم أيديولوجيًا مع الجبهات التي مثلت الإسلاميين خلال الأربع عشرة سنة الماضية، وكان قد كتب ملاحظة مهمة جدًا يمكن أن تُقرأ فـي سياقات عربية أخرى لا تخص الحالة السورية وحدها حين قال: «لا نستطيع أن نرحب بفاعلية النصرة القتالية ضد النظام ونعمى عن تكوينها وتفكيرها، ولا أن نثبِّت أنظارنا على التكوين والتفكير، ونغفل عن الدور المهم فـي مقاومة نظام مستمر منذ أعوام فـي قتل السوريين دون توقف، يركز بعضنا على أحد الوجهين دون الآخر، فـيتعذر بناء سياسة عامة فعالة»، ويخلص إلى أهمية وجود سد اجتماعي منيع، واستعداد حقيقي من قبل جماعات المجتمع المدني للتصدي لما يمكن أن يعيد سوريا إلى بلاد الصوت الواحد حصرًا، وهو ما يحدث بالفعل هذه الأيام من انخراط تام والتزام حقيقي من قبل الجميع، كما نشعر -كمتابعين- بالشأن العام، ومناقشة كل ما يتعلق بالوضع الراهن.
إحدى النقاط التي أثيرت وبشكل ملحّ، هي تسمية أتباع النظام السابق بـ«الفلول»، وهو مصطلح جرى استخدامه فـي سياقات عربية أخرى بعد الربيع العربي، ومشكلته تكمن فـي سعته وعدم القدرة على تحديد مفهومه ومعاييره، الأمر الذي يعني أن كل من يقف أو سيقف ضد النظام الجديد، هو بالضرورة تابع للنظام السابق «فلول»، وعادة ما تسعى الأنظمة الاستبدادية الجديدة إلى إيجاد نوع من «المنطق العام» كما يسميه الكاتب السوري ياسين السويحة، الذي يجعل أي من يخالفه «فلولًا»، وهذا ما لا يريده السوريون بطبيعة الحال لدولتهم التي حلموا بها؛ لا يريدون نظامًا يقمع من يفكر بعيدًا عن المنطق العام، أو يُسكته، واستخدام كلمة الفلول تمنح شرعية بهذا المعنى لهذا القمع الذي يحاول تغليب المنطق العام للسلطة على أي رأي آخر، يكتب السويحة: «فلول»، وهذا حصل عند غيرنا، ستصير بهذا المعنى إشارة لطرائق حياة «غير نمطية» وتُستخدم أداة من أدوات الضبط الاجتماعي التي لا أفهم لماذا يجب أن نسهم فـي بنائها.